الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فأتياه فدخلا عليه فتكلما وقالا له فطلبا إليه، فقال لهما الحسن بن علي: إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال، وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها، قال: فإنه يعرض عليك كذا وكذا ويطلب إليك ويسألك، قال: فمن لي بهذا؟ قال: نحن لك به، فما سألهما شيئًا إلا قال: نحن لك به، فصالحه. فقال الحسن: ولقد سمعت أبا بكرة يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، والحسن بن عليٍّ إلى جنبه وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول- صلى الله عليه وسلم:"إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين". (1)
الوجه الرابع:
أن صلح الحسن مع معاوية لم يكن مقابل مال، وإنما كان بنزوله عن الأمر عام إحدى وأربعين في شهر جمادى الأولى، وسمي عام الجماعة؛ لاجتماع الناس على معاوية وهو أول الملوك. للحديث "ستكون خلافة نبوةٍ ورجة، ثم يكون ملكٌ ورحمةٌ، ثم يكون ملكٌ وجبريةٌ، ثم يكون ملكٌ عضوضٌ". (2)
الوجه الخامس:
أن الحسن رضي الله عنه ورد عنه صريحًا ما يرُدُّ هذا، وهو ما رواه عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال: قلت للحسن: إن الناس يقولون إنك تريد الخلافة، فقال: قد كانت جماجم العرب في يدي يحاربون من حاربت، ويسالمون من سالمت، فتركتها ابتغاء وجه الله، وحقن دماء أمة محمد صلى الله عليه وسلم. (3)
وأما
بعض الروايات التي توهم أنه اشتراه بالمال فهي من وضع الكذابين
، وإليك بعضها:
الرواية الأولى:
قال أبو الفرج في مقاتل الطالبيين: وكان أول شيء أحدث الحسن أنه زاد المقاتلة مائة مائة، وقد كان علي فعل ذلك يوم الجمل، والحسن فعله على حال الاستخلاف، فتبعه الخلفاء من بعد ذلك.
(1) صحيح البخاري (2557).
(2)
مجموع الفتاوى (35/ 19). والحديث أخرجه أحمد 4/ 273.
(3)
صحيح. أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 37) من طريق أحمد بن حنبل، عن محمد بن جعفر، عن شعبة قال: سمعت يزيد بن خمير يحدث عن عبد الرحمن بن جبير به، وهذا إسناد صحيح.
وكتب الحسن إلى معاوية مع جندب بن عبد الله الأزدي: (بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله الحسن أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان، سلام عليك، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإن الله تعالى بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، ومنّةً على المؤمنين، وكافةً إلى الناس أجمعين {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} فبلغ رسالات الله، وقام على أمر الله حتى توفاه الله غير مقصر ولا وإن، حتى أظهر الله به الحق، ومحق به الشرك، ونصر به المؤمنين، وأعز به العرب، وشرف به قريشًا خاصة، فقال تعالى:{وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] فلما توفي صلى الله عليه وسلم تنازعت سلطانه العرب، فقالت قريش: نحن قبيلته وأسرته وأولياؤه، ولا يحل لكم أن تنازعونا سلطان محمد صلى الله عليه وسلم في الناس وحقه، فرأت العرب أن القول كما قالت قريش، وأن الحجة لهم في ذلك على من نازعهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم فأنعمت لهم العرب، وسلمت ذلك، ثم حاججنا نحن قريشًا بمثل ما حاجت به العرب، فلم تنصفنا قريش إنصاف العرب لها، إنهم أخذوا هذا الأمر دون العرب بالانتصاف والاحتجاج فلما صرنا أهل بيت محمد صلى الله عليه وسلم، وأولياءه إلى محاجتهم، وطلب النصف منهم باعدونا، واستولوا بالاجتماع على ظلمنا، ومراغمتنا، والعنت منهم لنا، فالموعد الله، وهو الولي النصير.
