الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإنما أثير من قبل السبئية وأعوانهم من الغوغاء، ولم يكن الإصلاح هدف طلحة والزبير وعائشة وحدهم، بل إن عليًا أيضًا لم ير في مسيره إليهم إلا الإصلاح وجمع الكلمة، وعلى العموم لم ير عليّ وطلحة والزبير وعائشة -رضوان اللَّه عليهم- أمرًا أمثل من الصلح وترك الحرب، فافترقوا على ذلك، وإنه لموقف رائع من طلحة والزبير رضي الله عنهما، وهو لا يقل روعة عن موقف أمير المؤمنين علي رضي الله عنه فكل منهم قبل الصلح ووافق عليه، وكل منهم كان يتورع أن يسفك دمًا أو يقتل مسلمًا.
ولا يمكن أن يفهم عاقل يقف على النصوص السابقة أن زعماء الفريقين هم الذين حركوا المعركة وأوقدوا نارها، وكيف يتأتى ذلك وكلا الطرفين كانت كلمة الصلح قد نزلت من نفوسهم وقلوبهم منزلًا حسنًا؟ ولكنهم قتلة عثمان أصحاب ابن سبأ -عليهم من اللَّه ما يستحقون- هم الذين أشعلوا فتيلها وأججوا نيرانها حتى يفلتوا من حد القصاص.
وقد يسأل سائل لماذا سمح علي رضي الله عنه لأهل الفتنة بالبقاء معه في جيشه ولم يعاقبهم على فعلتهم الشنيعة
؟ !
وجوابه
1 -
كان سبب إبقاء علي على أهل الفتنة في جيشه أنهم كانوا سادات في أقوامهم، فكان عليّ يرى أن يصبر عليهم إلى أن تستقر الأمور.
2 -
وقد أجاب عن ذلك الإمام الطحاوي في شرح العقيدة الطحاوية بقوله: وكان في عسكر عليّ رضي الله عنه من أولئك الطغاة الخوارج الذين قتلوا عثمان، من لم يُعرف بعينه، ومن تنتصر له قبيلته، ومن لم تقم عليه حجة بما فعله، ومن في قلبه نفاق لم يتمكن من إظهاره كله. (1)
3 -
وعلى كل حال كان موقف علي رضي الله عنه، موقف المحتاط منهم، المتبرىء من فعلهم، وهو -وإن كان لم يخرجهم من عسكره- فقد كان يعاملهم بحذر وينظر إليهم بشزر، حتى قال الإمام الطبري في تاريخه. (2): بأنه لم يول أحد منهم أثناء استعداده للمسير إلى الشام -يقصد مسيره لحرب صفين-، حيث دعا ولده محمد بن الحنفية وسلمه اللواء وجعل عبد
(1) شرح العقيدة الطحاوية (ص 483).
(2)
تاريخ الطبري (3/ 495).
اللَّه بن عباس رضي الله عنهما قائد الميمنة وعمر بن أبي سلمة رضي الله عنه على الميسرة وجعل على مقدمة الجيش أبا ليلى بن عمر بن الجراح واستخلف على المدينة قثم بن العباس رضي الله عنهم.
وهذه بادرة منه رضي الله عنه ليعلن تبرؤه من أولئك المارقين، ويثبت قدرته على السيطرة على أمر المسلمين من غير عون منهم، فقد كان له في المسلمين الموالين له والمؤيدين لخلافته ما يغنيه عن الاستعانة بهم والتودد إليهم. وهذا أقصى ما يمكنه فعله بتلك الطائفة إذ ذاك، وهو كافٍ في عذره لأنهم مئات ولهم قرابة وعشائر في جيشه، فما يأمن لو عاملهم بأكثر من هذا من الشدة أن يمتد حبل الفتنة في الأمة، كما حصل ذلك لطلحة والزبير وعائشة بالبصرة حين قتلوا بعضًا منهم، فغضب لهم قبائلهم واعتزلوهم. (1)
فلما نزل الناس منازلهم واطمأنوا خرج عليّ وخرج طلحة والزبير فتوافقوا وتكلموا فيما اختلفوا فيه، فلم يجدوا أمرًا هو أمثل من الصلح، فافترقوا على ذلك، رجع عليّ إلى عسكره ورجع طلحة والزبير إلى عسكرهما وأرسل طلحة والزبير إلى رؤساء أصحابهما، وأرسل عليّ إلى رؤساء أصحابه ما عدا أولئك الذين حاصروا عثمان رضي الله عنه، فبات الناس على نية الصلح والعافية، وهم لا يشكون في الصلح فكان بعضهم بحيال بعض، وبعضهم يخرج إلى بعض لا يذكرون ولا ينوون إلا الصلح فباتوا بخير ليلة باتوها منذ مقتل عثمان رضي الله عنه، وبات الذين أثاروا الفتنة بشرّ ليلة باتوها قط، إذ أشرفوا على الهلاك وجعلوا يتشاورون ليلتهم كلها. (2)
فاجتمعوا على إنشاب الحرب في السر، فغدوا في الغلس وعليهم ظلمة وما يشعر بهم جيرانهم، فوضعوا فيهم السيوف، فثار أهل البصرة وثار كل قوم في وجوه الذين باغتوهم، فقام طلحة ينادي وهو على دابته -وقد غشيه الناس- فيقول: يا أيها الناس أتنصتون؟ فجعلوا يركبونه ولا ينصتونه، فما زاد أن قال: أف، أف، فراش نار وذبان طمع. (3) وهل يكون فراش النار وذبان الطمع غير أولئك السبئية؟ ! التحم القتال من
(1) إفادة الأخيار ببراءة الأبرار للتباني (2/ 52).
(2)
تاريخ الطبري (4/ 506 - 507) من طريق سيف بن عمر.
(3)
تاريخ خليفة (182).