الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سبيل التشبيه، فجعل فرج المرأة كالأرض، والنطفة كالبذر، والولد كالزرع. (1)
قال محمد رشيد رضا: فهو يقول أنه لم يأمر بإتيان النساء الأمر التكويني بما أودع في فطرة كل من الزوجين من الميل إلى الآخر، والأمر التشريعي بما جعل الزواج من أمر الدين وأسباب المثوبة والقربة إلا لأجل حفظ النوع البشري بالاستيلاد كما يحفظ النبات بالحرث والزرع، فلا تجعلوا استلذاذ المباشرة مقصودًا فتأتوا النساء في المحيض حيث لاستعداد لقبول زراعة الولد وعلى ما في ذلك من الأذى، وهذا يتضمن النهي عن إتيانهن في غير المأتى الذي يتحقق به معنى الحرث. (2)
الوجه الثاني: الآية {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} . فيها دليل على حرمة الوطء في الدبر كما في كلمة أنى شئتم:
قال الطبري: معنى قوله: {أَنَّى شِئْتُمْ} أي من أي وجه شئتم؛ وذلك أن (أَنَّى) في كلام العرب كلمة تدل إذا ابتدئ بها في الكلام عن المسألة عن الوجوه والمذاهب فكأن القائل إذا قال لرجل أنى لك هذا المال؟ يريد من أي الوجوه لك، ولذلك يجيب المجيب فيه بأنه يقول: من كذا وكذا، كما قال تعالى ذكره مخبرًا عن زكريا في مسألته مريم:{يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} (آل عمران: 37). وهي مقاربة أين وكيف في المعنى؛ ولذلك تداخلت معانيها فأشكلت (أَنَّى) على سامعها ومتأولها حتى تأولها بعضهم بمعنى أين، وبعضهم بمعنى كيف، وآخرون بمعنى متى، وهي مخالفة جميع ذلك في معناها وهن لها مخالفات؛ وذلك أن أين إنما هي حرف استفهام عن الأماكن والمحال، وإنما يستدل على افتراق معاني هذه الحروف بافتراق الأجوبة عنها. ألا ترى أن سائلًا لو سأل آخر فقال أين مالك؟ لقال بمكان كذا ولو قال له أين أخوك؟ لكان الجواب أن يقول ببلدة كذا أو بموضع كذا فيجيبه بالخبر عن محل ما مسألة عن محله؛ فيعلم أن أين مسأله عن المحل.
(1) فتح البيان في مقاصد القرآن (1/ 449).
(2)
تفسير المنار (2/ 362).
ولو قال قائل كيف أنت؟ لقال صالح، أو بخير، أو في عافية، وأخبره عن حاله التي هو فيها، فيعلم حينئذ أن كيف مسألة عن حال المسئول عن حاله، ولو قال له: أنى يحيى اللَّه هذا الميت؟ لكان الجواب أن يقال من وجه كذا ووجه كذا، فيصف قولًا نظير ما وصف اللَّه تعالى ذكره للذي قال:{يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} فعلًا حين بعثه اللَّه بعد مماته؛ ولذلك فرقت الشعراء بين ذلك في أشعارها فقال الكميت بن زيد:
تذكر من أنى ومن أين شربة
…
يؤامر نفسيه كذي الهجمة الأبل
فيجاء بـ "أنّى" للمسألة عن الوجوه، وبـ " أين" للمسألة عن المكان؛ فكأنه قال: من أي وجه ومن أي موضع راجعك الطرب؟ والذي يدل على فساد قول من تأول قول اللَّه تعالى ذكره: {حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} بـ "كيف شئتم"، أو تأوله بمعنى"حيث شئتم"، أو تأوله بمعنى "متى شئتم". أن قائلًا لو قال للآخر: أنى تأتي أهلك؟ لكان الجواب أن يقول: من قبلها أو من دبرها. وإذا كان هذا هو الجواب فمعلوم أن معنى قول اللَّه تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} : إنما هو: فأتوا حرثكم من حيث شئتم من وجوه المأتى.
وأن ماعدا ذلك من التأويلات فليس للآية بتأويل، وإذا كان ذلك هو الصحيح؛ فيتبين خطأ قول من زعم أن قوله:{فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} دليل على إباحة إتيان النساء في أدبارهن. (1)
قال الطحاوي: ثم رجعنا على تأويل قول اللَّه عز وجل {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} : فوجدنا الحرث إنما يطلب منه النسل، وكان النسل موجودًا في الوطء في الفرج ومعدومًا في الوطء في غيره؛ فدلّ أن المراد فيها هو ما أبيح منها مما يكون عنه النسل لاما لا يكون عنه النسل، وهكذا كان الفقهاء الكوفيون جميعًا يذهبون إليه في هذا الباب. (2)
(1) تفسير الطبري (2/ 397 - 398)، والبيت أنشده صاحب التاج في أبل، ونسبه إلى الكميت. يؤامر نفسه: يشاورها. والهجمة: عدد من الإبل قريب من المائة. والأبل: بكسر الباء، اسم فاعل من أبل كفرح: إذا أحسن رعية الإبل والقيام عليها.
(2)
مشكل الآثار للطحاوي (3/ 608).