الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأقوال الضعيفة، وبمثل ذلك صار يلقي الفتنة بين مذاهب أهل السنة حتى يدعوهم إلى الخروج عن السنة والجماعة، ويوقعهم في مذاهب الرافضة وأهل الإلحاد. واللَّه أعلم. (1)
الوجه الثاني: هل نص الشافعي رحمه الله على هذا الحكم في البنت من الصلب
؟
والجواب على ذلك يظهر من إيراد الشافعي رحمه الله لهذه المسألة حيث أوردها في المحرمات بالرضاع، ولم يشر إليها مجرد إشارة في الحديث عن المحرمات من النسب، ولم يستثنها من البنت المذكورة في كتاب اللَّه -تعالى-، وبعد قراءة نص كلامه رحمه الله يظهر وجه المسألة إن شاء اللَّه -تعالى-، وهذه كلامه تحت عنوان:
الدليل الأول للشافعية: في لبن الرجل والمرأة قال:
. . .
واللبن إذا كان من حمل ولا أحسبه يكون إلا من حمل، فاللبن للرجل وللمرأة، كما يكون الولد للرجل والمرأة، فانظر إلى المرأة، فإن كان لبنها نزل بولد من رجل؛ نُسِبَ ذلك الولد إلى والد لأن حمله من الرجل، فإن رضع به مولود فالمولود أو المرضع بذلك اللبن ابن الرجل الذي الابن ابنه من النسب، كما يثبت للمرأة، وكما يثبت الولد منها ومنه، . . .، وإن كان اللبن الذي أرضعت به المولود لبن ولد لا يثبت نسبه من الرجل الذي الحمل منه فأسقط اللبن فلا يكون المرضع ابن الذي الحمل منه إذا سقط النسب الذي هو أكثر منه سقط اللبن الذي أقيم مقام النسب في التحريم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب"، فإن ولدت امرأة حملت من الزنا اعترف الذي زنا بها أو لم يعترف؛ فأرضعت مولودًا فهو ابنها، ولا يكون ابن الذي زنا بها، وأكره له في الورع أن ينكح بنات الذي ولد له من الزنا كما أكرهه للمولود من زنا، وإن نكح من بناته لم أفسخه لأنه ليس بابنه في حكم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإن قال قائل: فهل من حجة فيما وصفت؟
(1) مجموع الفتاوي (18/ 127، 32/ 137، 138، 139، 142).
قيل لهم: قضى النبي صلى الله عليه وسلم بابن أمة زمعة لزمعة، وأمر سودة أن تحتجب منه لما رأى من شبهه بعتبة فلم يرها، وقد قضى أنه أخوها حتى لقيت اللَّه عز وجل. لأن ترك رؤيتها مباح وإن كان أخًا لها، وإنما منعني من فسخه أنه ليس بابنه إذا كان من زنا. (1)
قلت: وبعد النظر في كلام الشافعي يتبين الآتي:
1 -
أن المسألة التي أوردها في الرضاع ليست في الصُّلب، ويتأيد هذا بما نقله ابن تيمية رحمه الله عن بعض الشافعية من أنهم أنكروا أن يكون الشافعي قد صرح بذلك إلا في مسألة الرضاع (أي الناتج عن حمل من زنا).
2 -
ثم إنه قال: وأكره له في الورع أن ينكح بنات الذي ولد له من زنا كما أكرهه للمولود من زنا، وإن نكح من بناته لم أفسخه لأنه ليس بابنه في حكم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وفي هذه الفقرة ما يلي:
أ- أن قوله أكره له في الورع أن ينكح بنات الذي ولد له من زنا، ليس صريحا في أنهما بنته من الزنا، إنما قال بنات الذي ولد له أي بنات المرأة التي زنا بها، وهذا يمكن أن يراد به نجاتها غير هذه البنت، وهذا موضوع آخر يدخل في التحريم بالمصاهرة، وليس في التحريم بالنسب، وهو مبني على أنه: هل الزنا يقوم في التحريم مقام النكاح أم لا؟ والشافعي يرى أنه لا يقوم مقامه، وهذه هي نفس المسألة التي أوردها هناك في التحريم بالمصاهرة، فأوردها هنا في المحرمات بالرضاع على اعتبار أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب؛ فإذا كان الزنا بالأم لا يحرم البنت، فالزنا بالأم من الرضاع لا يحرم بنتها من الرضاع من باب أولى وهذا هو الظاهر من كلام الشافعي رحمه الله، وعلى هذا فإن كلام الشافعي يحتمل بنات المزني بها من غيره رضاعًا، ويحتمل بنتها منه، أو سياق كلامه وبقية كلام
(1) الأم (5/ 41، 42)، والحديث أخرجه البخاري (1218)، والنسائي عن عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنهما، وفيه زيادة قوله صلى الله عليه وسلم لسودة:"واحتجبي منه يا سودة فليس لك بأخ" قال الحافظ: إسناده حسن. ولم تصح هذه الزيادة عند الخطابي والنووي (فتح الباري 12/ 37).
