الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَا حَدَّثْتكمْ شَيْئًا أَبَدًا {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} إِلَى قَوْلِهِ {الرَّحِيمُ} . (1)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أَلْجمَهُ الله بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". (2)
الشبهة الخامسة: إنكار عمر رضي الله عنه على إكثار أبي هريرة من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
-.
حيث إنهم قالوا: بأن عمر كان يري الإقلال من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما رأى أن أبا هريرة يكثر الحديث أنكر ذلك عليه وقال: أبو هريرة أكذب المحدثين، وقال: لتتركن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لألحقنك بأرض دوس، ولما أصر أبو هريرة على الرواية، حبسه مع من كان يكثر الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال أبو هريرة لم مات عمر: ما كنا نستطيع أن نقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبض عمر وكان يقول: إني لأحدث أحاديث، لو تكلمت بها في زمن عمر، لشج رأسي.
أولًا: حول مسألة إقلال عمر رضي الله عنه من الرواية
.
والرد على ذلك من وجوه:
الوجه الأول: هذا مذهب لعمر رضي الله عنه وبعض الصحابة، وبيان الحكمة التي كان يريدها من ذلك
.
قال محمد عجاج: لقد عرف الصحابة منزلة السنة فتمسكوا بها، وتتبعوا آثار الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبوا أن يخالفوها متى ثبتت عندهم، كما أبوا أن ينحرفوا عن شيء فارقهم عليه، واحتاطوا في رواية الحديث عنه صلى الله عليه وسلم خشية الوقوع في الخطأ، وخوفًا أن يتسرب إلى السنة المطهرة الكذب أو التحريف، وهو المصدر التشريعي الأول بعد القرآن الكريم، ولهذا اتبعوا كل سبيل يحفظ على الحديث نوره، فآثروا الاعتدال في الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إن بعضهم فضّل الإقلال منها.
قال ابن قتيبة: وكان عمر شديد الإنكار على من أكثر الرواية أو أتى بخبر في الحكم
(1) البخاري (2350)، مسلم (2492).
(2)
صحيح. أخرجه أحمد في المسند 2/ 344، وأبو داود في السنن (3658) من حديث حماد أخبرنا علي بن الحكم، عن عطاء، عن أبي هريرة به. وصححه الألباني في صحيح الجامع (6284).
لا شاهد له عليه وكان يأمرهم أن يقلوا الرواية يريد بذلك أن لا يتسع الناس فيها ويدخلها الشوب ويقع التدليس والكذب من المنافق والفاجر والأعرابي، وكان كثير من جلة الصحابة وأهل الخاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم كأبي بكر والزبير وأبي عبيدة والعباس بن عبد المطلب يقلون الرواية عنه بل كان بعضهم لا يكاد يروي شيئًا كسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة.
والتزم الصحابة -في الخلافة الراشدة- منهاج عمر رضي الله عنه، وأتقنوا أداء الحديث، وضبطوا حروفه ومعناه، وكانوا يخشون كثيرًا أن يقعوا في الخطأ، لذلك نرى بعضهم- مع كثرة تحملهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكثر من الرواية في ذلك العهد، حتى إن منهم من كان لا يحدّث حديثًا في السنة، ونرى من تأخذه الرعدة، ويقشعر جلده ويتغير لونه ورعًا واحترامًا لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن هذا ما رواه عمرو بن ميمون قال: مَا أخطأني ابْن مَسْعُودٍ عَشِيَّةَ خَمِيسٍ إِلَّا أَتَيْتُهُ فِيهِ، قَالَ: فَمَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ لشيء قَطُّ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَلَمّا كَانَ ذَاتَ عَشِيَّةٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ فَنكسَ. قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ فَهُوَ قَائِم مُحَلَّلَةً أَزْرَارُ قَمِيصِهِ قَدِ اغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ، قَالَ أَوْ دُونَ ذَلِكَ أَوْ فَوْقَ ذَلِكَ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ أَوْ شَبِيهًا بِذَلِكَ. (1)
وعن أنس رضي الله عنه أنه قال: إِنَّهُ ليمنعني أَنْ أُحَدِّثَكُمْ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ تَعَمَّدَ عَلَيَّ كَذِبًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ". (2)
وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أدركت مائة وعشرين من الأنصار من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ما منهم أحد يحدث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه إياه، ولا يستفتى عن شيء إلا ود أن أخاه
(1) صحيح. أخرجه أحمد في المسند 1/ 452، وابن ماجه في السنن (32) من حديث معاذ بن معاذ، عن ابن عون، حدثنا مسلم البطين، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن عمرو بن ميمون به. وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (21).
