الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والحاصل: أن إيثار مترقب النقص دائمًا على مترقب الزيادة دائمًا لجبر بعض نقصه المترقب -حكمة ظاهرة واضحة، لا ينكرها إلا من أعمى اللَّه بصيرته بالكفر والمعاصي- عصمنا اللَّه منهما - فلا عبرة بما يردده الملاحدة الذين فسقوا عن أمر ربهم من شبهات حول هذا الحكم الرباني وأمثاله (1).
قاعدة الغرْمُ بالغُنْم، والعدالة في توزيع الأعباء والواجبات:
يقول الدكتور/ مصطفى السباعي (2): فمن المستحيل أن ينقض الإسلام في ناحية ما يبينه في ناحية أخرى، وأن يضع مبدأ ثم يضع أحكامًا تخالفه، ولكن الأمر يتعلق بالعدالة في توزيع الأعباء والواجبات على قاعدة الغرْمُ بالغُنْم.
ففي نظام الإسلام يُلزم الرجل بأعباء وواجبات مالية لا تلزم بمثلها المرأة، فهو الذي يدفع المهر، وينفق على أثاث بيت الزوجية، وعلى الزوجة والأولاد.
أمَّا المرأة فهي تأخذ المهر ولا تسهم بشيء من نفقات البيت على نفسها وعلى أولادها؛ ولو كانت غنية، ومن هنا كان من العدالة أن يكون نصيبُها في الميراث أقلَّ من نصيب الرجل، وقد كان الإسلام معها كريمًا متسامحًا حين طرح عنها كل تلك الأعباء وألقاها على عبءِ الرجل ثم أعطاها نصف ما يأخذ.
لنفرض رجلًا مات عن ابن وبنت وترك لهما مالًا، فماذا يكون مصير المال غالبًا بعد أمدٍ قليل؟
إنه بالنسبة إلى البنت سيزيد ولا ينقص، يزيد المهر الذي تأخذه من زوجها حين تتزوج، ويزيد ربح المال حين تنميه بالتجارة أو بأية وسيلة من وسائل الاستثمار.
أما بالنسبة إلى أخيها الشاب فإنه ينقص منه المهر الذي سيدفعه لعروسه، ونفقات العرس، وأثاث البيت، وقد يذهب ذلك بكل ما ورثه ثم عليه دائمًا أن ينفق على نفسه وعلى زوجته وعلى أولاده.
(1) عودة الحجاب (2/ 138).
(2)
المرأة بين الفقه والقانون ص 25 - 26.
أفلا ترون معي أن ما تأخذه البنت من تركة أبيها يبقى مدخرًا لها لأيام النكبات، وفقد المعيل من زوج، أو أب، أو أخ، أو قريب، بينما يكون ما يأخذه الابن معرضًا للاستهلاك لمواجهة أعبائه المالية التي لابدَّ له من القيام بها؟
لقد وجهت مرة هذا السؤال إلى طلابي في الحقوق -وفيهم فتيان وفتيات- وأردفته بسؤال آخر:
هل ترون مع ذلك أن الإسلام ظلم المرأة في الميراث أو انتقصها حقها أو نقص من كرامتها؟
أما الطلاب فقد أجابوا بلسان واحد: لقد حابى الإسلام المرأة على حسابنا نحن الرجال (1)! وأما الفتيات فقد سكتن، ومنهن من اعترفن بأن الإسلام كان منصفًا كل الإنصاف حين أعطى الأنثى نصف نصيب الذكر.
إن الشرائع التي تعطي المرأة في الميراث مثل نصيب الرجل ألزمتها بأعباء مثل أعبائه وواجبات مالية مثل واجباته، لا جرم إن كان إعطاؤها مثل نصيبه في الميراث في هذه الحالة أمرًا منطقيًا ومعقولًا، أما أن نعفي المرأة من كل عبء مالي ومن كل سعي للإنفاق على نفسها وعلى أولادها ونلزم الرجل وحده بذلك ثم نعطيها مثل نصيبه في الميراث فهذا ليس أمرًا منطقيًا في شريعة العدالة.
