الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن اللَّه أمر الرجال أن يعتزلوا النساء حال الحيض، فإذا تطهرن كان لهم الحق أن يأتوهن من موضع الإتيان الذي شرعه اللَّه، وهو الفرج حيث قال:{فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} . وقد أمر اللَّه بالوطء في الفرج ولو كان الدبر مباحًا لبينه اللَّه في الآية.
الوجه الرابع: آية {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ. . .} تدل أيضًا من وجه وهو:
لو أن إتيان المرأة في دبرها مباح لبينه اللَّه حينما أمر باعتزال موضع الدم حال الحيض وكان بمثابة البديل عن الفرج في هذه المدة المحرمة، ولكن لعدم مشروعيته لم يذكره، بل ذكر أن المباح هو الفرج، وفي حال الحيضة يجب الاعتزال.
الوجه الخامس: السنة النبوية تؤكد على حرمة وطء المرأة في الدبر وترشدنا إلى المعنى الصحيح لآية {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} :
إذا تتبعنا بدقة وبفهم صحيح لكلام النبي صلى الله عليه وسلم لوجدنا أن كل الأحاديث التي ثبتت في هذا الباب تدل على حرمة الوطء في الدبر، بل وتلعن فاعله.
فقد ثبت عن الصحابة الكرام الذين عايشوا النبي صلى الله عليه وسلم إنكار هذا الأمر، ولم يثبت عن أحد إباحته وما نقل عن أحد منهم خلاف ذلك وسيأتي مناقشة هذا الأمر في حينه. وإليك أيها المعترض بعض الأحاديث التي تدلك على معنى الآية الصحيح وهي قوله:{فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} ، وسبب نزولها ليتأكد لك حرمة وطء المرأة في الدبر.
1 -
عن جابر بن عبد اللَّه: أَنَّ يَهُودَ كَانَتْ تَقُولُ: إِذَا أُتِيَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا ثُمَّ حَمَلَتْ كَانَ وَلَدُهَا أَحْوَلَ. قَالَ: فَأُنْزِلَتْ {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} .
وزاد مسلم في حديث النعمان عن الزهري "إِنْ شَاءَ مُجَبِّيَةً وَإِنْ شَاءَ غَيْرَ مُجَبِّيَةٍ غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ". (1)
(1) البخاري (4254)، ومسلم (1435).
2 -
عن عبد الرحمن بن سابط قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ ابْنَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقُلْتُ: إِنِّى سَائِلُكِ عَنْ أَمْرٍ، وَأَنَا أَسْتَحِى أَنْ أَسْأَلَكِ عَنْهُ؛ فَقَالَتْ: لَا تَسْتَحِى يَا ابْنَ أَخِى، قَالَ: عَنْ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ؟ قَالَتْ: حَدَّثَتْنِى أُمُّ سَلَمَةَ أَنَّ الأَنْصَارَ كَانُوا لَا يُجِبُّونَ النِّسَاءَ وَكَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ: إِنَّهُ مَنْ جَبَّى امْرَأَتُهُ كَانَ وَلَدُهُ أَحْوَلَ، فَلَمَّا قَدِمَ المُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ نَكَحُوا فِي نِسَاءِ الأَنْصَارِ فَجَبُّوهُنَّ، فَأَبَتِ امْرَأَةٌ أَنْ تُطِيعَ زَوْجَهَا؛ فَقَالَتْ لِزَوْجِهَا: لَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فَدَخَلَتْ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهَا فَقَالَتِ: اجْلِسِى حَتَّى يَأْتِيَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّه اسْتَحَتِ الأَنْصَارِيَّةُ أَنْ تَسْأَلَهُ، فَخَرَجَتْ، فَحَدَّثَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"ادْعِى الأَنْصَارِيَّةَ. فَدُعِيَتْ فَتَلَا عَلَيْهَا هَذِهِ الآيَةَ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (صِمَامًا وَاحِدًا) ". (1)
وهذا يدل على أمور:
- أن اليهود كانوا على علم أن المهاجرين كانوا يجامعون من الدبر في القبل وليس في الدبر؛ لأن الدبر ليس هو موضع الولادة، ولذلك قالوا: إن من فعل ذلك كان الولد أحول! فأنزل اللَّه الآية.
