الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سابعًا: موقف علي رضي الله عنه فيما قال:
الذي قاله علي رضي الله عنه هو: "يَا رَسُول الله لَمْ يُضيِّق الله عَلَيْك، وَالنِّسَاء سِوَاهَا كَثِيرٌ وَإِنْ تَسْأَلْ الجْارِيَةَ تَصْدُقْكَ) حيث قالوا تعليقًا على مشورة علي رضي الله عنه: إن عليًّا قال هذا اعتمادًا علي سوء الظن الناشئ عن معرفته بسوابق أحوال عائشة.
الجواب: 1 - لقد استشار النبي صلى الله عليه وسلم صاحبيه في فراقها ولم يسألهما أصلًا عن حسن الظن أو سوء الظن. فَأَشَارَ عَلَيْهِ عَليّ رضي الله عنه أَنْ يُفَارِقَهَا تَلْوِيحًا لَا تَصْرِيحًا؛ لأَنه رَأَى أَنّ مَا قِيلَ مَشْكُوكٌ فِيهِ فأَشَارَ بِتَرْكِ الشّكّ وَالرّيبَةِ إلَى الْيَقِينِ لِيَتَخَلّصَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ الْهَمّ وَالْغَمّ الّذِي لحَقَهُ مِنْ كَلَامِ النّاسِ فَأَشَارَ بِحَسْمِ الدّاءِ (1).
2 -
وهذا الكلام الذي قاله عليّ رضي الله عنه حمله عليه ترجيح جانب النبي صلى الله عليه وسلم لما رأي عنده من القلق والغم بسبب القول الذي قيل.
3 -
كان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الغيرة فرأى عليّ أنه إذا فارقها سكن ما عنده من القلق بسببها إلى أن يتحقق براءتها فيمكن رجعتها (2).
4 -
رأى عليّ هذا الرأي ارتكابًا لأخف الضررين لدفع أعظمهما. فالأخف هو الطلاق والأعظم هو ما فيه رسول الله من الغم والهم (3). قال النووي: رَأَى عِليّ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَصْلَحَة فِي حَقّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَاعْتَقَدَ ذَلِكَ لمَا رَأَى مِنْ انْزِعَاجه، فَبَذَلَ جَهْده فِي النَّصِيحَة لِإِرَادَةِ رَاحَة خَاطِره صلى الله عليه وسلم (4).
5 -
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد بْن أَبِي جَمْرَة: لَمْ يَجْزِم عَليّ بِالْإِشَارَةِ بِفِرَاقِهَا؛ لِأَنَّهُ عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ (وَسَلْ الْجَارِيَة تَصْدُقْك)، فَفَوَّضَ الْأَمْر فِي ذَلِكَ إِلَى نَظَر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ أَرَدْت تَعْجِيل
(1) زاد المعاد (3/ 164).
(2)
فتح الباري (8/ 334).
(3)
فتح الباري (8/ 334).
(4)
نفس الموضع، وانظر تفسير الآلوسي (13/ 361).
الرَّاحَة فَفَارِقْهَا، وَإِنْ أَرَدْت خِلَاف ذَلِكَ فَابْحَثْ عَنْ حَقِيقَة الْأَمْر إِلَى أَنْ تَطَّلِعَ عَلَى بَرَاءَتَهَا. لِأَنَّهُ كَانَ يعلم أَنَّ بَرِيرَةَ لَا تُخْبِرهُ إِلَّا بِمَا عَلِمَتْهُ، وَهِيَ لَمْ تَعْلَم مِنْ عَائِشَة إِلَّا الْبَرَاءَة المَحْضَة (1).
قلت: فيبدو مما مر أن عليًّا رجح النظر إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق عنده موضع للدفاع عن عائشة في البداية. ثم عاد للدفاع عنها عندما قال (وَسَلْ الجارِيَة تَصْدُقْك). ولا يشك منصف في أن عليًّا رضي الله عنه لم يقصد الإساءة إلى عائشة بهذه المشورة؛ لأنه يعلم أن الإساءة إليها إساءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وما الغم والهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بسبب هذا الكلام. أفيعقل أن يشارك فيه علي وهو يريد أن يسري الهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ! .
6 -
وقوله سوء الظن الناشئ عن معرفته بسوابق أحوال عائشة، وأنه عرف ذلك من الجارية.