(2)
البخاري (108)، مسلم (2).
كفاه إياه وفي رواية يسأل أحدهم المسألة فيردها هذا إلا هذا حتى ترجع إلى الأول. (1)
هكذا تشدد الصحابة في الحديث، وأمسك بعضهم عنه كراهية التحريف، أو الزيادة والنقصان في الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن كثرة الرواية كانت في نظر كثير منهم مظنة الوقوع في الخطأ، والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الكذب عليه، وعن رواية ما يرى أنه كذب، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِب فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِين". (2)
وكان الصحابة رضي الله عنهم يخشون أن يقعوا في الكذب عامةً، فكيف يكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم، قال عِليٌّ رضي الله عنه: إِذَا حَدَّثْتكُمْ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا فَلأَنْ أَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكْذِبَ عَلَيْهِ. (3)
وقد تشدد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تطبيق هذا المنهاج، فحمل الناس على التثبت مما يسمعون، والتروي في ما يؤدون، فكان له الفضل الكبير في صيانة الحديث من الشوائب والدّخل.
وقد كان تشدد عمر هذا والصحابة معه للمحافظة على القرآن الكريم، بجانب المحافظة على السنة، فقد خشي أن يشتغل الناس بالرواية عن القرآن الكريم -وهو دستور الإسلام- فأراد أن يحفظ المسلمون القرآن جيدًا، ثم يعتنوا بالحديث الشريف الذي لم يكن دُوِّن كله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كالقرآن، فنهج لهم التثبت العلمي والإقلال من الرواية خشية الوقوع في الخطأ، وقد عُرف إتقان بعض الصحابة وحفظهم الجيد، فسمح لهم بالتحديث.
ويتجلى منهاج عمر بن الخطاب رضي الله عنه في وصيته التي أوصى بها وفده إلى الكوفة، فعن قرظة بن كعب أنه قال: بَعَثنا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى الْكُوفَةِ وَشَيَّعَنَا فَمَشَى مَعَنَا إِلَى مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ صِرَار، فَقَالَ أَتَدْرُونَ لِمَ مَشَيْتُ مَعَكُمْ، قَالَ: قُلْنَا: لِحَقِّ صُحْبَةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَلِحَقِّ الأَنْصَارِ، قَالَ: لَكِنِّي مَشَيْتُ مَعَكُمْ لِحَدِيثٍ أَرَدْتُ أَنْ أُحَدِّثَكُمْ بِهِ فَأَرَدْتُ أَنْ تَحْفَظُوهُ لممشاي مَعَكُمْ،
(1) مختصر المؤمل في الرد إلى الأمر الأول لأبي شامة المقدسي (64).
(2)
مسلم في مقدمة صحيحه عن سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَب، المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، باب وجوب الرواية عن الثقات، وترك الكذابين، والتحذير من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(3)
البخاري (3611)، مسلم (1066).
إِنَّكُمْ تَقْدُمُونَ عَلَى قَوْمٍ لِلْقُرْآنِ فِي صُدُورِهِمْ هَزِيزٌ كَهَزِيزِ المرْجَلِ، فَإِذَا رَأَوْكُمْ مَدُّوا إِلَيْكُمْ أَعْنَاقَهُمْ، وَقَالُوا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ، فَأَقِلُّوا الرِّوَايَةَ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَأَنَا شَرِيكُكُمْ. (1)
تلكم طريقة الصحابة ومنهجهم في المحافظة على حديث النبي صلى الله عليه وسلم خشية الوقوع في الخطأ، أو تسرب الدس في الحديث الشريف من الجهلاء وأصحاب الأهواء، أو أن تُحمل بعض الأحاديث على غير وجه الحق والصواب، فيكون الحكم بخلاف ما أُخذ به، فعلوا ذلك كله احتياطًا للدين ورعاية لمصلحة المسلمين، لا زهدًا في الحديث النبوي ولا تعطيلًا له، فلا يجوز لإنسان أن يفهم من منهاج الصحابة -ومن تشدد عمر خاصةً- هجر الصحابة للسنة أو زهدهم فيها. . .