وقد تعجبنا لتوثب المتوثبين علينا في حقنا، وسلطان نبينا صلى الله عليه وسلم، وإن كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الإسلام، فأمسكنا عن منازعتهم مخافة على الدين أن يجد المنافقون والأحزاب بذلك مغمزًا يثلمونه به، أو يكون لهم بذلك سبب لما أرادوا به من فساده، فاليوم فليعجب المتعجب من توثبك يا معاوية على أمر لست من أهله، لا بفضل في الدين معروف، ولا أثر في الإسلام محمود، وأنت ابن حزب من الأحزاب، وابن أعدى قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله خيبك وسترد فتعلم لمن عقبى الدار، تالله لتلقين عن قليل ربك، ثم ليجزينك بما قدمت يداك، وما الله بظلام للعبيد.
إن عليا رضي الله عنه لما مضى لسبيله يوم قبض، ويوم منَّ الله عليه بالإسلام، ويوم يبعث حيًا - ولَّاني المسلمون الأمر بعده، فأسأل الله أن لا يزيدنا في الدنيا الزائلة شيئًا ينقصنا به في الآخرة
مما عنده من كرامته، وإنما حملني على الكتاب إليك: الإعذار فيما بيني وبين الله سبحانه وتعالى في أمرك، ولك في ذلك إن فعلت الحظ الجسيم، وللمسلمين فيه صلاح، فدع التمادي في الباطل، وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي، فإنك تعلم أني أحق لهذا منك عند الله وعند كل أواب حفيظ، ومن له قلب منيب، واتق الله ودع البغي، وأحقن دماء المسلمين، ما دخل في السلم والطاعة، ولا تنازع الأمر أهله، ومن هو أحق به منك، ليطفئ الله النائرة بذلك، وتجمع الكلمة، وتصلح ذات البين، وإن أنت أبيت إلا التمادي في غيك نهدت إليك بالمسلمين، فحاكمتك حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.
فكتب إليه معاوية: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله أمير المؤمنين إلى الحسن بن علي، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فقد بلغني كتابك، وفهمت ما ذكرت به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضل وهو أحق الأولين والآخرين بالفضل كله، قديمه وحديثه، وصغيره وكبيره، فقد والله بلَّغ فأدَّى، ونصح وهدى، حتى أنقذ الله به من التهلكة، وأنار به من العمى، وهدى به من الضلالة، فجزاه الله أفضل ما جزى نبيًّا عن أمته، وصلوات الله عليه يوم ولد ويوم قبض ويوم يبعث حيًّا، وذكرت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وتنازع المسلمين من بعده، فرأيتك صرحت بتهمة أبي بكر الصديق، وعمر الفاروق، وأبي عبيدة الأمين، وحواري الرسول صلى الله عليه وسلم، وصلحاء المهاجرين، والأنصار، فكرهت ذلك لك، فإنك امرؤٌ عندنا، وعند الناس غير ظنين، ولا المسيء ولا اللئيم، وأنا أحب لك القول السديد، والذكر الجميل.
إن هذه الأمة لما اختلفت بعد نبيها لم تجهل فضلكم، ولا سابقتكم، ولا قرابتكم من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا مكانتكم في الإسلام وأهله، فرأت الأمة أن تخرج من هذا الأمر لقريش لمكانها من نبيها، ورأى صلحاء الناس من قريش والأنصار وغيرهم من سائر الناس وعامتهم أن يولوا هذا الأمر من قريش أقدمها إسلامًا وأعلمها بالله وأحبها له، وأقواها على أمر الله، واختاروا أبا بكر، وكان ذلك رأي ذوي الحجى والدين والفضيلة والناظرين للأمة، فأوقع ذلك في صدوركم لهم التهمة، ولم يكونوا بمتهمين، ولا فيما أتوا بمخطئين،
ولو رأى المسلمون فيكم من يغني غناءه أو يقوم مقامه، أو يذب عن حريم المسلمين ذبه، ما عدلوا بذلك الأمر إلى غيره رغبة عنه، ولكنهم عملوا في ذلك بما رأوه صلاحًا للإسلام وأهله، فالله يجزيهم عن الإسلام، وأهله خيرًا.