- ولو أن المهاجرين كانوا يجامعون في الدبر ما سكت اليهود على ذلك وفضحوا أمرهم، ولذلك لما علموا أنهم كانوا يجامعون المرأة مجبية أي من دبر في فرجها أشاعوا أن من فعل ذلك كان ولده أحول فأنزل اللَّه الآية:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} .
- أن التجبية كما قال ابن منظور تكون في حالتين:
(1) أخرجه أحمد (6/ 305)، وابن أبي شيبة (3/ 348/ 8)، والترمذي (2979)، والطبري في تفسيره (2/ 396) من طرق عن عبد اللَّه بن عثمان بن خثيم، عن عبد الرحمن بن سابط، عن حفصة بنت عبد الرحمن، عن أم سلمة به، وقال الترمذي: حديث حسن. وقال الألباني في كتاب آداب الزفاف (ص 30): وإسناده صحيح على شرط مسلم، قلت: ومدار هذا الحديث على عبد اللَّه بن عثمان خُثَيْم، وقد وثقه أهل العلم في كتبهم. قال الحافظ ابن حجر في التهذيب 5/ 275: قال ابن معين: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات.
1 -
أن يضع يديه على ركبتيه وهو قائم.
2 -
أن ينكب على وجهه باركًا، وهذا الوجه هو المعروف عند العرب. (1)
وقال النووي: المُجَبِّيَة بميم مضمومة ثم جيم مفتوحة ثم باء موحدة مشددة مكسورة ثم ياء مثناة من تحت أي: مكبوبة على وجهها. ولذا قال: ففيه إباحة وطئها في قبلها إن شاء من بين يديها، وإن شاء من ورائها، وإن شاء مكبوبة. (2)
قلت: وقد بينت الزيادة التي عند مسلم من قول الزهري: (إِنْ شَاءَ مُجَبِّيَةً وَإِنْ شَاءَ غَيْرَ مُجَبِّيَةٍ غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ) والصمام الواحد هو القبل بأي وضع كان.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إِنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنه وَاللَّه يَغْفِرُ لَهُ - أَوْهَمَ؛ إِنَّمَا كَانَ هَذَا الْحَىُّ مِنَ الأَنْصَارِ-وَهُمْ أَهْلُ وَثَنٍ- مَعَ هَذَا الْحَىِّ مِنْ يَهُودَ -وَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ- وَكَانُوا يَرَوْنَ لَهُمْ فَضْلًا عَلَيْهِمْ فِي الْعِلْمِ فَكَانُوا يَقْتَدُونَ بِكَثِيرٍ مِنْ فِعْلِهِمْ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَأْتُوا النِّسَاءَ إِلَّا عَلَى حَرْفٍ، وَذَلِكَ أَسْتَرُ مَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ، فَكَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الأَنْصَارِ قَدْ أَخَذُوا بِذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ، وَكَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ قُرَيْشٍ يَشْرَحُونَ النِّسَاءَ شَرْحًا مُنْكَرًا وَيَتَلَذَّذُونَ مِنْهُنَّ مُقْبِلَاتٍ وَمُدْبِرَاتٍ وَمُسْتَلْقِيَاتٍ؛ فَلَمّا قَدِمَ المُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ تَزَوَّجَ رَجُلٌ مِنْهُمُ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ فَذَهَبَ يَصْنَعُ بِهَا ذَلِكَ فَأَنْكَرَتْهُ عَلَيْهِ، وَقَالَتْ: إِنَّمَا كُنَّا نُؤْتَى عَلَى حَرْفٍ فَاصْنَعْ ذَلِكَ وَإِلَّا فَاجْتَنِبْنِى حَتَّى شَرِىَ أَمْرُهُمَا فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم فَأَنْزَلَ اللَّه عز وجل: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} أَيْ: مُقْبِلَاتٍ وَمُدْبِرَاتٍ وَمُسْتَلْقِيَاتٍ يَعْنِي بِذَلِكَ مَوْضِعَ الْوَلَدِ (3).
(1) لسان العرب (14/ 130).
(2)
شرح مسلم (5/ 261).