العلماء يؤيد الأول، فلماذا يحمل على الثاني من غير مرجع.
ب - كما أكرهه للمولود من زنا، وإن نكح من بناته لم أفسخه لأنه ليس بابنه في حكم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم معناه أنه يكره للمولود من زنا أن ينكح البنات اللاتي رضعن بلبن الزاني المترتب على الزنا؛ لأنه ليس ابنًا له، وبالتالي فهن لسن أخوات له، ولذلك لا يفسخ، فأين التصريح في كلام الشافعي أن الزاني ينكح ابنته من الزنا؟ ! فالكلام في هذه الفقرة لا ذكر فيه للزاني، وإنما الضمير يعود في قوله: وإن نكح من بناته. . . إلخ يعود على المولود من الزنى لأنه أقرب مذكور وهو المولود من الزنى، ومما يؤكد هذا أنه وإن نكح من بناته، فهذا لا يمكن أن يكون المراد به الزاني نفسه لاحتمال أن يكون له بنات من غير الزنى، والكلمة عامة، فهل يقال: إن الشافعي يجيز للزاني أن ينكح بناته من غير الزنا! وهذا حينئذ من أعجب العجب، ومن خلال هذا الذي مَرَّ يتبين قوة نظر من قال من الشافعية إنه لم ينص على البنت الصلبية؛ إنما نص على البنت من الرضاع، أي من الزنا، على النحو الذي مَرَّ، هاذا كان هذا؛ فإن هذه المسألة ينبغي أن لا تنسب إلى الشافعي، وإنما تنسب إلى الشافعية القائلين بذلك، ومما يدل على هذا إنكار أحمد أن يكون في المسألة خلافٌ، وهو معاصره وتلميذ للشافعي.
وأما الحديث الذي استدل به الشافعي من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الغلام الذي ولد على فراش سودة وهو يشبه عتبة بن أبي وقاص: "هولك يا عبدُ بن زمعة، الولد للفراش، وللعاهر الحجر"، ثم قال لسودة:"احتجبي منه لما رأى من شبهه بعتبة فما رآها حتى لقي اللَّه"(1).
فقد يستدل به على أن لوطء الزنا حكم وطء الحلال في حرمة المصاهرة، وهو قول الجمهور، ووجه الدلالة أمر سودة بالاحتجاب بعد الحكم بأنه أخوها لأجل الشبهة بالزاني، وصحح ذلك الحافظ في الفتح. (2)
وقال ابن القيم: نص الشافعي على كراهة تزوج الرجل بنته من ماء الزنا، ولم يقل فقط
(1) البخاري (6749).
(2)
فتح الباري (12/ 39).
إنه مباح ولا جائز والذي يليق بجلالته وإمامته ومنصبه الذي أحله اللَّه به من الدين أن هذه الكراهة منه على وجه التحريم، وأطلق لفظ الكراهة لأن الحرام يكرهه اللَّه ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقد قال اللَّه -تعالى- عقب ذكر ما حرمه من المحرمات من عند قوله:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} (الإسراء: 23 - 31)، ثم قال {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} ، وفي الصحيح "أن اللَّه عز وجل كره لكم قيل، وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال"(1)، فالسلف كانوا يستعملون الكراهة في معناها الذي استعملت فيه في كلام اللَّه ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن المتأخرين اصطلحوا على تخصيص الكراهة بما ليس بمحرم وتركه أرجح من فعله، ثم حمل من حمل منهم كلام الأئمة على الاصطلاح الحادث؛ فغلط في ذلك، وأقبح غلطًا منه من حمل لفظ الكراهة أو لفظ لا ينبغي في كلام اللَّه ورسوله على المعنى الاصطلاحي الحادث. اهـ. (2)
وقال الألباني: ولهذا نقول لقد أخطأ من نسب إلى الشافعي القول بإباحة تزوج الرجل بنته من الزنى بحجة أنه صرح بكراهة ذلك، والكراهة لا تنافي الجواز إذا كانت للتنزيه، ثم
(1) رواه البخاري (1407)، ومسلم (4578).
