الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم إن هذا المدعي لو أنه قرأ كلام ابن حزم كاملًا لأراح نفسه وأراحنا، ولذا فإني أسأله: إذا كنت تحتج علينا بنقل ابن حزم، فلماذا لا تأخذه كله؟ أم أنك تحتج علينا بما نقل عن أبي حنيفة في مسألة غير مسألتك التي تتحدث فيها، وقد ردها عليه علماء الإسلام، فماذا بقي لك؟
الوجه الرابع: لماذا انتقى صاحب الشبهة هذه العبارة من كتاب ابن حزم ليشنع بها وقد أوردها ابن حزم للرد عليها. وها هو شيء من كلام ابن حزم على هذه المسألة:
فقال: قالت طائفة: من تزوج أمه أو بنته أو حريمته، أو زنى بواحدة منهن فكل ذلك سواء وهو كله زنى، والزواج كله زواج. . . إذا كان عالمًا بالتحريم وعليه حد الزنى كاملًا، ولا يلحق الولد في العقد، وهو قول: الحسن، ومالك، والشافعي، وأبي ثور، وأبي يوسف ومحمد بن الحسن؛ صاحبي أبي حنيفة، وقال أبو حنيفة: لا حدَّ عليه في ذلك كله، ولا حدَّ على من تزوج أمه التي ولدته وابنته وأخته وجدته وعمته وخالته وبنت أخيه وبنت أخته عالمًا بقرابتهن منه عالمًا بتحريمهن عليه ووطئهن كلهن فالولد لاحِقٌ به والمهر واجب عليه، وليس عليه إلا التعزير دون الأربعين فقط، وهو قول سفيان الثوري، فأما وطئهن بغير عقد نكاح فهو زنى عليه ما على الزاني من الحد.
وساق حجة أبي حنيفة وهي: أنه يفرق بين الزواج والزنى فلو قيل: زنى بأمه فعليه ما على الزاني، ولو قيل: تزوج أمه فالزواج غير الزنى فلا حد في ذلك؛ وإنما هو نكاح فاسد فحكمه حكم النكاح الفاسد من سقوط الحد وإلحاق الولد ووجوب المهر، وما نعلم لهم تمويهًا غير هذا، وهو كلام فاسد، واحتجاج فاسد، وعمل غير صالح.
وأما قوله: إن اسم الزنا غير اسم الزواج، فحق لا شك فيه إلا أن الزواج هو الذي أمر اللَّه به وأباحه، وهو الحلال الطيب والعمل المبارك، وأن كل عقد أو وطء لم يأمر اللَّه به ولا أباحه؛ بل نهى عنه فهو الباطل والحرام والمعصية والضلال، ومن سمى ذلك زواجًا فهو كاذبٌ آفكٌ متعدٍ، وليست التسمية في الشريعة إلينا ولا كرامة، إنما اللَّه تعالى قال:{إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (النجم: 23).
أما من سمى كل عقد فاسد ووطء فاسد وهو الزنى المحض زواجًا ليتوصل به إلى إباحة ما حرم اللَّه تعالى أو إلى إسقاط حدود اللَّه -تعالى-: فهو كمن سمي الخنزير كبشًا ليستحله بذلك الاسم، وكمن سمى الخمر نبيذًا أو طلاء ليستحلها بذلك الاسم، وكمن سمى البيعة والكنيسة مسجدًا، واليهودية إسلامًا، وهذا هو الانسلاخ من الإسلام ونقض عقد الشريعة، وليس في المحال أكثر من قول القائل: هذا نكاح فاسد وهذا ملك فاسد؛ لأن هذا كلام ينقض بعضه بعضًا، ولئن كان نكاحًا أو ملكًا فإنه لصحيح حلال؛ لأن اللَّه تعالى أحل الزواج والملك، وقال تعالى:{إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (المعارج: 30).
فما كان زواجًا أو ملك يمين فهو حلال طلق ومباح طيب ولا ملامة فيه ولا مأثم، وكل ما كان فيه اللوم والإثم فليس زواجًا ولا ملكًا مباحًا للوطء، ولا كرامة بل هو العدوان والزنى المجرد، لا شيء إلا فراش أو عهر حرام، فإن وجد لنا يومًا ما أن نقول: نكاح فاسد، أو زواج فاسد، أو ملك فاسد، فإنما هو حكاية أقوال لهم وكلام على معانيهم كما قال تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42)} (الشورى: 40).
ثم قال: فصح من هذا أن كل عقد لم يأمر اللَّه به؛ فمن عقده فهو باطل، وإن وطئ فيه؛ فإن كان عالمًا بالتحريم عالمًا بالسبب المحرم فهو زانٍ مطلق، ومن جهل التحريم في شيء من ذلك بأن لم تبلغه أو بتأويل لم تقم عليه الحجة في فساده؟ فهو معذور لا حد عليه، ومن قذفه فعليه الحد، كمن دخل بلدًا فتزوج من لا يعرفها فوجدها أمه أو ابنته، فهذا يلحق فيه الولد ولا يحد فيه حد بالإجماع وبهذا بطل قول أبي حنيفة المذكور.
ثم قال: فصح أن من وطئ من امرأة أبيه بعقد سماه نكاحًا أو بغير عقد كما جاءت ألفاظ الحديث المذكورة، فقتله واجب ولا بد، وتخميس ماله فرض، ويكون الباقي لورثته إن كان مسلمًا وللمسلمين إن كان ارتد.