الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالمخلوق ولا تتصور في حق الخالق، بل المحب لربه يحب أن الناس كلهم يحبونه، ويذكرونه، ويعبدونه، ويحمدونه، ولا شيء أقر لعينه من ذلك بل هو يدعو إلى ذلك بقوله وعمله (1). وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبة الكسوف:"والله يا أمة محمد ما أحدٌ أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته". (2)
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس شيء أغير من الله؛ من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله؛ من أجل ذلك أثنى على نفسه، ولا أحد أحاب إليه العذر من الله؛ من أجل ذلك أرسل الرسل"(3).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يغار، والمؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم عليه". (4)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن يغار، والله أشد غيرة". (5)
وملاك الغيرة وأعلاها ثلاثة أنواع: غيرة العبد لربه أن تنتهك محارمه وتضيع حدوده، وغيرته على قلبه أن يسكن إلى غيره وأن يأنس بسواه، وغيرته على حرمته أن يتطلع إليها غيره، فالغيرة التي يحبها الله ورسوله دارت على هذه الأنواع الثلاثة، وما عداها فإما: من خدع الشيطان، وإما بلوى من الله، كغيرة المرأة على زوجها أن يتزوج عليها. (6)
الوجه الثاني: بيان أن غيرة المرأة على زوجها أمر فطري طبعي لا تستطيع المرأة دفعه عن نفسها
.
ومن حاول ذلك فقد حاول منها في أمر خلاف ما تقدر عليه، في صفة لازمة للمرأة التي يبحث القوم عن نصرتها وتخليصها من الظلم، أم أن التي يتكلمون عنها ليست امرأة؟ !
وبيان ذلك ما يلي:
(1) روضة المحبين (274).
(2)
البخاري (4923)، ومسلم (901) من حديث عائشة
(3)
البخاري (4358، 4361، 4922، 6968)، ومسلم (2760).
(4)
البخاري (4925)، ومسلم (2761).
(5)
مسلم (2762).
(6)
روضة المحبين (295 - 316) بتصرف، وانظر: فيض القدير 2/ 294.
أولا: هذه الغيرة في الحقيقة نابعة من الحب للمحبوب لا من كراهية من تسبب في الغيرة، ومن ذلك ما نذكره:
1 -
غيرة عائشة، وسنذكر ذلك في المحور الثالث بالتفصيل إن شاء الله تعالى.
2 -
غيرة سارة زوجة إبراهيم، وهذه بالطبع لم تنشأ من البغض لهاجر التي تذكرها بمن الله عليها عندما خلصها من يد الفاجر، ثم هي التي وهبتها لإبراهيم عليه السلام، ولكنها رأتها بقلب من تحب وكانت قبل ذلك ترى أن هذا الرجل العظيم خاصًا بها، ولم يعاقبها إبراهيم عليه السلام على هذه الغيرة، ولا أوحى الله إليه في عقابها بشيء، بل أمره بأن يهاجر بهاجر إلى مكة وذلك لحكمة يعلمها الله تعالى ظهرت بعد وعرفت؛ ولأن الغيرة فطرة في النساء والله تعالى فطرهن على ذلك.