(2)
إعلام الموقعين (1/ 42).
نقل كلام ابن القيم السابق ذكره. (1)
ونحو ما سبق فيما نسب إلى الشافعي يقال فيما نسب إلى مالك، وهو أوضح.
قال ابن رشد: والرضاع يحرم بين المسلمين والمسلمات، الحرائر والإماء، الأحياء والأموات، من قبل الأم ومن قبل الفحل؛ إن كان الوطء حلالًا أو بوجه شبهة يلحق به الولد، واختلفوا إن كان الوطء حرامًا لا شبهة فيه كوطء الزنا، ومن تزوج من لا تحل له وهو عالم هل تقع الحرمة به من قبل الفحل أم لا؟ على قولين: فكان مالك رحمه الله يرى أن كل وطء لا يلحق به الولد فلا يحرم بلبنه يريد من قبل فحله، ثم رجع إلى أنه يحرم، وإلى هذا ذهب سُحْنون، وقال: ما علمت من قال من أصحابه إنه لا يحرم إلا عبد الملك، وهو خطأ صراح، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم سودة أن تحتجب من ولد ألحقه بأبيها لما رأى من شبهه بعتبة.
قال ابن المواز: إذا أرضعت بلبن الزنا صبيًا فهو لها ابن ولا يكون ابنًا للذي زنا بها، ولو كانت صبية فتزوجها الذي زنا بها لم أقض بفسخ نكاحه، وأحب إلى أن يتجنبه من غير تحريم، وأما ابنته من الزنا فلا يتزوجها. اهـ. (2)
وبهذا يتبين ما يلي:
1 -
أن هذه هي عين المسألة التي تكلم فيها الشافعي، والتي نسب إليه وإلى مالك فيها القول بإباحة نكاح البنت من الزنا.
2 -
أن المسألة في الرضاع وليس في البنت الصلبية كما مر بيانه.
3 -
أن الراجح أنها (البنت من الرضاع) تحرم عند مالك رحمه الله.
4 -
وبهذا يتبين بطلان نسبة هذا القول إلى الشافعي ومالك.
5 -
من هنا يتضح وجهة أحمد رحمه الله في إنكاره أن في المسألة خلاف.
6 -
إن هذا الخلاف حدث بعد إجماع سبق، ولهذا فلا عبرة به كما يتضح ذلك من نقل ابن تيمية فيما مَرَّ.
(1) تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد (1/ 44).
(2)
المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته المدونة من الأحكام المطبوعة من المدونة (5/ 314).
وقد استدل جمهور العلماء على تحريم المخلوقة من ماء الزنى عليه بعموم قوله تعالى:
{وَبَنَاتُكُمْ} فإنها بنت فتدخل في العموم كما هو مذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل، وقد حكي عن الشافعي شيء في إباحتها لأنها ليست بنتًا شرعية، فكما لم تدخل في قوله تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (النساء: 11)؛ فإنها لا ترث بالإجماع، فكذلك لا تدخل في هذه الآية، واللَّه أعلم (1).
قلت: فهذا ابن كثير يؤخر قول الشافعي -مع أنه من أصحاب الشافعي- ويحكيه بصيغة التمريض (حكى) ولو كان كلام الشافعي في الأم في عين هذه المسألة لما خفي موضعه على ابن كثير، ولنسبه إليه بدلًا من قوله وحُكِيَ شيءٌ، واللَّه أعلم.
ومما يدل على هذا قول الشافعي نفسه في تعريف البنت المحرمة:
(1) تفسير ابن كثير (1/ 623).