الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معاوية؛ إذ كانت الفتنة وتفريق الكلمة وضعف سلطانه بقتل القتلة لو سعى في ذلك أشدّ.
8 -
ومن قال إن قتل الخلق الكثير الذين قتلوا بينه وبين عليّ كان صوابًا منه لأجل قتل قتلة عثمان، فقتل ما هو دون ذلك لأجل قتل قتلة عثمان أولى أن يكون صوابًا وهو لم يفعل ذلك لما تولى ولم يقتل قتلة عثمان.
9 -
وذلك أن الفتن إنما يعرف ما فيها من الشر إذا أدبرت فأما إذا أقبلت فإنها تزين ويظن أن فيها خيرًا، فإذا ذاق الناس ما فيها من الشر والمرارة والبلاء صار ذلك مبينًا لهم مضرتها وواعظًا لهم أن يعودوا في مثلها كما أنشد بعضهم:
الحرب أول ما تكون فتية
…
تسعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها
…
ولت عجوزًا غير ذات حليل
شمطاء ينكر لونها وتغيرت
…
مكروهة للشم والتقبيل
والذين دخلوا في الفتنة من الطائفتين لم يعرفوا ما في القتال من الشر ولا عرفوا مرارة الفتنة حتى وقعت وصارت عبرة لهم ولغيرهم.
10 -
ومن استقرأ أحوال الفتن التي تجري بين المسلمين تبين له أنه ما دخل فيها أحد فحمد عاقبة دخوله لما يحصل له من الضرر في دينه ودنياه، ولهذا كانت من باب المنهي عنه والإمساك عنها من المأمور به الذي قال اللَّه فيه:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: 63). (1)
اعتراض على كون الحق مع علي والجواب عليه من كلام ابن تيمية رحمه الله:
قال رحمه الله: وأما قول القائل إن عليًا بدأهم بالقتال؟
قيل له: وهم أولًا امتنعوا من طاعته ومبايعته وجعلوه ظالمًا مشاركًا في دم عثمان وقبلوا عليه شهادة الزور ونسبوه إلى ما هو بريء منه.
وإذا قيل هذا وحده لم يبح له قتالهم؟
(1) منهاج السنة لابن تيمية (4/ 407 - 410).
قيل: ولا كان قتاله مباحًا لكونه عاجزًا عن قتل قتلة عثمان.
بل لو كان قادرًا على قتل قتلة عثمان وقدر أنه ترك هذا الواجب إما متأولًا وإما مذنبًا لم يكن ذلك موجبًا لتفريق الجماعة والامتناع عن مبايعته ولمقاتلته، بل كانت مبايعته على كل حال أصلح في الدين وأنفع للمسلمين وأطوع للَّه ولرسوله من ترك مبايعته.
وبيان ذلك ما يلي:
1 -
فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن اللَّه يرضى لكم ثلاثًا أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل اللَّه جميعًا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه اللَّه أمركم". (1)
2 -
وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "على المرء المسلم السمع والطاعة في عسره وشره، ومنشطه ومكرهه، وأثره عليه ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة". (2)
3 -
وعن عبادة رضي الله عنه قال: "بايعنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في يسرنا وعسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وأثره علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول أو نقوم بالحق حيث ما كنا لا نخاف في اللَّه لومة لائم". (3)
4 -
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ (4)، وفي رواية "فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ، إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً". (5)
5 -
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من خلع يدًا من طاعة لقي اللَّه يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعه مات ميتة جاهلية". (6)
(1) البيهقي بلفظه (8/ 163)، وأصله في صحيح مسلم (1715).
(2)
رواه البخاري (6725)، ومسلم (1839).
(3)
رواه البخاري (6647)، ومسلم (1709).
(4)
رواه الترمذي (3102).
(5)
رواه البخاري (6646)، ومسلم (1849).
(6)
رواه مسلم (1851).
