الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لَرَجَعُوا إِلَيَّ) وَهَذَا ظَاهِر فِي أَنَّهَا لَمْ تَتَّبِعهُمْ، وَوَقَعَ فِي سياق حَدِيث اِبْن عُمَر خِلَاف ذَلِكَ فَإِنَّ فِيهِ (فَجِئْت فَاتَّبَعْتهمْ حَتَّى أَعْيَيْت، فَقُمْت عَلَى بَعْض الطَّرِيق فَمَرَّ بِي صَفْوَان)، وَهَذَا السِّيَاق لَيْسَ بِصَحِيحٍ لأن في إسناده أحد الكذابين ثم هو مُخَالفٌ لمَا فِي الصَّحِيح، من أَنَّهَا أَقَامَتْ فِي مَنْزِلهَا إِلَى أَنْ أَصْبَحَتْ، وَكَانهُ تَعَارَضَ عِنْدَهَا أَنْ تَتْبَعَهُمْ فَلَا تَأْمَنُ أَنْ يَخْتَلِفَ عَلَيْهَا الطُّرُقُ فتَهْلِكَ قَبْلَ أَنْ تُدْرِكَهُمْ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ كَانَتْ فِي اللَّيْلِ، أَوْ تُقِيمُ فِي مَنْزِلِهَا لَعَلَّهُمْ إِذَا فَقَدُوهَا عَادُوا إِلَى مَكَانِهَا الَّذِي فَارَقُوهَا فِيهِ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي لمِنْ فَقَدْ شَيْئًا أَنْ يَرْجِعَ بِفِكْرِهِ الْقَهْقَرَى إِلَى الْحَدِّ الَّذِي يَتَحَقَّقُّ وُجُودُهُ ثُمَّ يَأْخُذُ مِنْ هُنَاكَ فِي التَّنْقِيبِ عَلَيْهِ. وَأَرَادَتْ بِمَنْ يَفْقِدُهَا مَنْ هُوَ مِنْهَا بِسَبَبٍ كَزَوْجِهَا أَوْ أَبِيهَا، وَالْغَالِبُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ شَأْنِه صلى الله عليه وسلم أَنْ يُسَايِرَ بَعِيرَهَا وَيتَحَدَّثَ مَعَهَا فَكَأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَتَّفِقْ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَلمَّا لَمْ يَتَّفِقْ مَا تَوَقَّعَتْهُ مِنْ رُجُوعِهمْ إِلَيْهَا سَاقَ اللهُ إِلَيْهَا مَنْ حَمَلَهَا بِغَيْرِ حَوْلٍ مِنْهَا وَلَا قُوَّةٍ .. (1).
العشرون. قولهم: وهل يجسر القوم على أن يؤذوا رسول الله في أعز الناس إليه إذا لم يكن للشبهة مأخذ
.
والجواب: أن الذين اختلقوه لم يكونوا من المؤمنين إنما هم (عصبة) متجمعة ذات هدف واحد. ولم يكن عبد الله بن أبيّ بن سلول وحده هو الذي أطلق ذلك الإفك. إنما هو الذي تولى معظمه. وهو يمثل عصبة اليهود أو المنافقين، الذين عجزوا عن حرب الإسلام جهرة؛ فتواروا وراء ستار الإسلام ليكيدوا للإسلام خفية، وكان حديث الإفك إحدى مكائدهم القاتلة. ثم خُدع فيها بعض المسلمين، فخاض منهم من خاض في حديث الإفك كحمنة بنت جحش؛ وحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة. أما أصل التدبير فكان عند تلك العصبة، وعلى رأسها ابن سلول، الحذر الماكر، الذي لم يظهر بشخصه في المعركة. ولم يقل علانية ما يؤخذ به، فيقاد إلى الحد. إنما كان يهمس به بين ملئه الذين يطمئن إليهم، ولا يشهدون عليه. وكان التدبير من المهارة والخبث بحيث أمكن أن ترجف به المدينة شهرًا كاملًا، وأن تتداوله الألسنة في أطهر بيئة وأتقاها وقد بدأ السياق ببيان تلك الحقيقة
(1) فتح الباري (8/ 461).
ليكشف عن ضخامة الحادث، وعمق جذوره، وما وراءه من عصبة تكيد للإسلام والمسلمين هذا الكيد الدقيق العميق اللئيم. ثم سارع بتطمين المسلمين من عاقبة هذا الكيد {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} .