(3)
أبو داود (2157)، والدارمي (1125)، والطبري في التفسير (2/ 392)، والحاكم، وصححه على شرط مسلم (2/ 195)، والبيهقي في السنن الكبرى (7/ 195)، كلهم من حديث ابن عباس، قال ابن كثير في تفسيره (1/ 482): ويشهد له بالصحة ما تقدم من الأحاديث ولاسيما رواية أم سلمة. قال ابن القيم في =
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "جَاءَ عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّه هَلَكْتُ قَالَ: "وَمَا أَهْلَكَكَ". قَالَ: حَوَّلْتُ رَحْلِى اللَّيْلَةَ. قَالَ: فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم شَيْئًا قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّه عَلَى رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الآيَةَ {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} أَقْبِلْ وَأَدْبِرْ وَاتَّقِ الدُّبُرَ وَالْحِيضَةَ". (1)
وفي هذا الحديث دليل على حرمة الوطء في الدبر أيضًا وليس العكس، وليس فيه دليل على أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نكح في الدبر، وذلك لما يلي:
1 -
أن عمر رضي الله عنه ما نكح في دبر زوجته؛ لأنهم كانوا يعلمون حرمة ذلك من القرآن ومن كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
2 -
أن عمر رضي الله عنه ما نكح في دبر زوجته، بل حول كيفية الجماع، ولذلك قال: حولت رحلي الليلة. قال ابن الأثير في مادة رحل (2): كنى برحله عن زوجته، أراد به غشيانها في قبلها من جهة ظهرها، لأن المجامع يعلو المرأة ويركبها مما يلي وجهها، فحيث ركبها من جهة ظهرها كنى عنه بتحويل رحله، إما أن يريد به المنزل أو المأوى، وإما أن يريد به الرجل الذي تركب عليه الإبل وهو الكور. أهـ، ولذلك ظن -أي عمر- أنه خالف الشرع، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عما وقع فيه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إن الذي يأتي امرأته في دبرها لا ينظر اللَّه إليه". (3)
= تهذيب السنن (1/ 308): وَهَذَا الَّذِي فَسَّرَ بِهِ ابْن عَبَّاس فَسَّرَ بِهِ ابْن عُمَر. وَإِنَّمَا وَهِمُوا عَلَيْهِ، ولَمْ يَهِم هُوَ. وسيأتي تفصيل ذلك في موضعه.
(1)
أخرجه الترمذي (2980)، والبيهقي (7/ 198)، والنسائي (8977)، وأحمد (1/ 297)، والطبري في تفسيره (2/ 397)، وابن حبان (4204)، وابن أبي شيبة (3/ 107/ 8)، وصححه ابن حجر في الفتح (8/ 39)، وحسن إسناده الألباني في آداب الزفاف (ص 31).
(2)
النهاية في غريب الحديث لابن الأثير في مادة رحل (2/ 209).
(3)
أخرجه أحمد (2/ 272)، والبيهقي في الشعب (4/ 355)، والنسائي في الكبرى (5/ 322)، وصححه الألباني في المشكاة (3194).
وعنه أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى حائضًا أو امرأة في دبرها أو كاهنًا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد". (1)
وعن سعيد بن يسار أبي الحباب قال: قلت لابن عمر رضي الله عنهما ما تقول في الجواري حين أحمض لهن؟ قال: وما التحميض؟ فذكرت الدبر، فقال: هل فعل ذلك أحد من المسلمين! ! (2)
وعن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن اللَّه لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن"(3).
وقول عبد اللَّه بن عمرو في الذي يأتي امرأته في دبرها: هي اللوطية الصغرى. (4)
(1) أخرجه أحمد (2/ 408)، والترمذي (135)، والنسائي (9017)، وأبو داود (3899)، وابن ماجه (639). قال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديث حكيم الأثرم عن أبي تميمة عن أبي هريرة ثم قال: إنما معنى هذا عند أهل العلم على التغليظ، قلت: فإن أبا تميمة واسمه طريف بن مجالد وثقه أهل العلم: قال ابن حجر في التهذيب: قال ابن معين: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن سعد: كان ثقة إن شاء اللَّه، وقال الدارقطني: ثقة، وصححه الألباني في الإرواء (2006).
(2)
أخرجه الدارمي (1143)، والنسائي (8979)، والطحاوي في مشكل الآثار (2182) وصحح إسناده الألباني في آداب الزفاف (ص 29).