وقد فهمت الذي دعوتني إليه من الصلح، والحال فيما بيني وبينك اليوم مثل الحال التي كنتم عليها أنتم، وأبو بكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولو علمت أنك أضبط مني للرعية، وأحوط على هذه الأمة، وأحسن سياسة، وأقوى على جمع الأموال، وأكيد للعدو، لأجبتك إلى ما دعوتني إليه، ورأيتك لذلك أهلًا، ولكني قد علمت أني أطول منك ولاية، وأقدم منك لهذه الأمة تجربة، وأكثر منك سياسة، وأكبر منك سنًّا، فأنت أحق أن تجيبني إلى هذه المنزلة التي سألتني، فادخل في طاعتي، ولك الأمر من بعدي، ولك ما في بيت مال العراق من مال بالغًا ما بلغ تحمله إلى حيث أحببت، ولك خراج أي كور العراق شئت، معونة لك على نفقتك، يجبيها لك أمينك، ويحملها إليك في كل سنة، ولك ألا أتولى عليك بالإساءة ولا تقضى دونك الأمور، ولا تعصى في أمر أردت به طاعة الله عز وجل، أعاننا الله وإياك على طاعته إنه سميع مجيب الدعاء والسلام.
قال جندب: فلما أتيت الحسن بن علي بكتاب معاوية قلت له: إن الرجل سائر إليك، فابدأ أنت بالمسير حتى تقاتله في أرضه وبلاده وعمله، فإما أن تقدر أنه يتناولك فلا والله حتى يرى يومًا أعظم من يوم صفين، فقال: أفعل، ثم قعد عن مشورتي، وتناسى قولي.
قال: وكتب معاوية إلى الحسن بن علي: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فإن الله عز وجل يفعل في عباده ما يشاء، {لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} فاحذر أن تكون منيتك على يد رعاع من الناس، وايئس من أن تجد فينا غميزة، وإن أنت أعرضت عما أنت فيه وبايعتني، وفيت لك بما وعدت، وأجزت لك ما شرطت، وأكون في ذلك كما قال أعشى بني قيس بن ثعلبة:
وإن أحد أسدى إليك أمانة
…
فأوف بها تدعى إذا مت وافيا
ولا تحسد المولى إذا كان ذا غنى
…
ولا تجفه إن كان في المال فانيا
ثم الخلافة لك من بعدي، فأنت أولى الناس بها، والسلام.
فأجابه الحسن بن علي: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، وصل إليَّ كتابك تذكر فيه ما ذكرت، فتركت جوابك خشية البغي عليك، وبالله أعوذ من ذلك، فاتبع الحق تعلم أني من أهله، وعلي إثم أن أقول فأكذب، والسلام.
فلما وصل كتاب الحسن إلى معاوية قرأه، ثم كتب إلى عماله على النواحي نسخة واحدة: بسم الله الرحمن الرحيم، من معاوية أمير المؤمنين إلى فلان بن فلان ومن قبله من المسلمين، سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فالحمد لله الذي كفاكم مؤنة عدوكم وقتلة خليفتكم، إن الله بلطفه، وحسن صنعه أتاح لعلي بن أبي طالب رجلًا من عباده فاغتاله فقتله، فترك أصحابه متفرقين مختلفين، وقد جاءتنا كتب أشرافهم، وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم، وعشائرهم، فأقبلوا إليَّ حين يأتيكم كتابي هذا بجندكم، وجهدكم وحسن عدتكم، فقد أصبتم بحمد الله الثأر، وبلغتم الأمل، وأهلك الله أهل البغي والعدوان، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قال: فاجتمعت العساكر إلى معاوية بن أبي سفيان، وسار قاصدًا إلى العراق وبلغ الحسن خبر مسيره، وأنه بلغ جسر منبج، فتحرك لذلك وبعث حجر بن عدي يأمر العمال والناس بالتهيؤ للمسير، ونادى المنادي: الصلاة جامعة، فأقبل الناس يثوبون، ويجتمعون، فقال الحسن: إذا رضيت جماعة الناس فأعلمني، وجاء سعيد بن قيس الهمداني، فقال: اخرج، فخرج الحسن عليه السلام فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن الله كتب الجهاد على خلقه، وسماه كرهًا.