وطريقة أبي بكر وعمر في الحكم مشهورة: كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله تعالى؛ فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به، وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن وجد فيها ما يقضي به قضى به؛ فإن أعياه ذلك سأل الناس هل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيه بقضاء، فربما قام إليه القوم فيقولون قضى فيه بكذا وكذا؛ فإن لم يجد سنة سنها النبي صلى الله عليه وسلم جمع رؤساء الناس فاستشارهم، وكان عمر رضي الله عنه يفعل ذلك.
هكذا كان منهج الصحابة جميعًا في كل ما يرد عليهم، وليس لأحد بعد هذا أن يتخذ بعض ما ورد عن بعض الصحابة ذريعة لهواه، ونستعرض موقف بعض علماء الحديث من ذلك:
قال ابن عبد البر: (2) احتج بعض من لا علم له ولا معرفة من أهل البدع وغيرهم الطاعنين في السنن بحديث عمر هذا: أقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعلوا ذلك ذريعة إلى الزهد في سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لا توصل إلى مراد كتاب الله عز وجل إلا بها والطعن على أهلها، ولا حجة في هذا الحديث ولا دليل على شيء مما ذهبوا إليه من وجوه،
(1) صحيح. أخرجه ابن ماجه في سننه (28) من طريق مجالد، وأخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 142 كتاب العلم من طريق بيان، كلاهما:(مجالد، بيان) عن عامر الشعبي، عن قرظة بن كعب به. وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (26)، وقال: صحيح بإسناد الحاكم ووافقه الذهبي.
(2)
جامع بيان العلم وفضله (124: 121).
قد ذكرها أهل العلم منها:
أن وجه قول عمر هذا إنما كان لقوم لم يكونوا أحصوا القرآن فخشي عليهم الاشتغال بغيره عنه إذ هو الأصل لكل علم، هذا معنى قول أبي عبيد في ذلك.
وطعن غيرهم في حديث قرظة هذا وردوه؛ لأن الآثار الثابتة عن عمر رضي الله عنه خلافه، منها ما روى مالك ومعمر وغيرهما عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عبد الله بن عباس، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث السقيفة أنه خطب يوم جمعة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإني أريد أن أقول مقالة قد قدر لي أن أقولها، من وعاها وعقلها وحفظها فليحدث بها حيث تنتهي به راحلته، ومن خشي أن لا يعيها؛ فإني لا أحل له أن يكذب عليَّ.
وهذا يدل على أن نهيه عن الإكثار وأمره بإقلال الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان خوف الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وخوفًا أن يكون مع الإكثار أن يحدثوا بما لم يتقنوا حفظه ولم يعوه؛ لأن ضبط من قلت روايته أكثر من ضبط المستكثر وهو أبعد من السهو والغلط الذي لا يؤمن مع الإكثار؛ فلهذا أمرهم عمر بالإقلال من الرواية ولو كره الرواية وذمها لنهى عن الإقلال منها والإكثار، ألا تراه يقول: فمن حفظها ووعاها فليحدث بها، فكيف يأمرهم بالحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وينهاهم عنه؟ هذا لا يستقيم بل كيف ينهاهم عن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأمرهم بالإقلال منه وهو يندبهم إلى الحديث عن نفسه؟ بقوله:"من حفظ مقالتي ووعاها فليحدث بها حيث تنتهي به راحلته" ثم قال: "ومن خشي أن لا يعيها فلا يكذب علي" وهذا يوضح لك ما ذكرنا، والآثار الصحاح عنه من رواية أهل المدينة بخلاف حديث قرظة هذا، وإنما يدور على بيان عن الشعبي وليس مثله حجة في هذا الباب؛ لأنه يعارض السنن والكتاب، قال الله عز وجل:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، وقال:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وقال في النبي- صلى الله عليه وسلم: {النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:
185)، وقال:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)} [الشورى: 52، 53]، ومثل هذا في القرآن كثير ولا سبيل إلى اتباعه والتأسي به، والوقوف عند أمره إلا بالخبر عنه، فكيف يتوهم أن عمر رضي الله عنه يأمر بخلاف ما أمر الله به وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ثم أداها إلى من لم يسمعها"، الحديث، وفيه الحض الأكيد على التبليغ عنه صلى الله عليه وسلم وقال:"خذوا عني" في غير ما حديث، و "بلغوا عني" والكلام في هذا أوضح من النهار لأولي النهى، والاعتبار ولا يخلو الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يكون خيرًا أو شرًّا؛ فإن كان خيرًا ولا شك فيه أنه خير فالإكثار من الخير أفضل، وإن كان شرًّا فلا يجوز أن يتوهم أن عمر رضي الله عنه يوصيهم بالإقلال من الشر، وهذا يدلك أنه إنما أمرهم بذلك خوف مواقعة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وخوف الاشتغال عن تدبر السنن والقرآن؛ لأن المكثر لا تكاد تراه إلا غير متدبر ولا متفقه.
