الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والإنساني الذي انفرد به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. (1)
الوجه الثالث: لو فرض أن النبي صلى الله عليه وسلم عدد لقضاء الوطر؛ لم يكن في ذلك قصورًا في مقام النبوة
.
وهذه فتوى للشيخ الفاضل ابن عثيمين رحمة اللَّه عليه عن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم:
سئل رحمه الله عمن قال: إن تزوج النبي صلى الله عليه وسلم كان لغرضين: أحدهما: مصلحة الدعوة، والثاني: التمشي مع ما فطره اللَّه عليه من التمتع بما أحل اللَّه له؟
فأجاب بقوله:
من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر أكرمه اللَّه تعالى بالنبوة والرسالة إلى الناس كافة، وأن اتصافه بما تقتضيه الطبيعة البشرية من الأكل، والشرب، والنوم، والبول، والغائط ومدافعة البرد، والحر، والعدو، ومن التمتع بالنكاح، وأطايب المأكول والمشروب وغيرها من مقتضيات الطبيعة البشرية لا يقدح في نبوته ورسالته، بل قد قال اللَّه له:{قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} (الأنعام: 55)، وقال هو عن نفسه:"إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون".
وانتفاء علم الغيب وطرو النسيان على العلم قصور في مرتبة العلم من حيث هو علم، لكن لما كان من طبيعة البشر الذي خلقه اللَّه ضعيفًا في جميع أموره، لم يكن ذلك قصورًا في مقام النبوة ونقصًا في حق النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ريب أن شهوة النكاح من طبيعة الإنسان، فكمالها فيه من كمال طبيعته، وقوتها فيه تدل على سلامة البنية واستقامة الطبيعة، ولهذا ثبت في صحيح البخاري من حديث أنس ابن مالك رضي الله عنه قال "كنا نتحدث أنه يعني النبي صلى الله عليه وسلم أعطى قوة ثلاثين" يعني على النساء، وهذا واللَّه أعلم ليتمكن من إدراك ما أحل اللَّه منهن بلا حصر ولا مهر ولا ولي فيقوم بحقوقهن، ويحصل بكثرتهن ما حصل من المصالح
(1) روائع البيان للصابوني 2/ 318، وتنزيه سيد الأنبياء عن مطاعن السفهاء (24)، وانظر تعدد زوجات الأنبياء للواء أحمد عبد الوهاب رحمه الله.
العظيمة الخاصة بهن والعامة للأمة جميعًا، ولولا هذه القوة التي أمده اللَّه بها ما كان يدرك أن يتزوج بكل هذا العدد، أو يقوم بحقهن من الإحصان والعشرة.
ولو فرض أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة لمجرد قضاء الوطر من الشهوة والتمشي مع ما تقتضيه الفطرة بل الطبيعة لم يكن في ذلك قصور في مقام النبوة، ولا نقص في حقه صلى الله عليه وسلم كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم:"تنكح المرأة لأربع: مالها، وحسبها، وجمالها، ودينها، فاظفر بذات الدين"، بل قد قال اللَّه له:{لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} (الأحزاب: 52).
لكننا لا نعلم حتى الآن أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة لمجرد قضاء الوطر من الشهوة، ولو كان كذلك لاختار الأبكار الباهرات جمالًا، الشابات سنًا، كما قال لجابر رضي الله عنه حين أخبره أنه تزوج ثيبًا، قال:"فهلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك"؟ وفي رواية "تضاحكها وتضاحكك" وفي رواية "مالك وللعذارى ولعابها"، رواه البخاري، وإنما كان زواجه صلى الله عليه وسلم إما تأليفًا، أو تشريفًا، أو جبرًا، أو مكافأة، أو غير ذلك من المقاصد العظيمة، وقد أجملها في فتح الباري (9/ 115) حيث قال: "والذي تحصل من كلام أهل العلم في الحكمة في استكثاره من النساء عشرة أوجه:
1 -
أن يكثر من يشاهد أحواله الباطنة فينتفي عنه ما يظن به المشركون من أنه ساحر أو غير ذلك.
2 -
لتتشرف به قبائل العرب بمصاهرته فيهم.
3 -
الزيادة في تألفهم لذلك.
4 -
الزيادة في التكليف حيث كلف أن لا يشغله ما حبب إليه منهن عن المبالغة في التبليغ.
5 -
لتكثر عشيرته من جهة نسائه فتزداد أعوانه على من يحاربه.
6 -
نقل الأحكام الشرعية التي لا يطلع عليها الرجال، لأن أكثر ما يقع مع الزوجة مما شأنه أن يختفي مثله.
7 -
الاطلاع على محاسن أخلاقه الباطنة، فقد تزوج أم حبيبه وأبوها يعاديه، وصفية بعد قتل أبيها وعمها وزوجها، فلو لم يكن أكمل الخلق في خلقه لنفرن منه، بل الذي وقع أنه كان أحب إليهن من جميع أهلهن.