فالجواب عنه من وجهين:
الأول: أن الجارية قالت (لا أعلم عليها إلا خيرًا) وتعجبت من تهمة عائشة بذلك. (2)
الثاني: إن عائشة على أصح الأقوال كان سنها في حديث الإفك اثني عشر سنة.
فأي السوابق فعلتها عائشة قبل هذا السن؟ ولعله يذكر اعتراضه من قليل على زواج النبي صلى الله عليه وسلم بها في التاسعة. فكيف يقول في التاسعة والعاشرة طفلة؟ والآن يقول إن لها سوابق؟ ! .
قوله: وهذا الظن السيئ ترافق مع سوء العلاقة بين فاطمة وعائشة، وإنه في هذه الحالة كانت أشباح فاطمة هي التي كانت تضرب الجارية بيد علي - وأنه كان يتمنى طرد عائشة من بيت الرسول صلى الله عليه وسلم لأنها كانت هي وفاطمة في شقاق دائم.
والجواب علي هذا:
1 -
سبق الجواب في الفقرة السابقة أن سوء ظن علي رضي الله عنه في عائشة لا أصل له.
2 -
أما سوء العلاقة بين فاطمة وعائشة فهذه فرية من أعظم الفرى.
ومن الأدلة حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: "ألَسْتِ تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ؟ فَقَالَتْ: بَلَى. قَالَ: "فَأَحِبِّي هَذِهِ - يعني عائشة -" (3). فلو لم تكن فاطمة تحب عائشة لكانت غير صادقة في قولها (بلى)، ولكانت عاصية لأبيها في قوله "فَأَحِبِّي هَذِهِ". وليست كذلك فاطمة رضي الله عنها.
(1) فتح الباري (8/ 334).
(2)
انظر فتح الباري (8/ 335).
(3)
مسلم (2442).
ثانيًا: إن قوله إن فاطمة وعائشة كانتا في شقاق دائم كذب لا دليل عليه أصلًا.
بل لما قال النبي صلى الله عليه وسلم "فأحبي هذه" قالت: وَالله لَا أُكَلِّمُهُ فِيهَا أَبَدًا.
وهذه العداوة التي يفتعلها الروافض بين فاطمة وعائشة رضي الله عنهما، فيدحضها موقف عائشة البريء الشريف من فاطمة وروايتها لفضائلها.
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: أَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِي كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مَشْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَرْحَبًا بِابْنَتِي، ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمالِهِ، ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا فَبَكَتْ. فَقُلْتُ لهَا: لِمَ تَبْكِينَ؟ ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا فَضَحِكَتْ. فَقُلْتُ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ فَرَحًا أَقْرَبَ مِنْ حُزْنٍ. فَسَألتُهَا عَما قَالَ. فَقَالَتْ: مَا كُنْتُ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى قُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَسَألتُهَا فَقَالَتْ: أَسَرَّ إِلَيَّ إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي الْقُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً وَإِنَّهُ عَارَضَنِي الْعَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلَا أُرَاهُ إِلَّا حَضَرَ أَجَلِي وَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتِي لحاقًا بِي فَبَكَيْتُ، فَقَالَ: "أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدةَ نِسَاءِ أَهْلِ الجنَّةِ أَوْ نِسَاءِ المُؤْمِنينَ"، فَضَحِكْتُ لِذَلِكَ (1).
فانظر إلى هذه الفضائل العظيمة التي ترويها عائشة - رضى الله عنها - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنها ما تصف به فاطمة عن قناعة بها. كما روت عائشة فضائل خديجة رضي الله عنها ومن ذلك "بُشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم لها ببيت بالجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب". (2)
فهذا من أعظم الأدلة على منزلة فاطمة وأمها عند عائشة وحبها وتقديرها لهما ونقول مثل ذلك في فاطمة رضي الله عنها أنها تحب عائشة وتقدرها. ولا يفتعل العداوة بينهما إلا الروافض كما يفتعلون العداوة بين أهل البيت وبين الصحابة. وتاريخ الجميع الصحيح يفضح الروافض أعداء الجميع، ويكفي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأزواجه تزكية الله وتزكية رسوله لهم، وشهادة الله لهم بالجنة والرضوان، وتعظيم المسلمين حقًّا لهم ولا يضرهم حقد وأكاذيب الأعداء ومن على نهجهم.
(1) البخاري (3623 - 3624)، ومسلم (2450).
(2)
رواه الترمذي (3876) وقال: هذا حديث صحيح، وقال عقبه: من قصب: إنما يعني به قصب اللؤلؤ.