الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال ابن كثير رحمه الله: فلم يزلْ معاويةُ رضي الله عنه نائبًا على الشامِ في الدولةِ العُمَرِيَّةِ والعثمانيةِ مدةَ خلافةِ عثمانَ، وافتتحَ في سنةِ سبعٍ وعشرين جزيرةَ قبرصَ وسكنَها المسلمون قريبًا من ستينَ سنةً في أيامِه ومن بعدِه، ولم تزلْ الفتوحاتُ والجهادُ قائمًا على ساقِه في أيامِه في بلادِ الرومِ والفرنجِ وغيرِها، فلما كان من أمرِه وأمرِ أميرِ المؤمنين عليٍّ رضي الله عنهما ما كان، لم يقعْ في تلك الأيامِ فتحٌ بالكليةِ، لا على يديه ولا على يديْ عليٍّ، وطَمِعَ في معاويةَ ملكُ الرومِ بعد أن كان قد أخشاه وأذلَّه، وقَهَرَ جندَه ودحاهم، فلما رأى ملكُ الرومِ اشتغالَ معاويةَ بحربِ عليٍّ تدانَى إلى بعضِ البلادِ في جنودٍ عظيمةٍ وطَمِعَ فيها، فكتب معاويةُ إليه: واللهِ لئن لم تنتهِ وترجعْ إلى بلادِك يا لعينُ لأصطلحنَّ أنا وابنُ عمي عليك ولأُخرِجَنَّك من جميعِ بلادِك، ولأُضَيِّقَنَّ عليك الأرضَ بما رَحُبَتْ. فعند ذلك خافَ ملكُ الرومِ وانكفَّ، وبعثَ يطلبُ الهُدنَةَ.
ثم كان من أمر التحكيمِ ما كان، وكذلك ما بعدَه إلى وقتِ اصطلاحِه مع الحسنِ بنِ عليٍّ كما تقدم، فانعقدتْ الكلمةُ على معاويةَ، وأجمعتْ الرعايا على بيعتِه في سنةِ إحدى وأربعين، فلم يزلْ مستقلًّا بالأمرِ في هذه المدةِ إلى هذه السنةِ التي كانت فيها وفاتُه، والجهادُ في بلادِ العدوِّ قائمٌ، وكلمةُ اللهِ عاليةٌ، والغنائمُ تَرِدُ إليه من أطرافِ الأرضِ، والمسلمون معه في راحةٍ وعدلٍ، وصفحٍ، وعفوٍ (1).
ثالثة عشر: ذكر جهود معاوية رضي الله عنه في الجهاد، والفتوحات
؟
ومن ذلك فتح قيسارية على يد معاوية رضي الله عنه سنة 19 من الهجرة. (2)
كتب عمرُ رضي الله عنه إلى معاويةَ رضي الله عنه فقال له: أما بعدُ، فقد وَلَّيْتُكَ قيساريةَ، فَسِرْ إليها، واستنصرْ اللهَ عليهم، وأكثرْ من قول لا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ العليِّ العظيمِ، اللهُ ربُّنا، وثقتُنا، ورجاؤنا، ومولانا فنِعمَ المولى ونعمَ النصيرُ، فسارَ إليها فحاصرَها وزَاحَفَه أهلُها مراتٍ عديدةً، وكان آحْرُهم وقعةً أن قاتَلوا قتالًا عظيمًا، وصَمَّمَ عليهم معاويةُ رضي الله عنه، واجتهدَ في القتال حتى فتحَ اللهُ
(1) البداية والنهاية لابن كثير (8/ 118).
(2)
تاريخ الطبري (2/ 446)، وتاريخ خليفة (1/ 27)، والبداية والنهاية (7/ 96).
عليه، فما انفصل الحالُ حتى قتلَ منهم نحوًا من ثمانين ألفًا، وكَمَّلَ المائةَ الألفَ من الذين انهزَموا عن المعركةِ، وبَعَثَ بالفتحِ، والأَخْمَاسِ إلى أميرِ المؤمنْين عمرَ رضي الله عنه.