ثم قال لأهل الجهاد من المؤمنين: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]، فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون، إلا بالصبر على ما تكرهون، إنه بلغني أن معاوية بلغه أنا كنا أزمعنا على السير إليه، فتحرك لذلك، فاخرجوا -رحمكم الله- إلى معسكركم بالنخيلة حتى ننظر وتنظروا، ونرى وتروا، قال: وإنه في كلامه ليتخوف خذلان الناس إياه. قال: فسكتوا فما تكلم منهم أحد، ولا أجاب بحرف، فلما رأى ذلك عدي بن حاتم
قال: أنا ابن حاتم، سبحان الله، ما أقبح هذا المقام؟ ألا تجيبون إمامكم، وابن بنت نبيكم، أين خطباء مضر؟ أين المسلمون؟ أين الخواضون من أهل المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة، فإذا جد الجد فرواغون كالثعالب، أما تخافون مقت الله، ولا عيبها، وعارها. ثم استقبل الحسن بوجهه فقال: أصاب الله بك المراشد، وجنبك المكاره، ووفقك لما يحمد ورده وصدره فقد سمعنا مقالتك، وانتهينا إلى أمرك، وسمعنا منك، وأطعناك فيما قلت وما رأيت، وهذا وجهي إلى معسكري، فمن أحب أن يوافيني فليواف.
ثم مضى لوجهه، فخرج من السجد، ودابته بالباب، فركبها، ومضى إلى النخيلة، وأمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه، وكان عدي أول الناس عسكرًا.
ثم قام قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري، ومعقل بن قيس الرياحي، وزياد بن صعصعة التيمي، فأنَّبوا الناس، ولاموهم وحرضوهم، وكلموا الحسن بمثل كلام عدي بن حاتم في الإجابة والقبول.
فقال لهم الحسن: صدقتم -رحمكم الله- ما زلت أعرفكم بصدق النية والوفاء بالقول والمودة الصحيحة، فجزاكم الله خيرًا، ثم نزل، وخرج الناس، فعسكروا، ونشطوا للخروج، وخرج الحسن إلى معسكره، واستخلف على الكوفة المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وأمره باستحثاث الناس وإشخاصهم إليه، فجعل يستحثهم ويخرجهم، حتى التأم العسكر.
ثم إن الحسن بن علي سار في عسكر عظيم وعدة حسنة حتى أتى دير عبد الرحمن فأقام به ثلاثًا حتى اجتمع الناس، ثم دعا عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب فقال له: يابن عم، إني باعث معك اثني عشر ألفا من فرسان العرب، وقراء المصر، الرجل منهم يزن الكتيبة، فسر بهم، وألن لهم جانبك، وابسط وجهك، وافرش لهم جناحك، وأدنهم من مجلسك؛ فإنهم بقية ثقة أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وسر بهم على شط الفرات حتى تقطع بهم الفرات، ثم تصير إلى مسكن، ثم امض حتى تستقبل معاوية، فإن أنت لقيته فاحبسه حتى آتيك فإني في إثرك وشيكًا، وليكن خبرك عندي كل يوم، وشاور هذين؛ يعني قيس بن سعد، وسعيد بن قيس، فإذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك، فإن فعل فقاتل، فإن أُصِبت فقيس بن سعدٍ
على الناس، وإن أصيب قيسٌ فسعيد بن قيس على الناس، ثم أمره بفي أراد، وسار عبيد الله حتى انتهى إلى شينور حتى خرج إلى شاهي، ثم لزم الفرات والفالوجة حتى أتى مسكن. وأخذ الحسن على حمام عمر، حتى أتى دير كعب، ثم بكر، فنزل ساباط دون القنطرة، فلما أصبح نادى في الناس: الصلاة جامعة، فاجتمعوا، وصعد المنبر، فخطبهم، فحمد الله، فقال: الحمد لله كلما حمده حامد، وأشهد أن لا إله إلا الله كلما شهد له شاهد، وأشهد أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله بالحق، وائتمنه على الوحي. أما بعد، فوالله إني لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله ومنه، وأنا أنصح خلق الله لخلقه، وما أصبحت محتملا على مسلم ضغينة، ولا مريدًا له سوءًا ولا غائلةً، ألا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة، ألا وإني ناظر لكم خيرًا من نظركم لأنفسكم فلا تخالفوا أمري، ولا تردوا عليَّ رأيي، غفر الله لي ولكم، وأرشدني وإياكم لما فيه المحبة والرضا. قال: فنظر الناس بعضهم إلى بعض، قالوا: ما ترونه يريد بما قال؟ قالوا: نظنه والله يريد أن يصالح معاوية، ويسلم الأمر إليه، فقالوا: كفر والله الرجل، ثم شدوا على فسطاطه فانتهبوه حتى أخذوا مصلاه من تحته، ثم شد عليه عبد الرحمن بن عبد الله بن جعال الأزدي فنزع مطرفه عن عاتقه، فبقي جالسًا متقلدًا لسيف بغير رداء، ثم دعا بفرسه فركبه، وأحدق به طوائف من خاصته وشيعته، ومنعوه ممن أراده، ولاموه، وضعفوه لما تكلم به، فقال: ادعوا لي ربيعة، وهمدان، فدعوا له، فأطافوا به، ودفعوا الناس عنه، ومعهم شوب من غيرهم، فقام إليه رجل من بني أسد من بني نصر بن قعين يقال له الجراح بن سنان، فلما مر في مظلم ساباط قام إليه، فأخذ بلجام بغلته، وبيده معول، فقال: الله أكبر يا حسن، أشركت كما أشرك أبوك من قبل، ثم طعنه، فوقعت الطعنة في فخذه، فشقته فسقط الحسن إلى الأرض بعد أن ضرب الذي طعنه بسيف كان بيده واعتنقه، وخرا جميعًا إلى الأرض، فوثب عبد الله بن الخطل فنزع العول من يد جراح بن سنان فخضخضه به، وأكب طبيان بن عمارة عليه، فقطع أنفه ثم أخذوا الآجر فشدخوا وجهه ورأسه، حتى قتلوه.
وحمل الحسن على سرير إلى المدائن، وبها سعد بن مسعود الثقفي واليًا عليها من قبله، وكان علي ولاه فأقره الحسن بن علي، فأقام عنده يعالج نفسه.
قال: ثم إن معاوية وافى حتى نزل قرية يقال لها الحبوبية بمسكن، فأقبل عبد الله بن العباس حتى نزل بإزائه، فلما كان من غدٍ وجه معاوية بخيله إليه فخرج إليهم عبيد الله ابن العباس فيمن معه، فضربهم حتى ردهم إلى معسكرهم، فلما كان الليل أرسل معاوية إلى عبيد الله بن العباس أن الحسن قد راسلني في الصلح، وهو مسلم الأمر إليَّ، فإن دخلت في طاعتي الآن كنت متبوعًا، وإلا دخلت وأنت تابع، ولك إن جئتني الآن أن أعطيك ألف ألف درهم، يعجل لك في هذا الوقت النصف، وإذا دخلت الكوفة النصف الآخر، فانسل عبيد الله ليلًا، فدخل عسكر معاوية، فوفى له بما وعده، فأصبح الناس ينتظرون أن يخرج فيصلي بهم، فلم يخرج حتى أصبحوا، فطلبوه، فلم يجدوه، فصلى بهم قيس بن سعد بن عبادة، ثم خطبهم فقال: أيها الناس، لا يهولنكم ولا يعظمن عليكم ما صنع هذا الرجل الوله الورع -أي الجبان-؛ إن هذا وأباه وأخاه لم يأتوا بيوم خيرٍ قط، إن أباه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يقاتله ببدر، فأسره أبو اليسر كعب بن عمر الأنصاري، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ فداءه فقسمه بين المسلمين، وإن أخاه ولاه علي أمير المؤمنين على البصرة فسرق مال الله ومال المسلمين، فاشترى به الجواري، وزعم أن ذلك له حلال، وإن هذا ولاه علي اليمن، فهرب من بسر بن أرطأة، وترك ولده حتى قتلوه، وصنع الآن هذا الذي صنع.
قال: فتنادى الناس: الحمد لله الذي أخرجه من بيننا، فانهض بنا إلى عدونا، فنهض بهم.
وخرج إليهم بسر بن أرطأة في عشرين ألفا، فصاحوا بهم: هذا أميركم قد بايع، وهذا الحسن قد صالح؛ فعلام تقتلون أنفسكم؟ فقال لهم قيس بن سعد بن عبادة: اختاروا إحدى اثنتين: إما القتال مع غير إمام، أو تبايعون بيعة ضلال، فقالوا: بل نقاتل بلا إمام، فخرجوا، فضربوا أهل الشام حتى ردوهم إلى مصافهم. وكتب معاوية إلى قيس يدعوه، ويمنيه، فكتب إليه قيس: لا والله، لا تلقاني أبدًا إلا وبيني وبينك الرمح. فكتب إليه معاوية: أما بعد، فإنما