وها هي قصتها عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لمَّا كَانَ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَبَيْنَ أَهْلِهِ مَا كَانَ خَرَجَ بِإِسْمَاعِيلَ وَأُمِّ إِسْمَاعِيلَ وَمَعَهُمْ شَنَّةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تَشْرَبُ مِنْ الشَّنَّةِ فَيَدِرُّ لَبَنُهَا عَلَى صَبِيِّهَا، حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ فَوَضَعَهَا تَحْتَ دَوْحَةٍ ثُمَّ رَجَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى أَهْلِهِ فَاتَّبَعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ حَتَّى لمَّا بَلَغُوا كَدَاءً نَادَتْهُ مِنْ وَرَائِهِ: يَا إِبْرَاهِيمُ، إِلَى مَنْ تَتْرُكُنَا؟ قَالَ: إِلَى الله. قَالَتْ: رَضِيتُ بِالله. قَالَ: فَرَجَعَتْ فَجَعَلَتْ تَشْرَبُ مِنْ الشَّنَّةِ وَيَدِرُّ لَبَنُهَا عَلَى صَبِيِّهَا، حَتَّى لمَّا فَنِيَ الْمَاءُ قَالَتْ. لَوْ ذَهَبْتُ فَنَظَرْتُ لَعَلِّي أُحِسُّ أَحَدًا. قَالَ: فَذَهَبَتْ فَصَعِدَتْ الصَّفَا فَنَظَرَتْ وَنَظَرَتْ هَلْ تُحِسُّ أَحَدًا؟ فَلَمْ تُحِسَّ أَحَدًا .... ، فَبَلَغَ ابْنُهَا فَنَكَحَ فِيهِمْ امْرَأَةً. قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُ بَدَا لِإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ لِأَهْلِهِ: إِنِّي مُطَّلِعٌ تَرِكَتِي. قَالَ: فَجَاءَ فَسَلَّمَ فَقَالَ: أَيْنَ إِسْمَاعِيلُ؟ فَقَالَتْ امْرَأَتُهُ: ذَهَبَ يَصِيدُ. قَالَ: قُولِي لَهُ إِذَا جَاءَ غَيِّرْ عَتبَةَ بَابِكَ، فَلَمّا جَاءَ أَخْبَرَتْه. قَالَ: أَنْتِ ذَاكِ فَاذْهَبِي إِلَى أَهْلِكِ. قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُ بَدَا لِإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ لِأَهْلِهِ: إِنِّي مُطَّلِعٌ تَرِكَتِي. قَالَ: فَجَاءَ فَقَالَ أَيْنَ إِسْمَاعِيلُ؟ فَقَالَتْ امْرَأَتُهُ: ذَهَبَ يَصِيدُ، فَقَالَتْ: أَلا تَنْزِلُ فَتَطْعَمَ وَتَشْرَبَ؟ فَقَالَ: وَمَا طَعَامُكُمْ وَمَا شَرَابُكُمْ؟ قَالَتْ: طَعَامُنَا اللَّحْمُ وَشَرَابُنَا المُاءُ. قَالَ: اللَّهُمَّ، بَارِكْ لَهُمْ فِي طَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ. قَالَ: فَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم: بَرَكَةٌ بِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم. (1)
(1) البخاري (3365).
وفي رواية قال ابن عباس: أولُ ما اتخذ النساء النطق مِنْ قبلُ أمُّ اسماعيل اتخذت منطقًا لتعفي أثرها على سارة. (1)
وما حصل من غيرة سارة من هاجر هو من هذا الباب، فطلب الزوجة من زوجها أن لا ترى ضرتها، أو أن لا تجاورها أمرٌ غير مستنكر، مع أن الذي ذكره أهل العلم أن إبراهيم عليه السلام هو الذي خرج بهاجر وابنه، لا أن سارة زوجه طلبت منه ذلك.
قال ابن كثير: والمقصود أن هاجر عليها السلام لما ولد لها إسماعيل اشتدت غيرة سارة منها وطلبت من الخليل أن يغيَّب وجهها عنها، فذهب بها وبولدها فسار بهما حتى وضعهما حيث مكة اليوم، ويقال: إن ولدها كان إذ ذاك رضيعًا، فلما تركهما هناك وولى ظهره عنهما قامت إليه هاجر وتعلقت بثيابه، وقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتدعنا هاهنا وليس معنا ما يكفينا؟ فلم يجبها، فلما ألحت عليه وهو لا يجيبها قالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: فإذًا لا يضيعنا. (2)
وهل هذه الغيرة مما ينقص من شأن سارة زوجة إبراهيم عليه السلام؟
والجواب: لا؛ لأن غيرة المرأة من ضرائرها أمرٌ جُبلت عليه، وهو غير مكتسب، ولذا فإنها لا تؤاخذ عليه إلا أن تتعدى، وتقع بسبب الغيرة فيما حرم الله عليها من ظلم أختها، فتقع في غيبة أو نميمة أو تؤدي بها غيرتُها إلى طلب طلادتى ضرتها أو الكيد لها وما شابه ذلك.