فتح قبرص سنة 28 من الهجرة. (1) فتحت على يدِ معاويةَ خلالَ خلافةِ عثمانَ رضي الله عنهما، فقد ركب معاويةُ في جيشٍ كثيفٍ من المسلمين، ومعه عُبادةُ بنُ الصامتِ، وزوجتُه أمُّ حَرَامٍ بنتُ مِلحَانَ، وقد بشَّرَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بتلك الغزوةِ "فقد نام عندَها صلى الله عليه وسلم ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَمَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ الله، قَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ الله يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ مُلُوكًا عَلَى الْأَسَرَّةِ أَوْ مِثْلَ المُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ -شَكَّ إِسْحَاقُ- قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهمْ، فَدَعَا لها رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحكُ، فَقُلْتُ: وَمَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: ناسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ الله -كَمَا قَالَ فِي الْأَوَّلِ- قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، ادْعُ الله أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: أَنْتِ مِنْ الْأَوَّلينَ، فَرَكِبَتْ الْبَحْرَ فِي زَمَانِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِيَ سُفْيَانَ فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنْ الْبَحْرِ فَهَلَكَتْ (2).
ففتح اللهُ عليهم وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا ثم صالَحَهم معاويةُ على سبعةِ آلافِ دينارٍ كلَّ سنةٍ، وقد ماتت أمُّ حرامٍ رضي الله عنها بقبرصَ شهيدةً؛ فقد وقصتها دابتها.
غزو الروم سنة 32 من الهجرة. (3) غزا معاويةُ رضي الله عنه بلادَ الرومِ حتى بلغَ المضيقَ: مضيقَ القسطنطينيةِ.
وهل تعلم عددَ البعوثِ التي خرجت للجهادِ في عهدِ معاوية رضي الله عنه وكم مدينة فتِحَت؟
إليك البيان:
سنةَ 42 من الهجرةِ غزا المسلمون اللانَ والرومَ فقَتَلُوا من أمرائِهم وبطارِقَتِهم خلقًا كثيرًا وغَنِمُوا وسَلِمُوا (4).
(1) تاريخ ابن خلدون (2/ 575).
(2)
البخاري (2636)، ومسلم (1912).
(3)
تاريخ الطبري (2/ 627).
(4)
تاريخ الطبري (3/ 173).
سنة 43 من الهجرة غزا بُسرُ بنُ أَرْطَاةَ بلادَ الرومِ فتوغلَ فيها حتى بلغَ مدينةَ القسطنطينيةِ. (1)
سنةَ 44 من الهجرةِ غزا عبدُ الرحمنِ بنُ خالدِ بنِ الوليدِ بلادَ الرومِ ومعه المسلمون وشتوا هنالك، وفيها غزا بُسرُ بنُ أَرْطَاةَ من البحرِ. (2)
وفي سنةِ 45 فُتِحَتْ القيقان. (3)
وفي سنة 47 من الهجرةِ وَجَّهَ زِيَادٌ الحَكَمَ بنَ عمرٍو الغِفارِيَّ إلى خراسانَ أميرًا فغزا جبالَ الغور فقهرهم بالسيفِ عُنْوَةً ففتحها وأصابَ فيها مغانمَ كثيرةً، وسبايا وذلك في قولِ بعضِ أهلِ السيرِ. (4)
سنة 49 هـ غزا يزيدُ بنُ معاويةَ بلادَ الرومِ حتى بلغ قسطنطينيةَ ومعه جماعاتٌ من ساداتِ الصحابةِ منهم ابنُ عمرَ، وابنُ عباسٍ، وابنُ الزبيرِ، وأبو أيوبَ الأنصاريُّ، وقد ثبت في صحيحِ البخاريّ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:"أولُ جيشٍ يغزون مدينةَ قيصرَ مغفورٌ لهم"(5) فكان هذا الجيشُ أولَ مَن غزاها، وما وصلوا إليها حتى بلغوا الجهدَ، وهذا في قول الطبري رحمه الله وفي قول غيرِه أنَّ غزوةَ يزيدَ كانت سنةَ 52 من الهجرةِ وهو الراجحُ.
فكان فيها مَشْتَى مالكِ بنِ هُبَيْرَةَ السكوني بأرضِ الرومِ.
وفيها كانت غزوةُ فُضَالَةَ بنِ عبيدٍ لجربة وشَتَا بجربةَ وفُتِحَتْ على يديهِ وأصابَ فيها سبيًا كثيرًا.
وفيها كانت صائفةُ عبدِ اللهِ بن كرزٍ البَجَليِّ.
وفيها كانت غزوةُ يزيدَ بنِ شَجرَةَ الرهاويِّ في البحرِ فشَتَا بأهلِ الشامِ.