(3)
أخرجه أحمد (5/ 213)، والنسائي (8982)، والدارمي (1144)، والبيهقي (7/ 197)، وصححه ابن حجر في الفتح (8/ 39)، وصححه الألباني في الإرواء (2005)، وأخرجه الشافعي في الأم (5/ 173) مطولًا قال: أخبرني عمي محمد بن علي بن شافع قال: أخبرني عبد اللَّه بن علي بن السائب عن عمر أحيحة أو عمر بن فلان بن أحيحة بن الجلاح أما شككت (يعني الشافعي)، عن خزيمه بن ثابت أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن إتيان النساء في أدبارهن أو إتيان الرجال امرأته في دبرها فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إي حلال"، فلما ولى الرجل دعاه أو أمر به فدعى فقال: كيف؟ قلت: في أي الحزبتين أو فى أي الخرزتين، أوفى أي الخصقتين أمن دبرها في قبلها فنعم أم من دبرها في دبرها فلا؛ فإن اللَّه لا يستحي من الحق "لا تأتوا النساء في أدبارهن". ثم قال الشافعي: قلت: عمي ثقة، وعبد اللَّه بن علي ثقة، وقد أخبرني محمد عن الأنصاري المحدث بها أنه أثنى عليه خيرًا وخزيمة، فمن لا يشك عالم في ثقته، فلست أرخص فيه، أي في إتيان النساء في أدبارهن، بل أنهى عنه.
(4)
أخرجه عبد الرزاق (20956)، =
قال الطحاوي: فلما تواترت هذه الآثار عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالنهي عن وطء المرأة في دبرها ثم جاء عن أصحابه وعن تابعيهم ما يوافق ذلك وجب القول به وترك ما يخالفه. (1)
قلت: وهذا هو الثابت الصريح عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة الكرام كما عرضنا أقوالهم.
وإليك الأسباب والعلل الشرعية التي منعت هذا الفعل:
1 -
إن من مقاصد الشريعة حفظ النفس وحفظ العرض ولذا حرم الوطء في الدبر:
فإن مما يجب أن يعلم أن شريعة اللَّه تعالى فيها تحقيق لمصالح العباد، وهي كلها رحمة وحكمة وعدل، ليس فيها شيء خارج عن ذلك، بل كل تشريع فيها يحقق للمكلف النفع والمصلحة في دينه ودنياه، وهذه المصالح المترتبة على التشريع فيها المصالح الضروريات والحاجيات والتحسينات، وهي المعروفة عندنا بمقاصد الشريعة، وهي التي لأجلها شرع اللَّه الشرائع وأنزل الأحكام وربما الثواب والعقاب ومن هذه المقاصد حفظ النفس وحفظ العرض، ومما شرع لحفظ النفس الزواج وذلك لبقاء النوع وتكثيره وعدم الوقوع في الفواحش، وقد جاء مقصد "حفظ العرض" مكملًا لذلك لوقايته من أسباب الفجور والرذيلة، ومن المسائل التي لها تعلق بهذين المقصدين مسألة "وطء المرأة في دبرها" فهي من جهة كونها مما يتفرع على عقد النكاح تندرج في المقصد الأول ومن جهة كونها انتهاكًا كالعرض والشرف تندرج في المقصد الثاني الذي جاءت الشريعة بحمايته (2)؛ من أجل هذا كله حرم اللَّه وطء المرأة في دبرها.
= وأحمد (2/ 182)، والنسائي مرفوعًا وموقوفًا (8996، 8999)، والبيهقي (7/ 198)، قال الحافظ في تلخيص الحبير (3/ 181): والمحفوظ عن عبد اللَّه بن عمرو من قوله، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 301): رواه أحمد والبزار والطبراني في الأوسط ورجال أحمد والبزار رجال الصحيح.
(1)
شرح معاني الآثار للطحاوي (3/ 46).
(2)
نقلًا من مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية السادسة عشرة العدد السابع والأربعين.
2 -
كرم الإسلام المرأة وذكر لها حقوقها فحرم وطئها في دبرها: لقد كرم الإسلام المرأة أعظم تكريم بعد ما كانت مهانة في الجاهلية، فلما جاء الإسلام رفع شأنها وأعلى قدرها، فكرمها في جميع حياتها وأطوارها وهي بنت وهي زوجة، وهي أم، وكان لها حقوق كثيرة وهي زوجة مذكورة في القرآن وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من حقوقها على زوجها مسألة الجماع أو الوطء، وكان لها حق في أن تتمتع بهذا الأمر، ولذا إذا وطئت المرأة في دبرها كان في ذلك فواتًا لحقها الذي شرعه اللَّه تبارك وتعالى فكيف يشرع الإسلام وطء المرأة في دبرها الذي يضيع حق المرأة ويفوت عليها لذتها؟ ، وهذا من تكريم الإسلام للمرأة لأنه إذا أبيح للرجل الوطء في الدبر فإن في هذا قضاء لشهوته وحرمان المرأة من حقها في الاستمتاع وفي هذا ضرر بها من وجهين:
أحدهما: تحريك باعث الشهوة فيها من غير أن تنال شيئًا من حقها في الاستمتاع وفي هذا ضرر بها.