خير. فهو يكشف عن الكائدين للإسلام في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته! (1)
وقال أبو حيان: وكان ذلك من عبد الله بن أُبي لإمعانه في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وانتهازه الفرصَ، وروي عنه كلام قبيح في ذلك نزهت كتابي عن ذكره وقلمي عن كتابته قبحه الله اهـ. (2)
وقال الرازي: وأجمع المسلمون على أن المراد ما أفك به على عائشة، وإنما وصف الله تعالى ذلك الكذب بكونه إفكًا؛ لأن المعروف من حال عائشة خلاف ذلك لوجوه:
أحدهما: أن كونها زوجة للرسول صلى الله عليه وسلم المعصوم يمنع من ذلك. لأن الأنبياء مبعوثون إلى الكفار ليدعوهم ويستعطفوهم، فوجب أن لا يكون معهم ما ينفرهم عنهم وكون الإنسان بحيث تكون زوجته مسافحة من أعظم المنفرات، فإن قيل: كيف جاز أن تكون امرأة النبي كافرة كامرأة نوح ولوط ولم يجز أن تكون فاجرة وأيضًا فلو لم يجز ذلك لكان الرسول أعرف الناس بامتناعه ولو عرف ذلك لما ضاق قلبه، ولما سأل عائشة عن كيفية الواقعة، قلنا: الجواب عن الأول أن الكفر ليس من المنفرات، أما كونها فاجرة فمن المنفرات.
والجواب عن الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما كان يضيق قلبه من أقوال الكفار مع علمه بفساد تلك الأقوال، قال تعالى:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97)} (الحجر: 97) فكان هذا من هذا الباب.
وثانيها: أن المعروف من حال عائشة قبل تلك الواقعة إنما هو الصون والبعد عن مقدمات الفجور، ومن كان كذلك كان اللائق إحسان الظن به.
(1) الظلال (5/ 265).
(2)
البحر المحيط.
وثالثها: أن القاذفين كانوا من المنافقين وأتباعهم، وقد عرف أن كلام العدو المفترى ضرب من الهذيان، فلمجموع هذه القرائن كان ذلك القول معلوم الفساد قبل نزول الوحي. أما العصبة فقيل: إنها الجماعة من العشرة إلى الأربعين وكذلك العصابة واعصوصبوا: اجتمعوا، وهم عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس النفاق، وزيد بن رفاعة، وحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم. أما قوله:
{مِّنكُم} فالمعنى أن الذين أتوا بالكذب في أمر عائشة جماعة منكم أيها المؤمنون، لأن عبد الله كان من جملة من حكم له بالإيمان ظاهرًا.
ورابعها: أنه سبحانه شرح حال المقذوفة ومن يتعلق بها بقوله: {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} ، والصحيح أن هذا الخطاب ليس مع القاذفين، بل مع من قذفوه وآذوه، فإن قيل هذا مشكل لوجهين: أحدهما: أنه لم يتقدم ذكرهم. والثاني: أن المقذوفين هما عائشة وصفوان فكيف تحمل عليهما صيغة الجمع في قوله: {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ} .
والجواب عن الأول: أنه تقدم ذكرهم في قوله: {مِنْكُمْ} ، وعن الثاني: أن المراد من لفظ الجمع كل من تأذى بذلك الكذب واغتم، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم تأذى بذلك وكذلك أبو بكر ومن يتصل به، فإن قيل: فمن أي جهة يصير خيرًا لهم مع أنه مضرة في العاجل؟ قلنا لوجوه: أحدهما: أنهم صبروا على ذلك الغم طلبًا لمرضاة الله تعالى فاستوجبوا به الثواب وهذه طريقة المؤمنين عند وقوع الظلم بهم.
وثانيها: أنه لولا إظهارهم للإفك كان يجوز أن تبقى التهمة كامنة في صدور البعض، وعند الإظهار انكشف كذب القوم على مر الدهر.
وثالثها: أنه صار خيرًا لهم لما فيه من شرفهم وبيان فضلهم من حيث نزلت ثمان عشرة آية كل واحدة منها مستقلة ببراءة عائشة، وشهد الله تعالى بكذب القاذفين ونسبهم إلى الإفك وأوجب عليهم اللعن والذم، وهذا غاية الشرف والفضل.