وقد يقال: لِم لَم يلزم الإسلام المرأة بالعمل ويكلفها من الأعباء بمثل ما كلف الرجل؟ وجوابنا على هذا سنسمعه في آخر هذه الأبحاث حين نناقش هذا الموضوع: هل من مصلحة الأسرة والمجتمع أن تكلف المرأة بالعمل لتنفق على نفسها، أو تسهم في الإنفاق على نفسها، وعلى أولادها؟ أم أن تتفرغ لشئون بيتها وأولادها؟ (2)
وحسبنا أن نقول الآن: أنه لا مجال للمطالبة بمساواة المرأة مع الرجل في الميراث إلا بعد مطالبتها بمساواته في الأعباء والواجبات. . إنها فلسفة متكاملة، فلابدَّ من الأخذ بها
(1) الإسلام لا يحابي المرأة على الرجل، ولا الرجل على المرأة، لأنه شريعة العدل وشريعة الإنصاف.
(2)
راجع شبهة عمل المرأة.
كلها أو تركها كلها. . أما نحن كمسلمين فنرى أن فلسفة الإسلام في ذلك أصح وأكثر منطقية وأحرص على مصلحة الأسرة والمجتمع والمرأة ذاتها. .
وقبل أن أنتقل من بحث هذا الموضوع أرى من المفيد أن أتعرض لفائدتين تاريخيتين:
الأولى: أن نصارى جبل لبنان في عهد الحكم العثماني كان من أسباب نقمتهم عليه أنه أراد أن يطبق عليهم أحكام الشريعة الإسلامية، فيما يتعلق بالميراث فقد غضبوا؛ لأن الشريعة تعطي البنت نصيبًا من الميراث يعادل نصف نصيب أخيها، وليس من عادتهم توريثها؛ لأن ما تأخذه من المال يذهب إلى زوجها، وقد ذكر هذا الأب بولس سعد في مقدمة كتابه: مختصر الشريعة للمطران عبد اللَّه قرا علي، وإليكم نص عبارته: جاء في الرسالة التي أنفذها البطريرك يوسف حبيش إلى رئيس مجمع نشر الإيمان المقدس في 29 أيلول (1840) ما يلي: وأما الآن فمن حيث أن القضاة أخذوا يمشون كلشى (كل شيء) في الجبل على موجب الشرائع الإسلامية فصار عمال يقع السجن والاضطهاد من هذا التغيير وبالأخص من جهة توريث البنات؛ لأن الشرائع الإسلامية تحدد أن كل بنتين ترثان بقدر ما يرث صبي واحد، ومن هنا واقع خصومات ومنازعات وشرور متفاقمة واضطرابات من حيث إن العادة السابقة كانت سالكة في هذا الجبل عند الجمهور أغنياء وفقراء بأن الابنة ليس لها إلا جهاز معلوم بقيمة المثل من والديها، إلا إذا هم أوصوا بشيء خصوصي.
ومن سلوك القضاة الآن بخلاف ذلك صار الوالدان في اختباط حال جسيمة مضر بالأنفس والأجساد، من حيث إن الآباء لا يرتضون بتوريث بناتهم حسب وضع الشريعة الإسلامية حذرًا من تبذير أرزاقهم وخراب بيوتهم، ولذلك فيحتالون بأيام حياتهم أن يعطوا أرزاقهم لأولادهم الذكور بضروب الهبة والتمليك ليمنعوا عنهم دعوى البنات بعد موتهم.
ثم يقول البطريرك المذكور بعد أن شرح ما لحق الآباء من الضرر في هبة أموالهم لأولادهم الذكور: ومن حيث إن الشرور الناتجة من هذا النوع هي أثقل من باقي الأنواع كما لخصناه أعلاه، فمستبين لنا ضروريًا أن نسعى بترجيع توريث البنات والنساء للعادة