الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما أنها أفتت برضاع الكبير لتكون رخصة في دخول الناس عليها كما يفترون عليها فهذا أمر فيه خلل كبير، وهو مردود، وسيرتها تشهد بذلك، وإليك بعض الأمثلة:
1 -
التزامها بحجابها حتى في دعوتها إلى اللَّه وتبليغها سنة النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة، ولو اتخذت فتوى رضاع الكبير ذريعة لدخول الناس عليها ما التزمت حجابها.
2 -
في حديث مسلم أنها قالت "أَنَّ أَفْلَحَ -أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ- جَاءَ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا وَهُوَ عَمُّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ بَعْدَ أَنْ أُنْزِلَ الْحِجَابُ قَالَتْ فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أَخْبَرْتُهُ بالذي صَنَعْتُ فأمرني أَنْ آذَنَ لَهُ عَلَيَّ". وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم "لَا تحتجبي مِنْهُ فإِنَّهُ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ". (1)
3 -
عن عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية عن عائشة قالت: ما زلت أضع خماري وأتفضل في ثيابب في بيتي حتى دفن عمر بن الخطاب فيه، فلم أزل متحفظة في ثيابي حتى بنيت بيني وبين القبور جدارًا فتفضلت بعد. قالا: ووصفت لنا قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقبر أبي بكر وقبر عمر، وهذه القبور في سهوة بيت عائشة. (2)
قلت: سبحان اللَّه عائشة تلتزم ثيابها من ميت مقبور وتستحي منه، ما أجل حياءها! وما أعظم أخلاقها! إنها أم المؤمنين، عائشة رضي الله عنها.
ثانيًا: الجواب عن شبهة رضاع الكبير من وجوه
الوجه الأول: أن الرضاع ثبت في الأصل للطفل دون الحولين
.
قال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (البقرة: من الآية 233)
وإليك أقوال المفسرين وأهل العلم في الآية:
(1) رواه مسلم حديث (1445) باب تحريم الرضاعة من ماء الفحل.
(2)
رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (3/ 277) بسند صحيح.
قال القرطبي: انتزع مالك رحمه اللَّه تعالى ومن تابعه وجماعة من العلماء من هذه الآية أن الرضاعة المحرمة الجارية مجرى النسب إنما هي ما كان في الحولين، لأنه بانقضاء الحولين تمت الرضاعة، ولا رضاعة بعد الحولين معتبرة. هذا قوله في موطئه. (1)
قلت: وهذا الخبر مع الآية والمعنى، ينفى رضاعة الكبير وأنه لا حرمة له. (2)
قال ابن القيم: قَالَ أَصْحَابُ الْحَوْلَيْنِ قَالَ اللَّه تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (البقرة: 233)، قَالُوا: فَجَعَلَ تَمامَ الرّضَاعَةِ حَوْلَيْنِ، فَدَلّ عَلَى أَنَّهُ لَا حُكْمَ لِمَا بَعْدَهُمَا فَلَا يَتَعَلّقُ بِهِ التّحْرِيمُ. (3)
قال ابن كثير: هذا إرشاد من اللَّه تعالى للوالدات: أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة، وهي سنتان، فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك، ولهذا قال:{لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} ، وذهب أكثر الأئمة إلى أنه لا يحرم، من الرضاعة إلا ما كان دون الحولين، فلو ارتضع المولود وعمره فوقهما لم يحرم. ثم نقل ابن كثير هذا القول عن جمهور العلماء وهم الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة والأكابر من الصحابة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم سوى عائشة. (4)
قال الشافعي: والدلاله على الفرق بين الصغير والكبير موجودة في كتاب اللَّه عز وجل. قال اللَّه تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} فجعل اللَّه عز وجل تمام الرضاع حولين كاملين. وقال: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} يعني واللَّه تعالى أعلم قبل الحولين فدل على أن إرخاصه عز وجل في فصال الحولين على أن ذلك إنما يكون باجتماعهما على فصاله قبل الحولين، وذلك لا يكون -واللَّه تعالى أعلم- إلا
(1) ولفظ مالك كما جاء في الموطأ صـ (471) باب رضاعة الصغير "فأما ما كان بعد الحولين فإن قليله وكثيره لا يحرم شيئًا إنما هو بمنزلة الطعام".
(2)
تفسير القرطبي (3/ 162: 163).
(3)
زاد المعاد 5/ 579.
(4)
تفسير ابن كثير 1/ 522، 523.
بالنظر للمولود من والديه أن يكونا يريان أن فصاله قبل الحولين خير له من إتمام الرضاع له لعلة تكون به أو بمرضعته وأنه لا يقبل رضاع غيرها أو ما أشبه هذا.
وما جعل اللَّه تعالى له غاية بالحكم بعد مضى الغاية فيه غيره قبل مضيها.
فإن قال قائل وما ذلك؟ قيل قال اللَّه تعالى {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} الآية فكان لهم أن يقصروا مسافرين وكان في شرط القصر لهم بحال موصوفة دليل على أن حكمهم في غير ذلك الصفة غير القصر.
وقال تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} فكن إذا مضت الثلاثة أقراء فحكمهن بعد مضيها غير حكمهن فيها. (1)
قلت: وقد استشهد البخاري بالآية لتكون دليلًا على أنه لا رضاع بعد حولين حيث وضع بابًا في كتاب النكاح أسماه. باب (من قال لا رضاع بعد حولين لقوله تعالى {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} ثم ذكر حديث عائشة رضي الله عنها "إنما الرضاعة من المجاعة" (2).
في آية {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} ما يدل أيضًا أن رضاع الكبير لا يُحرِّم.
قال ابن القيم: قَالُوا: وَهَذِهِ مُدّةُ الثّدْي الّذِي قَالَ فِيهَا: لَا رَضَاعَ إلّا مَا كَانَ فِي الثّدْي أَيْ فِي زَمَنِ الثّدْي، وَهَذِهِ لُغَةٌ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ، فَإِنّ الْعَرَبَ يَقُوُلونَ فُلَانٌ مَاتَ فِي الثّدْي أَيْ فِي زَمَنِ الرّضَاعِ قَبْلَ الْفِطَامِ وَمنْهُ الْحَدِيثُ الذي رواه مسلم "إنّ إبْرَاهِيمَ مَاتَ
(1) الأم للشافعي (5/ 28).
(2)
البخاري مع الفتح (9/ 50)، وسيأتي الكلام على إشكالهم وهو لماذا وضع البخاري الرضاع تحت كتاب النكاح؟ .