8 -
خرق العادة له في كثرة الجماع مع التقليل من المأكول والمشروب وكثرة الصيام والوصال، وقد أمر من لم يقدر على مؤن النكاح بالصوم، وأشار أن كثرته تكثر شهوته، فانخرقت هذه العادة في حقه صلى الله عليه وسلم.
9، 10 - ما تقدم عن صاحب الشفاء من تحصينهن والقيام بحقوقهن. اهـ
وقد أضاف ابن العثيمين خمسة أوجه وهي:
11 -
وهو إظهار كمال عدله في معاملتهن لتتأسى به الأمة في ذلك.
12 -
كثرة انتشار الشريعة فإن انتشارَها من عدد؛ أكثرُ من انتشارها من واحدة.
13 -
جبر قلب من فات شرفها كما في صفيه بنت حيي وجويرية بنت الحارث سيد بني المصطلق.
14 -
تقرير الحكم الشرعي وانتشال العقيدة الفاسدة التي رسخت في قلوب الناس من منع التزوج بزوجة ابن التبني، كما في قصة زينب فإن اقتناع الناس بالفعل أبلغ من اقتناعهم بالقول، وانظر اقتناع الناس بحلق النبي صلى الله عليه وسلم رأسه في الحديبية ومبادرتهم بذلك حين حلق بعد أن تباطؤوا في الحلق مع أمره لهم به.
15 -
التأليف وتقوية الصلة كما في أمر عائشة وحفصة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم شد صلته بخلفائه الأربعة عن طريق المصاهرة، مع ما لبعضهم من القرابة الخاصة فتزوج ابنتي أبي بكر وعمر، وزوج بناته الثلاث بعثمان وعلي رضي اللَّه عن الجميع، فسبحان من وهب نبيه صلى الله عليه وسلم هذه الحكم وأمده بما يحققها قدرًا وشرعًا، فأعطاه قوة الثلاثين رجلًا، وأحل له ما شاء من النساء يرجي من يشاء منهن، ويؤوي إليه من يشاء وهو سبحانه الحكيم العليم.
وأما عن تزوجه بالواهبة نفسها، فلا يدل على أنه تزوج من سواها لجرد الشهوة وقضاء وطر النكاح، وأما ابنة الجون فلم يعدل عن تزوجه بل دخل عليها وخلا بها،
ولكنها استعاذت باللَّه منه فتركها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "لقد عذت بعظيم فالحقي بأهلك" ولكن هل تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم لمجرد جمالها وقضاء وطر النكاح أو لأمر آخر؟ إن كان لأمر آخر سقط الاستدلال به على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتزوج لمجرد قضاء الوطر، وإن كان لأجل قضاء الوطر فإن حكمة اللَّه تعالى أن حال بينه وبين هذه المرأة بسبب استعاذتها منه.
وأما سودة رضي الله عنها فقد خافت أن يطلقها النبي صلى الله عليه وسلم لكبر سنها فوهبت يومها لعائشة، وخوفها منه لا يلزم منه أن يكون قد هم به، وأما ما روي أنه طلقها بالفعل فضعيف لإرساله.
وأما زواجه صلى الله عليه وسلم بزينب فليس لجمالها بل هو لإزالة عقيدة سائدة بين العرب، وهي امتناع الرجل من تزوج مفارقَةِ من تبناه فأبطل اللَّه التبني، وأبطل الأحكام المترتبة عليه عند العرب، ولما كانت تلك العقيدة السائدة راسخة في نفوس العرب كان تأثير القول في اقتلاعها بطيئًا، وتأثير الفعل فيها أسرع، فقيض اللَّه سبحانه بحكمته البالغة أن يقع من النبي صلى الله عليه وسلم في تزوجه بمفارقة مولاه زيد بن حارثة الذي كان تبناه من قبل ليطمئن المسلمون إلى ذلك الحكم الإلهي ولا يكون في قلوبهم حرج منه، وقد أشار اللَّه تعالى إلى هذه الحكمة بقوله تعالى:{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)} .
ثم تأمل قوله تعالى: {زَوَّجْنَاكَهَا} فإنه يشعر بأن تزويجها إياه لم يكن عن طلب منه أو تشوف إليها، وإنما هو قضاء من اللَّه لتقرير الحكم الشرعي وترسيخه وعدم الحرج منه وبهذا يعرف بطلان ما يروي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى زيدًا ذات يوم لحاجة فرأى زينب فوقعت في نفسه وأعجبه حسنها فقال: "سبحان اللَّه مقلب القلوب" فأخبرت زينب زيدًا بذلك ففطن له فكرهها وطلقها بعد مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} (الأحزاب: 37) فهذا الأثر باطل مناقض لما ذكر اللَّه تعالى من الحكمة في تزويجها إياه، وقد أعرض عنه ابن كثير رحمه الله فلم يذكره، وقال: أحببنا أن نضرب عنها أي عن الآثار