الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صبر نفسه ولم يدفع عنها، ولم يسفك دم مسلم في الدفع عنه فكيف في طلب طاعته وأمثال هذه الأمور التي يتسبب بها الزائغون على المتشيعين العثمانية والعلوية! ، وكل فرقة من المتشيعين مقرة مع ذلك بأن معاوية ليس كفًا لعليّ بالخلافة ولا يجوز أن يكون خليفة مع إمكان استخلاف عليّ رضي الله عنه، فإن فضل عليّ وسابقيته وعلمه ودينه وشجاعته وسائر فضائله كانت عندهم ظاهرة معروفة كفضل إخوانه أبى بكر وعمر وعثمان وغيرهم رضي الله عنهم (1).
ولم يكن بقي من أهل الشورى غيره وغير سعد، وسعد كان قد ترك هذا الأمر وكان الأمر قد انحصر في عثمان وعليّ، فلما توفي عثمان لم يبق لها معين إلا عليّ رضي الله عنه، وإنما وقع الشر بسبب قتل عثمان. فحصل بذلك قوة أهل الظلم والعدوان وضعف أهل العلم والإيمان حتى حصل من الفرقة والاختلاف ما صار يطاع فيه مَن غيره أولى منه بالطاعة ولهذا أمر اللَّه بالجماعة والائتلاف ونهى عن الفرقة والاختلاف. ولهذا قيل ما يكرهون في الجماعة خير مما يجمعون من الفرقة.
دفع إشكال حديث "ويح عمار تقتله الفئة الباغية
".
1 -
قد تأوله بعضهم على أن المراد بالباغية الطالبة بدم عثمان كما قالوا نبغي ابن عفان بأطراف الأسل، وليس بشيء.
2 -
بل يقال: ما قاله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فهو حق كما قاله، وليس في كون عمار تقتله الفئة الباغية ما ينافي ما ذكرناه فإنه قد قال اللَّه تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)} (الحجرات: 9 - 10) فقد جعلهم -مع وجود الاقتتال والبغي- مؤمنين إخوة، بل مع أمره بقتال الفئة الباغية جعلهم مؤمنين، وليس كل ما كان بغيًا وظلمًا أو عدوانًا يخرج عموم الناس عن الإيمان ولا يوجب لعنتهم. فكيف يخرج ذلك من كان من خير القرون!
وكل من كان باغيًا أو ظالمًا أو معتديًا أو مرتكبًا ما هو ذنب فهو قسمان: متأول، وغير
(1) مجموع الفتاوى (35/ 72).
متأول، فالمتأول: المجتهد كأهل العلم والدين الذين اجتهدوا واعتقد بعضهم حل أمور واعتقد الآخر تحريمها كما استحل بعضهم بعض أنواع الأشربة، وبعضهم بعض المعاملات الربوية وبعضهم بعض عقود التحليل والمتعة وأمثال ذلك فقد جرى ذلك.
وأمثاله من خيار السلف. فهؤلاء المتأولون المجتهدون غايتهم أنهم مخطئون، وقد قال اللَّه تعالى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} ، وقد ثبت في الصحيح أن اللَّه استجاب هذا الدعاء. وقد أخبر سبحانه عن داود وسليمان عليهما السلام أنهما حكما في الحرث وخص أحدهما بالعلم والحكم، مع ثنائه على كل منهما بالعلم والحكم، والعلماء ورثة الأنبياء فإذا فهم أحدهم من المسألة ما لم يفهمه الآخر لم يكن بذلك ملومًا ولا مانعًا لما عرف من علمه ودينه، وإن كان ذلك مع العلم بالحكم يكون إثمًا وظلمًا والإصرار عليه فسقًا، بل متى علم تحريمه ضرورة كان تحليله كفرًا. فالبغي هو من هذا الباب، أما إذا كان الباغي مجتهدًا ومتأولًا ولم يتبين له أنه باغ، بل اعتقد أنه على الحق، وإن كان مخطئًا في اعتقاده لم تكن تسميته باغيًا موجبة لإثمه فضلًا عن أن توجب فسقه، والذين يقولون بقتال البغاة المتأولين يقولون مع الأمر بقتالهم: قتالنا لهم لدفع ضرر بغيهم لا عقوبة لهم، بل للمنع من العدوان، ويقولون: إنهم باقون على العدالة لا يفسقون ويقولون: هم كغير المكلف كما يمنع الصبي، والمجنون، والناسي، والمغمى عليه، والنائم من العدوان أن لا يصدر منهم، بل تمنع البهائم من العدوان. ويجب على من قتل مؤمنًا خطأ الدية بنص القرآن مع أنه لا إثم عليه في ذلك، وهكذا من رفع إلى الإمام من أهل الحدود، وتاب بعد القدرة عليه فأقام عليه الحد، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له والباغي المتأول يجلد عند مالك والشافعي وأحمد، ونظائره متعددة ثم بتقدير أن يكون البغي بغير تأويل يكون ذنبًا، والذنوب تزول عقوبتها بأسباب متعددة بالحسنات الماحية والصائب المكفرة وغير ذلك.