6 -
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ثلاثة لا يكلمهم اللَّه يوم القيامة، ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم رجل: ". . .، ورجل بايع رجلًا لا يبايعه إلا للدنيا إن أعطاه ما يريد وفّى له وإلا لم يفِ له. . . " الحديث. (1)
7 -
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة". (2)
11 -
ومن الأدلة على أن موقف عليّ هو الصواب: أنَّ عليًا رضي الله عنه كان قد بايعه أهل الكوفة ولم يكن في وقته أحق منه بالخلافة وهو خليفة راشد تجب طاعته، ومعلوم أن قتل القاتل إنما شرع عصمة للدماء، فإذا أفضى قتل الطائفة القليلة إلى قتل أضعافها لم يكن هذا طاعة ولا مصلحة، وقد قتل بصفين أضعاف أضعاف قتلة عثمان رضي الله عنه.
12 -
وأيضًا فقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: "تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق" يدل على أن عليًّا وأصحابه أدنى إلى الحق من معاوية وأصحابه، فلا يكون معاوية وأصحابه في قتالهم لعليّ أدنى إلى الحق.
13 -
وكذلك حديث عمار بن ياسر "تقتلك الفئة الباغية" قد رواه مسلم في صحيحه من غير وجه، ورواه البخاري - لكن في كثير من النسخ لم يذكره تامًا.
وأما تأويل من تأوله أن عليًا وأصحابه قتلوه، وأن الباغية الطالبة بدم عثمان، فهذا من التأويلات الظاهرة الفساد التي يظهر فسادها للعامة والخاصة. والحديث ثابت في الصحيحين، وقد صححه أحمد بن حنبل وغيره من الأئمة، وإن كان قد روى عنه أنه ضعفه فآخر الأمرين منه تصحيحه.
قال يعقوب بن شيبة في مسنده في المكيين في مسند عمار بن ياسر لما ذكر أخبار عمار: سمعت أحمد بن حنبل سئل عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم في عمار تقتلك الفئة الباغية؟ فقال أحمد قتلته الفئة الباغية كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وقال في هذا غير حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وكره
(1) رواه البخاري (6786).
(2)
منهاج السنة (4/ 410) وما بعدها، والحديث رواه البخاري (67232).
أن يتكلم في هذا بأكثر من هذا. وقال البخاري في صحيحه حدثنا مسدد حدثنا عبد العزيز بن المختار حدثنا خالد الحذاء عن عكرمة قال: قال لي ابن عباس ولابنه انطلقا إلى أبي سعيد واسمعا من حديثه، فانطلقنا فإذا هو في حائط يصلحه فأخذ رداءه فاحتبى ثم أنشأ يحدثنا حتى أتى على ذكر بناء المسجد فقال: كنا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين فرآه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فجعل ينفض التراب عنه ويقول:"ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار"، قال: يقول عمار: أعوذ باللَّه من الفتن.
والحديث ثابت صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم بالحديث والذين قتلوه هم الذين باشروا قتله. والحديث أطلق فيه لفظ البغي لم يقيده بمفعول كما قال تعالى: {لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"الذين هم فيكم تبع لا يبغون أهلًا ولا مالًا".
ولفظ البغي إذا أطلق فهو الظلم كما قال تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} ، وقال:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} .
وأيضًا فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذا لما كانوا ينقلون اللبن لبناء المسجد وكانوا ينقلون لبنة لبنة وكان عمار ينقل لبنتين لبنتين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار"، وهذا ليس فيه ذم لعمار، بل مدح له ولو كان القاتلون له مصيبين في قتله لم يكن مدحًا له، وليس في كونهم يطلبون دم عثمان ما يوجب مدحه.
وكذلك من تأول قاتله بأنهم الطائفة التي قاتل معها؛ فتأويله ظاهر الفساد ويلزمهم ما ألزمهم إياه علي وهو أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد قتلوا كل من قتل معهم في الغزو كحمزة وغيره، وقد يقال فلان قتل فلانًا إذا أمره بأمر كان فيه حتفه، ولكن هذا مع القرينة لا يقال عند الإطلاق، بل القاتل عند الإطلاق الذي قتله دون الذي أمره.
ثم هذا يقال لمن أمر غيره، وعمار لم يأمره أحد بقتال أصحاب معاوية، بل هو كان من أحرص الناس على قتالهم وأشدهم رغبة في ذلك وكان حرصه على ذلك أعظم من حرص غيره، وكان هو يحض عليًا وغيره على قتالهم.