الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولهذا لم يذهب أحد من أهل العلم الذين تذكر مقالاتهم إلى هذا التأويل، بل أهل العلم في هذا الحديث على ثلاثة أقوال:
1 -
فطائفة ضعفته لما روى عندها بأسانيد ليست ثابتة عندهم، ولكن رواه أهل الصحيح، رواه البخاري كما تقدم من حديث أبي سعيد، ورواه مسلم من غير وجه من حديث الحسن عن أمه عن أم سلمة رضي الله عنها من حديث أبي سعيد عن أبي قتادة وغيره.
2 -
ومنهم من قال: هذا دليل على أن معاوية وأصحابه بغاة، وأن قتال علي لهم قتال أهل العدل لأهل البغي، لكنهم بغاة متأولون لا يكفرون ولا يفسقون. ولكن يقال ليس في مجرد كونهم بغاة ما يوجب الأمر بقتالهم؛ فإن اللَّه لم يأمر بقتال كل باغ، بل ولا أمر بقتال البغاة ابتداء، ولكن قال:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ، فلم يأمر بقتال البغاة ابتداء، بل أمر إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين أن يصلح بينهما، وهذا يتناول ما إذا كانتا باغيتين أو إحداهما باغية.
ثم قال: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} قد يقال المراد به البغي بعد الإصلاح، ولكن هذا خلاف ظاهر القرآن، فإن قوله {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى} يتناول الطائفتين المقتتلتين سواء أصلح بينهما، أو لم يصلح كما أن الأمر بالإصلاح يتناول المقتتلتين مطلقًا، فليس في القرآن أمر بقتال الباغي ابتداء، لكن أمر إذا اقتتلت طائفتان أن يصلح بينهما وأنه إن بغت إحداهما على الأخرى بعد القتال أن تقاتل حتى تفيء، وهذا يكون إذا لم تجب إلى الإصلاح بينهما وإلا فإذا أجابت إلى الإصلاح بينهما لم تقاتل، فلو قوتلت ثم فاءت إلى الإصلاح لم تقاتل لقوله تعالى {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} ، فأمر بعد القتال -إلى أن تفيء- أن يصلح بينهما بالعدل وأن يقسط. وقتال
الفتنة لا يقع فيه هذا، وذلك قد يكون لأن اللَّه لم يأمر بالقتال ابتداء، ولكن أمر إذا اقتتلوا وبغت إحداهما على الأخرى بقتال الفئة الباغية، وقد تكون الآية أمرًا بالإصلاح وقتال الباغية جميعًا لم يأمر بأحدهما، وقد تكون الطائفة باغية ابتداء، لكن لما بغت أمر بقتالها وحينئذ لم يكن المقاتل لها قادرًا لعدم الأعوان أو لغير ذلك، وقد يكون عاجزًا ابتداء عن قتال الفئة الباغية، أو عاجزًا عن قتالٍ تفيء فيه إلى أمر اللَّه. فليس كل من كان قادرًا على القتال كان قادرًا على قتالٍ يفيء فيه إلى أمر اللَّه، وإذا كان عاجزًا عن قتالها حتى تفيء إلى أمر اللَّه لم يكن مأمورًا بقتلاها لا أمر إيجاب ولا أمر استحباب، ولكن قد يظن أنه قادر على ذلك فتبين له في آخر الأمر أنه لم يكن قادرًا، فهذا من الاجتهاد الذي يثاب صاحبه على حسن القصد. وفعل ما أمر وإن أخطأ فيكون له فيه أجر ليس من الاجتهاد الذي يكون له في أجران؛ فإن هذا إنما يكون إذا وافق حكم اللَّه في الباطن.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإذا اجتهد فأصاب فله أجران". (1) ومن الاجتهاد أن يكون ولي الأمر أو نائبه مخيرًا بين أمرين فأكثر تخيرٍ تحرٍّ للأصلح لا تخيير شهوة كما يخير الإمام في الأسرى بين القتل، والاسترقاق، والمن، والفداء عند أكثر العلماء.
فإن قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} ليس بمنسوخ، وكذلك تخيير من نزل العدو على حكمه كما نزل بنو قريظة على حكم النبي صلى الله عليه وسلم فسأله حلفاؤهم من الأوس أن يمن عليهم كما من على بني النضير حلفاء الخزرج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألا ترضون أن أحكم فيهم سعد بن معاذ سيد الأوس فرضيت الأوس بذلك، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم خلف سعد بن معاذ فجاء وهو راكب وكان تمرض من أثر جرح به في المسجد، وبنو قريظة شرقي المدينة بينهم نصف نهار أو نحو ذلك. فلما أقبل سعد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"قوموا إلى سيدكم"، فقاموا وأقاربه في الطريق يسألونه أن يمن عليهم ويذكرونه بمعاونتهم ونصرهم له في الجاهلية، فلما دنا قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في اللَّه لومة لائم، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يحكم فيهم،
(1) البخاري (7352)، ومسلم (1716).
فحكم بأن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وتغنم أموالهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد:"قد حكمت فيهم بحكم اللَّه من فوق سبع سماوات"(1).
وعن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا حاصرت أهل حصن فسألوك أن تنزلهم على حكم اللَّه فلا تنزلهم على حكم اللَّه، فإنك لا تدري ما حكم اللَّه فيهم، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك"(2). فدل هذان الحديثان الصحيحان على أن للَّه حكمًا معينًا فيما يكون ولي الأمر مخيرًا فيه تخيير مصلحة، وإن كان لو حكم بغير ذلك نفذ حكمه في الظاهر في كال من باب القتال فهو أولى أن يكون أحد الأمرين أحب إلى اللَّه ورسوله إما فعله وإما تركه، ويتبين ذلك بالمصلحة والمفسدة فما كان وجوده خيرًا من عدمه لما حصل فيه من المصلحة الراجحة في الدين، فهذا مما يأمر اللَّه به أمر إيجاب أو استحباب وما كان عدمه خيرًا من وجوده فليس بواجب ولا مستحب، وإن كان فاعله مجتهدًا مأجورًا على اجتهاده، والقتال إنما يكون لطائفة ممتنعة، فلو بغت ثم أجابت إلى الصلح بالعدل لم تكن ممتنعة، فلم يجز قتالها ولو كانت باغية، وقد أمر بقتال الباغية إلى أن تفيء إلى أمر اللَّه أي ترجع، ثم قال:{فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} ، فأمر بالإصلاح بعد قتال الفئة الباغية كما أمر بالإصلاح إذا اقتتلتا ابتداء، وقد قالت عائشة رضي الله عنها لما وقعت الفتنة ترك الناس العمل بهذه الآية. وهو كما قالت فإنهما لما اقتتلتا لم يصلح بينهما، ولو قدر أنه قوتلت الباغية، فلم تقاتل حتى تفيء إلى أمر اللَّه، ثم أصلح بينهما بالعدل. واللَّه تعالى أمر بالقتال إلى الفيء، ثم الإصلاح لم يأمر بقتال مجرد، بل قال {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} وما حصل قتال حتى تفيء إلى أمر اللَّه، فإن كان ذلك مقدورًا فما وقع -وإن كان معجوزًا عنه- لم يكن مأمورًا به.
وعجز المسلمين يوم أحد عن القتال الذي يقتضي انتصارهم كان بترك طاعة الرسول وذنوبهم وكذلك التولي يوم حنين كان من الذنوب يبين ذلك أنه لو قدر أن طائفة بغت
(1) البخاري (3043)، ومسلم (1768).
(2)
مسلم (1731).