3 -
ثم إن عمارًا تقتله الفئة الباغية ليس نصًا في أن هذا اللفظ لمعاوية وأصحابه، بل يمكن أنه أريد به تلك العصابة التي حملت عليه حتى قتلته وهى طائفة من العسكر ومن
رضي بقتل عمار كان حكمه حكمها، ومن المعلوم أنه كان في المعسكر من لم يرض بقتل عمار كعبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وغيره، بل كل الناس كانوا منكرين لقتل عمار حتى معاوية، وعمرو.
4 -
والفقهاء ليس فيهم من رأيه القتال مع من قتل عمارًا لكن لهم قولان مشهوران كما كان عليهما أكابر الصحابة. منهم من يرى القتال مع عمار وطائفته، ومنهم من يرى الإمساك عن القتال مطلقًا.
وفى كل من الطائفتين طوائف من السابقين الأولين:
في القول الأول عمار، وسهل بن حنيف، وأبو أيوب.
وفي الثاني سعد بن أبى وقاص، ومحمد بن مسلمة، وأسامة بن زيد، وعبد اللَّه بن عمر ونحوهم، ولعل أكثر الأكابر من الصحابة كانوا على هذا الرأي.
ولم يكن في العسكرين بعد عليّ أفضل من سعد بن أبى وقاص، وكان من القاعدين.
5 -
وحديث عمار قد يحتج به من رأى القتال؛ لأنه إذا كان قاتلوه بغاة فاللَّه يقول: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي. . .} .
6 -
والممسكون يحتجون بالأحاديث الصحيحة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في أن القعود عن الفتنة خير من القتال فيها، وتقول إن هذا القتال ونحوه هو قتال الفتنة كما جاءت أحاديث صحيحة تبين ذلك.
7 -
وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالقتال ولم يرض به، وإنما رضي بالصلح. وإنما أمر اللَّه بقتال الباغي ولم يأمر بقتالى ابتداءً، بل قال:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الحجرات: 9) قالوا: والاقتتال الأول لم يأمر اللَّه به، ولا أمر كل من بغي عليه أن يقاتل من بغي عليه، فإنه إذا قتل كل باغ كفر، بل غالب المؤمنين، بل غالب الناس لا يخلو من ظلم وبغي، ولكن إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين فالواجب
الإصلاح بينهما وإن لم تكن واحدة منهما مأمورة بالقتال فإذا بغت الواحدة بعد ذلك قوتلت، لأنها لم تترك القتال ولم تجب إلى الصلح، فلم يندفع شرها إلا بالقتال، فصار قتالها بمنزلة قتال الصائل الذي لا يندفع ظلمه عن غيره إلا بالقتال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ"(1)، قالوا: فبتقدير أن جميع العسكر بغاة فلم نؤمر بقتالهم ابتداء بل أمرنا بالإصلاح بينهم وأيضًا فلا يجوز قتالهم إذا كان الذين مع عليّ ناكلين عن القتال فإنهم كانوا كثيري الخلاف عليه ضعيفي الطاعة له، والمقصود أن هذا الحديث لا يبيح لعن أحد من الصحابة ولا يوجب فسقه وأما أهل البيت فلم يسبوا قط وللَّه الحمد. (2)
8 -
وقال الهيثمي: ومن اعتقاد أهل السنة والجماعة أن ما جرى بين معاوية وعليّ رضي الله عنهما من الحروب فلم يكن لمنازعة معاوية لعليّ في الخلافة للإجماع على أحقيتها لعليّ، فلم تهج الفتنة بسببها، وإنما هاجت بسبب أن معاوية ومن معه طلبوا من عليّ تسليم قتلة عثمان إليهم لكون معاوية ابن عمه، فامتنع عليّ ظنًّا منه أن تسليمهم إليهم على الفور مع كثرة عشائرهم واختلاطهم بعسكر علي يؤدي إلى اضطراب وتزلزل في أمر الخلافة التي بها انتظام كلمة أهل الإسلام سيما وهي في ابتدائها لم يستحكم الأمر فيها، فرأى عليّ رضي الله عنه أن تأخير تسليمهم أصوب إلى أن يرسخ قدمه في الخلافة ويتحقق التمكن من الأمور فيها على وجهها ويتم له انتظام شملها، واتفاق كلمة المسلمين ثم بعد ذلك يلتقطهم واحدًا فواحدًا ويسلمهم إليهم. ويدل لذلك أن بعض قتلته عزم على الخروج على عليّ ومقاتلته لما نادى يوم الجمل بأن يخرج عنه قتلة عثمان، وأيضًا فالذين تمالؤا على قتل عثمان كانوا جموعًا كثيرة كما علم مما قدمته في قصة محاصرتهم له إلى أن قتله بعضهم جمع من أهل مصر قيل سبعمائة، وقيل ألف، وقيل خمسمائة، وجمع من الكوفة، وجمع من البصرة، وغيرهم قدموا كلهم المدينة وجرى منهم ما جرى، بل ورد أنهم هم وعشائرهم
(1) أصله في البخاري (2348)، ومسلم (141)، وهذا لفظ الترمذي (1485).
