الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما موقف التحمل فهو موقف استيثاق واحتياط؛ بدليل أن الآية الكريمة هنا تطلب الكتابة ثم تطلب الشهادة، وهي بهذا تُرشد إلى أفضل أنواع الاستيثاق الذي تطمئن به نفوس المتعاملين على حقوقهما.
فالمسألة ليست مسألة تقليل من شأن المرأة وعدم اعتراف بأهليتها، وليس في ذلك انتقاص لمكانتها، كما يزعم بذلك عشاق تشويه الإسلام، وإنما هو مجرد احتمال نسيان في أمور لا تهتم بها المرأة غالبًا، وهي خارجة عن طبيعتها، ولا تحرص على الاحتفاظ بها في ذاكرتها.
الوجه الثالث: لا عبرة للذكورة أو الأنوثة في أمر الشهادة
.
1 -
لو كانت الأنوثة والذكورة تلعبان دورًا في قيمة الشهادة ومدى شرعيتها، لسَمَت شهادة الرجل على شهادة المرأة في باب اللعان، أي: لكانت شهاداتها الأربع بقيمة شهادتين فقط من شهاداته، ولكن الواقع أنها متساويات.
وبيان ذلك أن الرجل إذا اتهم زوجته بالزنا كان عليه أن يدعم اتهامه بتقديم أربعة شهود ممن يعتد بشهادتهم وقد رأوا زوجته وهي تزني، فإذا عجز عن تقديم الشهود كان عليه أن يقسم أربع مرات بأنه صادق فيما يتهمها به. وهذه الأيمان تنزل في الشرع منزلة الشهادة.
وتعطي الزوجة التي تنكر هذه التهمة الفرصة ذاتها، فتقسم أربع مرات بأن زوجها كاذب فيما يتهمها به. ويتبين من ذلك أن أحدهما كاذب بالضرورة.
والثمرة الشرعية لهاتين الشهادتين المتكافئتين، أن يُقضى بالفصل بينهما فصلًا لا رجعة فيه، بعد أن يدعو الزوج على نفسه باللعن إن كان من الكاذبين، وتدعو الزوجة على نفسها بغضب اللَّه إن كان من الصادقين.
ومحل الشاهد في هذا: أن الأيمان الأربعة التي يؤديها كل منهما تنزل منزلة الشهادات الأربع التي تثبت أو تنفي جريمة الزنا. وقد جعل اللَّه قيمة الشهادات الأربع التي تثبت
الزنا، مكافئة لقيمة الشهادات الأربع التي تنكرها، وهو الأمر الذي يؤكد أن الأنوثة والذكورة بحد ذاتها لا مدخل لأي منهما في قيمة الشهادة. (1)
وإليك نصُ البيان الإلهي الذي يتضمن ذلك: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)} (النور: 6: 9).
2 -
لو كان وصف الذكورة، أو الأنوثة في أمر الشهادة من حيث التسامي برجولة الرجل والهبوط بأنوثة المرأة، لو كان الأمر كذلك لما كانت الأولوية لشهادة المرأة في أمور الرضاعة والحضانة والنسب وغيرها مما تقوم الصلة فيه مع النساء أكثر من الرجال؛ ولما كانت الأولوية لشهادة النساء في كل خصومة جرت بين النساء بعضهن مع البعض، أيًّا كان سببها.
والإسلام يريد الشهادة أن تكون ناصعة واضحة الجوانب مشرقة مثل الشمس، ولا عجب فالشهادة تستحل الدماء والأنفس، والأعراض والأموال؛ لذلك شدد الإسلام في الشهادة، واحتاط لأمرها.
وليس فيما عبر به القرآن الكريم عن ذلك، وضع للمرأة موضع المهانة والازدراء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى، حيث عبر اللَّه بنفس هذا التعبير عن حالة النبي صلى الله عليه وسلم، قبل البعثة حينما لم يكن وقد وصل بعد إلى عقيدة يطمئن معها. فقال له تعالى:{وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)} (الضحى: 7).
وكذلك اشترطت نفس الآية {شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (البقرة: 282)، وليس شهيدًا واحدًا لنفس العلة.
(1) العدالة في النظام الاجتماعي في الإسلام تأليف الدكتور محمد عبد الغني صـ 116.
وأيضًا إننا نستدل بما نؤمن به جميعًا، ومما نؤمن به قوله تعالى:{قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} (الأنعام: 19). وقد شهد تعالى بأنها قد تضل في الشهادة فتذكرها الأخرى، وليس بعد اللَّه من شهيد، {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} .
وأيضًا {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} (الملك: 14).
وأيضًا ليس معنى المفاضلة في أمر الشهادة أن الرجل أفضل عند اللَّه في الآخرة من المرأة، فقد تكون المرأة عند اللَّه في الآخرة أفضل من ألوف الرجال بعملها الصالح ودينها.
كما قدمنا ذلك في مبحث المساواة بين الرجل والمرأة، على أننا نخلص من هذا أن المراد بنقصان عقل المرأة في الحديث هو مخصوص بالشهادة، كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، ولا ينبغي أن نتجاوز ذلك، وأن نفهمه كما وضحه لنا ديننا الحنيف.
* * *