قال الحافظ ابن حجر: وأصل الغيرة غير مكتسب للنساء، لكن إذا أفرطت في ذلك بقدر زائد عليه تلام، وضابط ذلك ما ورد في الحديث عن جابر بن عتيك الأنصاري رفعه:"إِنَّ مِنْ الْغَيْرَةِ مَا يُحِبُّ الله عز وجل، وَمِنْهَا مَا يَبْغُضُ الله عز وجل، فَأَمَّا الْغَيْرَةُ الَّتِي يحبُّ الله عز وجل فَالْغيرَةُ فِي الرِّيبَةِ، وَأَمَّا الْغيرَةُ الَّتِي يَبْغُضُ الله عز وجل فَالْغَيْرَةُ فِي غَيْرِ رِيبَةٍ"(3).
(1) البخاري (3364).
(2)
البداية والنهاية 1/ 154.
(3)
سبق تخريجه.
فالغيرة منهما -أي: من الزوج والزوجة- إن كانت لما في الطباع البشرية التي لم يسلم منها أحد من النساء فتعذر فيها، ما لم تتجاوز إلى ما يحرم عليها من قول أو فعل، وعلى هذا يحمل ما جاء من السلف الصالح عن النساء في ذلك. (1)
وقال ابن مفلح: قال الطبري وغيره من العلماء: الغيرة مسامح للنساء فيها، لا عقوبة عليهن فيها لما جُبِلن عليه من ذلك. (2)
وقال الحافظ ابن حجر شرحًا لحديث كسر عائشة لإناء إحدى ضرائرها: وقالوا -أي: جميع من شرحوا الحديث-: فِيهِ إِشَارَة إِلَى عَدَم مُؤَاخَذَة الْغَيْرَاء بِمَا يَصْدُر مِنْهَا؛ لأَنَّهَا فِي تِلْكَ الْحَالَة يَكُون عَقْلهَا مَحْجُوبًا بِشِدَّةِ الْغَضب الَّذِي أَثَارَتْهُ الْغَيْرَة (3).
وما وقع من فضليات النساء من الغيرة إنما هو مما لم يسلم منه أحد، وهنَّ غير مؤاخذات عليه؛ لأنه ليس في فعلهن تعدٍّ على شرع الله تعالى، وما حصل من غيرة سارة من هاجر هو من هذا الباب، فطلب الزوجة من زوجها أن لا ترى ضرتها، أو أن لا تجاورها أمرٌ غير مستنكر، مع أن الذي ذكره أهل العلم أن إبراهيم عليه السلام هو الذي خرج بهاجر وابنه، لا أن سارة زوجه طلبت منه ذلك.
قال الحافظ ابن حجر: وأما إذا كان الزوج مقسطًا عادلًا وأدى لكل من الضرتين حقها، فالغيرة منهما إن كانت لما في الطباع البشرية التي لم يسلم منها أحد من النساء فتعذر فيها ما لم تتجاوز إلى ما يحرم عليها من قول أو فعل، وعلى هذا يحمل ما جاء عن السلف الصالح من النساء في ذلك. (4)
4 -
ولهذا الأمر الذي ذكرناه حرم الشرع الجمع بين أنواع معلومة من النساء لئلا تتقطع الأرحام بسبب الغيرة، ومعلوم أن المرأة تكره الزواج من زوجها بأختها؛ لا لأنها تكرهها فهي أختها من أبويها، ولكنها تحب أن تستأثر بزوجها.
(1) فتح الباري 9/ 326.
(2)
الآداب الشرعية 1/ 248.
(3)
فتح الباري 9/ 325.
(4)
فتح الباري 9/ 326.