(1) تاربخ الطبري (3/ 173).
(2)
تاريخ الطبري (3/ 194).
(3)
تاريخ خليفة (1/ 49).
(4)
تاريخ الطبري (3/ 204).
(5)
البخاري (2766).
وفيها كانتْ غزوةُ عُقْبَةَ بنِ نافعٍ البحرَ فشَتَا بأهلِ مصرَ. (1)
سنة 50 من الهجرةِ افتتحَ عُقْبَةُ بنُ نافعٍ الفهريُّ عن أمرِ معاويةَ بلادَ أفريقيةَ (تونس الآن) واخْتَطَّ القَيْرَوَانَ
…
وأسلمَ خلقٌ كثيرٌ من البَرْبَرِ.
وعن يحيى بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ حاطبٍ قال: لما افتَتَحَ عُقْبَةُ بنُ نافع إفريقيةَ وقف على القيروانِ فقال: (يا أهلَ الوادي، إنَّا حَالُّونَ -إنْ شاءَ اللهُ- فاظْعَنُوا) ثلاثَ مراتٍ. قال: فما رأينا حَجَرًا ولا شَجَرًا إلا يَخرُجُ من تحتِه دابَّةٌ حتى يهبِطْنَ بطنَ الوادي. ثم قال: انزلوا باسمِ الله. (2)
وفيها غزى مَسْلَمَةُ بنُ مَخْلَدٍ وهو أميرٌ بمصرَ معاويةَ بنَ حديج وَأصاب سبيًا وقَفَلَ سالمًا. (3) قدم عبد الملك بن مروان فدخل مع معاوية بن حديج إفريقية فبعثه معاوية بن حديج على خيل إلى جلولاء بأرض المغرب فحصر أهلها ونصب عليها المجانيق فكتب إليه معاوية بن حديج أن انصرف فانصرف. وقد كان أوهى الحائط فخر الحائط. فانصرف بالناس راجعين فقتل المقاتلة وسبا الذرية ووجه ابن حديج جيشا فنزلوا على مدينة فسألوه الصلح فصالحهم وانصرف في سنة 51 هـ.
وفيها قَدِمَ الربيعُ بنُ زيادٍ الحارثيُّ خراسانَ من قِبَلِ زيادٍ فغزا بَلْخًا وكانت أُغْلِقَتْ بعدَ الأحنفِ فصالحَوا الربيعَ ثم غزا الربيعُ قَهَسْتَانَ ففَتَحَهَا عُنْوَةً. (4)
وفي سنة 52 هـ كانت غزوةُ سفيانَ بنَ عوفٍ الأَزْدِيِّ ومَشْتَاه بأرضِ الرومِ وأنَّه تُوُفِّيَ بها واستَخْلَفَ عبدَ الله بنَ مسعدة الفَزَارِيَّ وهذا قولُ الواقديِّ، وقال غيرُه: بل الذي شَتَا بأرضِ الرومِ في هذه السنةِ بالناسِ بُسرُ بنُ أبي أَرطاةَ ومعه سفيانُ بنُ عوفٍ الأَزْديُّ، وغزا الصائفةَ في هذه السنةِ محمدُ بنُ عبدِ اللهِ الثقفيُّ. (5)
(1) تاريخ الطبري (3/ 206)، والبداية والنهاية (8/ 32)
(2)
تاريخ خليفة (50).
(3)
تاريخ خليفة (50).
(4)
تاريخ خليفة (50).
(5)
تاريخ الطبري (3/ 237).
سنة 53 من الهجرة غزا عبدُ الرحمن بنُ أم الحَكَمِ بلادَ الرومِ وشَتَى هنالك، وفيها افتَتَحَ المسلمون وعليهم جُنَادَةُ بنُ أبي أُمَيةَ جزيرةَ رُودِسَ فأقام بها طائفة من المسلمين كانوا أشد شيءٍ على الكفار، يعترضون لهم في البحر، ويقطعون سبيلَهم، وكان معاويةُ يدر عليهم الأرزاقَ والأُعطِياتِ الجزيلةَ، وكانوا على حذرٍ شديد من الفرنج يبيتون في حصنٍ عظيمٍ عنده فيه حوائجُهم ودوابُّهم وحواصلُهم ولهم نواطيرُ على البحر يُنذِرونهم إن قدِم عدؤ أو كادَهم أحد (1)
…
سنة 54 من الهجرةِ كان شَتَى محمدُ بنُ مالكٍ بأرضِ الرومِ وغزا الصائفةَ معنُ بنُ يزيدَ السلميُّ (2)، وفيها فيما زعم الواقديُّ فَتَحَ جُنَادَةُ بنُ أبي أُمَيَّةَ جزيرةً في البحرِ قريبةً من قسطنطينيةَ يقالُ لها: أروادُ.