الثاني: إن وطء المرأة في دبرها يضر بها في صحتها مع عدم منفعتها منه بشيء. (1)
من مقاصد النكاح النسل والنسل من غير وطء في القبل لا يكون فلا يأتي من الوطء في الدبر. (2)
إن النكاح في الشرع الإسلامي له مقاصد عديدة منها النسل وقد حثنا النبي صلى الله عليه وسلم على الإكثار من النسل كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وغيره عن أنس مرفوعًا "تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة". (3)
ومن هنا لا يتأتى الإكثار من النسل بالوطء في الدبر بل يكون في القبل لذا شرع الإسلام القبل الذي يكون منه النسل، وحرم الدبر الذي لا يكون منه النسل بل منه الأذى والضرر.
(1) المدخل لابن الحاج (2/ 194)، وانظر: مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية السنة السادسة عشر العدد السابع والأربعون.
(2)
بتصرف من زاد المعاد لابن القيم (4/ 262)، والمجموع للنووي (16/ 240)، ومجلة الشريعة والدراسات الإسلامية السنة السادسة عشر العدد السابع والأربعون.
(3)
أخرجه أحمد (3/ 158، 245)، وسعيد بن منصور (490)، وابن حبان (4028)، وحسن إسناده الهيثمي في مجمع الزوائد (4/ 474)، وصحح إسناده الألباني في إرواء الغليل (1784).
قال الرازي: لو تمكن الإنسان من تحصيل تلك اللذة بطريق لا تفضي إلى الولد لم تحصل الحكمة المطلوبة ولأدى ذلك إلى انقطاع النسل وذلك على خلاف حكم اللَّه فوجب الحكم بتحريمه قطعًا حتى تحصل تلك اللذة بالطريق المفضي إلى الولد. (1)
إن الشرع قد شرع شرائعه على قواعد وأسس منها كما في الآية: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة: 195)، حديث النبي صلى الله عليه وسلم "لا ضرر ولا ضرار"(2)، ومن المعلوم كما أثبت أهل الطب أن وطء المرأة في دبرها يضر بالرجل والمرأة ويوقعهما في التهلكة ولذا حرم اللَّه تعالى الوطء في الدبر، وإليك بيان ذلك:
قال ابن القيم: "عن الوطء في الدبر" فإن الدبر لم يتهيأ لهذا العمل "أي الوطء" ولم يخلق له وإنما هيئ له الفرج.
وقال أيضًا: فإن ذلك مضر بالرجل، ولهذا ينهى عنه عقلاء الأطباء من الفلاسفة وغيرهم لأن الفرج خاصية في اجتذاب الماء المحتقن وراحة الرجل منه والوطء في الدبر لا يعين على اجتذاب جميع الماء ولا يخرج كل المحتقن لمخالفته للأمر الطبيعي. وأيضًا فإنه يحدث الهم والغم والنفره عن الفاعل والمفعول.
وأيضًا فإنه يضر من وجه آخر، وهو إحواجه إلى حركات متعبة جدًا لمخالفته للطبيعة. (3)
وقد أثبت الطب الحديث صحة ما ذهب إليه ابن القيم حيث بين د/ محمد عبد الحميد شاهين أستاذ الفقاريات وعلم الأجنة المساعد بقسم العلوم البيولوجية كلية التربية بجامعة عين شمس في بحثه حول العلاقة الجنسية بين الإسلام والطب دراسة نسيجية مقارنة بين المهبل والشرج: أن التركيب لكل من المهبل وقناة الشرج مرتبط ارتباطا كليًا بالوظيفة المنوط به القيام بها، فبطانة المهبل تختلف عن بطانة الشرج والوسط الحامضي
(1) تفسير الفخر الرازي (14/ 169).
(2)
رواه أحمد في المسند 1/ 313، وصححه الألباني كما في الإرواء حديث (896).
(3)
زاد المعاد (4/ 263) باختصار.