الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال ابن حجر رحمه الله: ووقع في تفسير السدي أن شرب العسل كان عند أم سلمة أخرجه الطبري وغيره وهو مرجوح لإرساله وشذوذه. والله أعلم. (1)
فالروايات الصحيحة الآن تدور على ثلاثة زينب وحفصة وسودة رضي الله عنهن والراجح أنه كان عند زينب ولا يمنع ذلك من وقوع الشرب عند حفصة وسودة في وقت آخر وقد تسبب هذا الاختلاف في تعارض واضطراب عند البعض فما هو وجه الجمع أو الترجيح وسيأتي جواب ذلك بعد ذكر القول الثاني في سبب نزول الآية.
القول الثاني: أنه كان في تحريم مارية ودليل هذا القول ما يلي:
عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها فأنزل الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى آخر الآية. (2)
وقال ابن كثير: وكذا روي عن قتادة وغيره عن الشعبي نفسه، وكذا قال غير واحد من السلف منهم الضحاك والحسن وقتادة ومقاتل ابن حيان اهـ (3).
الوجه الثاني: وجه الجمع بين هذين القولين
.
هذان القولان صحيحان في سبب نزول الآية شرب العسل وتحريم مارية.
1 -
قال ابن كثير بعد ذكر حديث حفصة السابق: والغرض أنا هذا السياق فيه أنا حفصة هي الساقية للعسل وهو من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن خالته عائشة، وفي طريق ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن عائشة: أن زينب بنت جحش هي التي سقته العسل، وأن عائشة وحفصة تواطأتا وتظاهرتا عليه. فالله أعلم، وقد يقال إنهما واقعتان ولا بعد في ذلك إلا أن كونهما سببًا لنزول هذه الآية فيه نظر. والله أعلم ومما يدل على أن عائشة وحفصة رضي الله عنهما هما المتظاهرتان في الحديث الذي رواه ابن عباس قال: مكثت سنة أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له
(1) فتح الباري 9/ 377
(2)
سبق تخريجه؛ وهو صحيح.
(3)
تفسير ابن كثير (4/ 495).
حتى خرج حاجًا فخرجت معه، فلما رجعنا وكنا ببعض الطريق عدل إلى الأراك لحاجة له، قال: فوقفت حتى فرغ ثم سرت معه فقلت: يا أمير المؤمنين من اللتان ظاهرتا على النبي صلى الله عليه وسلم (1)، ولمسلم: من المرأتان اللتان قال الله تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} قال عائشة وحفصة (2)، ثم ساق الحديث بطوله ومنهم من اختصره.
قلت: فهذا ابن كثير رحمه الله رجح أن سبب النزول في العسل، ولم يمنع في أنه شرب العسل عند زينب وعند حفصة لكن سبب النزول هو أحدهما.
2 -
وأما الحافظ ابن حجر فقال: وطريق الجمع بين هذا الاختلاف، الحمل على التعدد فلا يمتنع تعدد السبب للأمر الواحد.
3 -
فإن جنح إلى الترجيح فرواية عبيد بن عمير أثبت لموافقة ابن عباس لها على أن المتظاهرتين حفصة وعائشة على ما تقدم في الروايات السابقة من جزْمِ عمر بذلك، فلو كانت حفصة صاحبة العسل لم تقرن في التظاهر بعائشة، لكن يمكن تعدد القصة في شرب العسل وتحريمه واختصاص النزول بالقصة التي فيها أن عائشة وحفصة هما المتظاهرتان، ويمكن أن تكون القصة التي وقع فيها شرب العسل عند حفصة كانت سابقة، ويؤيد هذا الحمل أنه لم يقع في طريق هشام بن عروة التي فيها أن شرب العسل كان عند حفصة تعرض للآية ولا لذكر سبب النزول. (3)
فهذا ابن حجر رحمه الله يرى أن القصة تعددت في الشرب والتحريم، ولكن النزول كان بعد قصة تظاهر عائشة وحفصة وهذا جلي بحمد الله لمن أراد الحق.
4 -
والراجح أيضًا أن صاحبة العسل زينب لا سودة؛ لأن طريق عبيد بن عمير أثبت من طريق بن أبي مليكة بكثير، ولا جائز أن تتحد بطريق هشام بن عروة، لأن فيها أن سودة كانت ممن وافق عائشة على قولها أجد ريح مغافير، ويرجحه أيضا ما مضى في كتاب الهبة عن عائشة أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم
(1) البخاري (4629).
(2)
مسلم (1479).
(3)
فتح الباري 9/ 376.
كن حزبين أنا وسودة وحفصة وصفية في حزب وزينب بنت جحش وأم سلمة والباقيات في حزب فهذا يرجح أن زينب هي صاحبة العسل، ولهذا غارت عائشة منها لكونها من غير حزبها والله أعلم. (1)
5 -
وكذلك رجح القرطبي ترجيحًا واضحًا فقال: وإنما الصحيح أنه كان في العسل، وأنه شربه عند زينب وتظاهرت عليه عائشة وحفصة فيه، فجرى ما جرى فحلف ألَّا يشربه، وأسر ذلك ونزلت الآية في الجميع (2).
وهذا موافق لترجيح ابن حجر السابق ولترجيح ابن كثير، لأنهم يتحدثون عن سبب النزول لا عن شرب العسل وعدد مراته، وسبب الشبهة عند صاحبها هو الربط بين هذا وذاك، لكن هذا لا يمنع وقوع كل هذا من تحريم مارية وشرب العسل عند حفصة وسودة، ثم نزول آية التحريم عند تظاهر عائشة وحفصة بعد شرب العسل عند زينب والله أعلم.
6 -
ولنحو هذا مال الطبري رحمه الله فإنه جمع بين هذا كله بقوله:
والصواب من القول في ذلك أن يقال: كان الذي حرّمه النبيّ صلى الله عليه وسلم على نفسه شيئًا كان الله قد أحله له، وجائز أن يكون ذلك كان جاريته، وجائز أن يكون كان شرابًا من الأشربة، وجائز أن يكون كان غير ذلك، غير أنه أيّ ذلك كان، فإنه كان تحريم شيء كان له حلالًا فعاتبه الله على تحريمه على نفسه ما كان له قد أحله، وبين له تحلة يمينه في يمين كان حلف بها مع تحريمه ما حرّم على نفسه. اهـ (3)
7 -
وممن جمع بين هذا كله الشوكاني رحمه الله فقال بعد ذكر السببين:
والجمع ممكن بوقوع القصتين: قصة العسل، وقصة مارية، وأن القرآن نزل فيهما جميعًا، وفي كل واحد منهما أنه أسرّ الحديث إلى بعض أزواجه. وأما ما ثبت في الصحيحين وغيرهما
(1) فتح الباري 9/ 376.
(2)
تفسير القرطبي (18/ 157).
(3)
تفسير الطبري (12/ 147)، والأثر الذي استدل به إسناده حسن فيه مسلمة بن علقمة ضعفه أحمد، وقال أبو حاتم: صالح الحديث الكاسف (5441)، والجرح والتعديل 8/ 267، وقال ابن حجر: صدوق له أوهام. التقريب (6661).