وذكر محمد بن عمر أنَّ المسلمين أقاموا بها دهرًا فيما يُقال سبع سنين (3).
وفيها غزا عُبَيدُ الله بن زياد خراسان فقطع النهر إلى بخارى، وافتتح زاميرَ ونصف بيكند وهما من بُخارَى (4).
وفي سنة 55 هـ كان مَشتَى سفيانَ بنِ عوفٍ الأَزْدِيِّ بأرض الروم، وقيل: الذي شتى غيرُه (5).
وفيها غزا يزيد بن شجرة الرهاويُّ فقُتِلَ وقال بعضُهم: لم يُقتل في هذا الغزاةِ؛ قُتِلَ بعد ذلك (6).
سنة 56 من الهجرة شتى جُنادةُ بن أبي أمية بأرض الروم، وقيل: عبدُ الرحمن بنُ مسعودٍ، ويقال: فيها غزا في البحر يزيد بن سمرة وفي البر عياضُ بن الحارثِ (7).
(1) البداية والنهاية (8/ 61).
(2)
البداية والنهاية (8/ 66).
(3)
تاريخ الطبري (3/ 241).
(4)
تاريخ خليفة (55).
(5)
تاريخ الطبري (3/ 245).
(6)
تاريخ خليفة (55).
(7)
تاريخ الطبري (3/ 247)، والبداية والنهاية (8/ 78).
وفي سنة 57 هـ كان مَشتَى عبد الله بن قيسٍ بأرض الروم (1). وقال خليفةُ: وفيها وجَّه معاويةُ بن أبي سفيان حسانَ بن النعمان الغسانيِّ إلى إفريقيةَ فصالَحَه من يَليه من البربر، ووضع عليها الخراجَ فلم يزلْ عليها حتى ماتَ معاويةُ (2).
سنة 58 هـ فيها غزا مالكُ بن عبد الله الخثعميُّ أرضَ الروم، قال الواقديُّ: وفيها قيل: شَتَى يزيدُ بن شجرة في البحر، وقيل: بل غزا البحرَ وبلادَ الرومِ جُنادةَ بنَ أبى أميةَ، وقيل: إنما شَتَى بأرض الروم عمرو بن يزيد الجهنيُّ، وقيل غيرُ ذلك (3). وقال خليفةُ: وفي سنة ثمان وخمسين شَتَا عمرو بن مرة البذبذون، وأغار الحصين بن نميرٍ على صائفة الروم (4).
وفي سنة 59 هـ شتى عمرو بن مرة الجهنيُّ في أرض الروم في البر. قاله الواقدي، ولم يكن فيها غزوٌ في البحر، وقال غيره: بل غزا في البحر عامئذٍ جنادة بن أبي أمية (5). قال خليفة: فيها غزا دينار أبو المهاجر فنزل على قرطاجنة فالتقوا فكثر القتل والجراح في الفريقين، وحجز الليل بينهم وانحاز المسلمون من ليلتهم فنزلوا حبلا في قبلة يونس ثم عاودوهم القتال فصالحَوهم على أنْ يُخلو لهم الجزيرةَ، وانتهى المهاجرُ إلى عيون أبي المهاجر وافتتح ميلة وكان إقامته في هذه الغزاة نحوًا من سنتين (6).
فإذا كان الحال كما ذكرت، والطعن كما قرأت ممن عرفت علم لماذا طعن هؤلاء في هذا الحاكم العادل، والبطل المجاهد، والصحابي الجيل رضي الله عنه إلا لأنه سد الطريق أمام أسلافهم بحلمه، وعدله وأكل فساقهم بقوة جيشه، وحسن طاعتهم له.
وننتقل بعد ذلك إلى الشبهات التي وجهت إليه ومن الله نستمد العون.
(1) تاريخ الطبري (3/ 251).
(2)
تاريخ خليفة (55).
(3)
البداية والنهاية (8/ 82).
(4)
تاربخ خليفة (55).
(5)
البداية والنهاية (8/ 94).
(6)
تاريخ خليفة (56).