وعمر رضي الله عنه هو الناشد للناس في غير موقف بل في مواقف شتى من عنده علم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كذا نحو ما ذكره مالك وغيره عنه في توريث المرأة من دية زوجها، وفي الجنين يسقط ميتًا عند ضرب بطن أمه وغير ذلك مما لو ذكرناه طال به كتابنا وخرجنا عن حد ما له قصدنا، وكيف يتوهم على عمر ما توهمه الذين ذكرنا قولهم؟ وهو القائل: إياكم والرأي؛ فإن أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وهو القائل: سيأتي قوم يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن؛ فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله عز وجل. وقد يحتمل عندي أن تكون الآثار كلها عن عمر صحيحة متفقة، ويخرج معناها على أن من شك في شيء تركه، ومن حفظ شيئًا وأتقنه جاز له أن يحدث به، وأن الإكثار يحمل الإنسان على التقحم أن يحدث بكل ما سمع من جيد ورديء، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع"، ولو كان مذهب عمر رضي الله عنه ما ذكرنا لكانت الحجة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم -دون قوله فهو القائل:"تسمعون ويسمع منكم ويسمع ممن سمع منكم". (1)
(1) حسن. أخرجه أبو داود في سننه (3659)، وابن حبان في صحيحه (62)، وأحمد في المسند (1/ 321) من طرق عن الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مرفوعًا، والحديث حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1784).
2 -
وقال الخطيب البغدادي: إن قال قائل: ما وجه إنكار عمر على الصحابة رضي الله عنهم روايتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشديده عليهم في ذلك؟ قيل له: إنما فعل ذلك عمر احتياطًا للدين، وحسن نظر للمسلمين؛ لأنه خاف أن ينكلوا عن الأعمال ويتكلوا على ظاهر الأخبار، وليس حكم جميع الأحاديث على ظاهرها، ولا كل من سمعها عرف فقهها، فقد يرد الحديث مجملًا، ويستنبط معناه وتفسيره من غيره، فخشي عمر أن يحمل حديث على غير وجهه، أو يؤخذ بظاهر لفظه، والحكم بخلاف ما أخذ به ونحو من هذا المعنى الحديث الآخر.
عن معاذ رضي الله عنه قال: كنت ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار له، يقال له عفير، فقال:"يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ " فقلت: الله ورسوله أعلم. قال: "فإن حق الله على العباد: أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله: أن لا يعذب من لا يشرك به"، قلت: أفلا أبشر الناس؟ قال: "لا، فيتكلوا" هذا لفظ حديث خلف. وحديث أبي بكر نحوه، غير أن فيه: قال فقال عمر: أفلا أبشر الناس؟ قال: "لا تبشرهم، فيتكلوا". (1)
مما سبق يتبين لنا أن الصحابة كانوا جميعًا يتثبتون في الحديث، ويتأنون في قبول الأخبار وأدائها، وكانوا لا يحدّثون بشيء إلا وهم واثقون من صحة ما يروون، وقد حرصوا على المحافظة على الحديث بكل وسيلة تفضي إلى ذلك، فاتبعوا منهجًا سليمًا يمنع الشوائب من أن تدخل السنة النبوية فتفسدها، وقد حمل لواء هذه المحافظة والحرص على السنن جميع الصحابة، وتميز منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد ظهر لنا مما رُوي عنه اهتمامه بالسنة النبوية، وإجلاله للحديث الشريف، وإن الأخبار التي رُويت عنه في هذا الشأن ليدعم بعضها بعضًا في سبيل نشر العلم، والحرص على سلامة السنة، ومن ثَمَّ ليس لأحد أن يرى تناقضًا بين وصية عمر لأهل العلم والآثار الأخرى المروية عنه، فهو إذا طلب الإقلال من الرواية فإنما يطلبه من باب الاحتياط لحفظ السنن والترهيب في الرواية، وأما من كان يتقن ما يحدِّث به ويعرف فقهه وحكمه فلا يتناوله أمر عمر رضي الله عنه، فكل ما ورد عن أمير المؤمنين؛ فإنما يدل على
(1) شرف أصحاب الحديث (93: 88) باختصار.