(2)
مجموع الفتاوى (35/ 72 - 79).
نحو من عشرة آلاف. فهذا هو الحامل لعليّ رضي الله عنه على الكف عن تسليمهم لتعذره كما عرفت، ويحتمل أن عليًا رضي الله عنه رأى أن قتلة عثمان بغاة حملهم على قتله تأويل فاسد استحلوا به دمه رضي الله عنه لإنكارهم عليه أمورًا، كجعله مروان ابن عمه كاتبًا له ورده إلى المدينة بعد أن طرده النبي صلى الله عليه وسلم منها، وتقديمه أقاربه في ولاية الأعمال، والباغي إذا انقاد إلى الإمام العدل لا يؤاخذ بما أتلفه في حال الحرب عن تأويل دمًا كان أو مالًا كما هو المرجح من قول الشافعي رضي الله عنه، وبه قال جماعة آخرون من العلماء. وهذا الاحتمال -وإن أمكن- لكن ما قبله أولى بالاعتماد منه؛ فإن الذي ذهب إليه كثيرون من العلماء أن قتلة عثمان لم يكونوا بغاة، وإنما كانوا ظلمة وعتاة لعدم الاعتداد بشبههم ولأنهم أصروا على الباطل بعد كشف الشبهة وإيضاح الحق لهم، وليس كل من انتحل شبهة يصير بها مجتهدًا، لأن الشبهة تعرض للقاصر عن درجة الاجتهاد، ولا ينافي هذا ما هو المقرر في مذهب الشافعي رضي الله عنه من أن من لهم شوكة دون تأويل لا يضمنون ما أتلفوه في حال القتال كالبغاة لأن قتل عثمان رضي الله عنه لم يكن في قتال، فإنه لم يقاتل، بل نهى عن القتال حتى إن أبا هريرة رضي الله عنه لما أراده قال له عثمان: عزمت عليك يا أبا هريرة إلا رميت بسيفك إنما تراد نفسي وسأقي المسلمين بنفسي كما أخرجه ابن عبد البر عن سعيد المقبري عن أبي هريرة.
9 -
ومن اعتقاد أهل السنة والجماعة أيضًا أن معاوية رضي الله عنه لم يكن في أيام عليّ خليفة؛ وإنما كان من الملوك وغاية اجتهاده أنه كان له أجر واحد على اجتهاده، وأما عليّ رضي الله عنه فكان له أجران أجر على اجتهاده، وأجر على إصابته. (1)
10 -
وهكذا تتضافر الروايات وتشير إلى أن معاوية خرج للمطالبة بدم عثمان وأنه صرح بدخوله في طاعة علي رضي الله عنهم إذا أقيم الحد على قتلة عثمان ولو فرض أنه اتخذ قضية القصاص والثأر لعثمان ذريعة لقتال عليّ طمعا في السلطان، فماذا سيحدث سيحدث لو تمكن عليّ من إقامة الحد على قتلة عثمان حتمًا ستكون النتيجة خضوع معاوية لعليّ ومبايعته له؛ لأنه التزم
(1) الصواعق المحرقة لابن حجر المكي (2/ 622، 623، 624).