الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي أثناء الوجه قال علي للزبير:
أتذكر حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين قال: يا زبير، أما واللَّه لتقاتلنه وأنت ظالم له. (1) روى الحاكم في المستدرك من طرق متعددة (2)، أن عليًا ذكّر الزبير بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:"لتقاتلن عليًا وأنت ظالم له" فلذلك رجع.
وأخرج إسحاق من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن عبد السلام -رجل من حيه- قال: خلا علي بالزبير يوم الجمل فقال: أنشدك اللَّه هل سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول وأنت لاوي يدي: "لتقاتلنه وأنت ظالم له ثم لينتصرن عليك"، قال: قد سمعت، لا جرم لا أقاتلك. (3)
وروى أن الزبير رضي الله عنه لما عزم على الرجوع إلى المدينة عرض له ابنه عبد اللَّه فقال: مالك؟ قال: ذكّرني علي حديثًا سمعته من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وإني راجع، فقال له ابنه: وهل جئت للقتال؟ إنما جئت تصلح بين الناس، ويصلح اللَّه هذا الأمر. (4)
وبالفعل فإن موقف الزبير رضي الله عنه كان السعي في الإصلاح حتى آخر لحظة، وهذا ما أخرجه الحاكم في المستدرك من طريق أبي حرب بن أبي الأسود الديلي، وفيه أن الزبير رضي الله عنه سعى في الصلح بين الناس ولكن لما قامت المعركة واختلف أمر الناس مضى الزبير وترك القتال. (5)
وهذا الفعل من الزبير رضي الله عنه هو الذي ينسجم مع مقصده الذي قدم البصرة من أجله، لا كما تصوره بعض الروايات من أنه كان من المحرضين على القتال.
وأثناء انسحابه رضي الله عنه رآه ابن جرموز، فتبعه فأدركه وهو نائم في القائلة بوادي السباع، فهجم عليه فقتله رضي الله عنه، ثم سلب سيفه ودرعه. (6)
(1) تاريخ دمشق لابن عساكر (18/ 410: 408).
(2)
الحاكم في المستدرك (3/ 365 - 366).
(3)
ذكره الحافظ في الفتح (13/ 60)، وانظر المطالب العالية (4/ 301).
(4)
ابن عساكر في تاريخه (18/ 410)، وابن كثير في البداية (7/ 242).
(5)
الحاكم في المستدرك (3/ 413، 366)، وقال الذهبي: صحيح.
(6)
الفصل في الملل والنحل لابن حزم (4/ 239). وقال ابن كثير: أن هذا القول هو الأشهر. انظر: البداية والنهاية (7/ 250). نقلًا عن كتاب - صدق النبأ في بيان حقيقة عبد اللَّه بن سبأ (98).
وجاء إلى علي رضي الله عنه متقربًا إليه بذلك، فأمسك علي السيف بيده وقال: طالما جلى به الكرب عن وجه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقال: "بشر قاتل ابن صفية بالنار". (1)
وذكره أحمد في كتاب فضائل الصحابة بإسناد حسن بلفظ قريب وفيه (2): جاء قاتل الزبير يستأذن، فجاء الغلام فقال: هذا قاتل الزبير فقال: "ليدخل قاتل الزبير النار، وجاء قاتل طلحة يستأذن فقال الغلام: هذا قاتل طلحة يستأذن، فقال: ليدخل قاتل طلحة النار"، وهذا الخبر يؤيده ما أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة (3) بإسناد حسن، وفيه أن ابن جرموز استأذن على عليّ رضي الله عنه فقال: من هذا؟ فقال: ابن جرموز يستأذن. فقال: "ائذنوا له ليدخل قاتل الزبير النار، إني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: لكل نبي حواريّ وإن حوارييّ الزبير".
وفي تعليل هذه الجرأة من ابن جرموز على قتل الزبير رضي الله عنه يقول الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في كتاب الإمامة (4): وكثر في أيامه -أيام عثمان رضي الله عنه من لم يصحب الرسول، وفُقد من عَرَفَ فضل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
هنا ذهب كعب بن سَور بالخبر إلى أم المؤمنين فقال لها: أدركي الناس قد تقاتلوا.
وكانت المعركة قريبة من البصرة، فوضع لها الهودج فوق البعير -وَرَدَ أن اسم البعير عسكر- فجلست فيه وغطي بالدروع، وذهبت إلى أرض المعركة لعل أن يوقف الناس القتال عندما يشاهدونها، فلما وصلت، أعطت عائشة المصحف لكعب وقالت له: خلِّ البعير وتقدم وارفع كتاب اللَّه وادعهم إليه، فشعر أهل الفتنة بأن القتال سيتوقف إذا تركوا كعبًا يفعل ما طُلب منه، فلما قام كعب ورفع المصحف وأخذ ينادي تناولته النبال فقتلوه. (5)
(1) ذكره الحافظ في الفتح (6/ 264 - 265) و (7/ 102) وانظر: المسند (1/ 89، 102) وصححه الحاكم في المستدرك (4/ 367).
(2)
فضائل الصحابة للإمام أحمد (2/ 736 - 737).
(3)
المصدر السابق.
(4)
تثبيت الإمامة وترتيب الخلافة لأبي نعيم الأصبهاني (ص 322).
(5)
كما جاء في رواية الطبري (4/ 513) من طريق سيف بن عمر، وابن عساكر في تاريخ دمشق (7/ 88).
ثم أخذوا بالضرب نحو الجمل، بغية قتل عائشة لكن اللَّه نجاها، فأخذت تنادي: أوقفوا القتال، وأخذ عليّ ينادي وهو من خلف الجيش: أن أوقفوا القتال، وقادة الفتنة مستمرين، فقامت أم المؤمنين بالدعاء على قتلة عثمان قائلة: اللهم العن قتلة عثمان، فبدأ الجيش ينادي معها، وحين سمع علي رضي الله عنه أثناء المعركة أهل البصرة يضجون بالدعاء، قال: ما هذه الضجة؟ فقالوا: عائشة تدعو ويدعون معًا على قتلة عثمان وأشياعهم، فأقبل عليّ يدعو ويقول: اللهم العن قتلة عثمان وأشياعهم. (1)
وروى ابن أبي شيبة في المصنف (2)، والبيهقي في السنن الكبرى (3)، أن عليًا سمع يوم الجمل صوتًا تلقاء أم المؤمنين فقال: انظروا ما يقولون، فرجعوا فقالوا: يهتفون بقتلة عثمان، فقال: اللهم أحلل بقتلة عثمان خزيًا.
ويؤيد هذا الخبر ما أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة بإسناد صحيح، من طريق محمد بن الحنفية قال: بلغ عليًا أن عائشة تلعن قتلة عثمان في المربد، قال: فرفع يديه حتى بلغ بهما وجهه فقال: وأنا ألعن قتلة عثمان، لعنهم اللَّه في السهل والجبل، قال مرتين أو ثلاثًا. وارتفعت أصوات الدعاء في المعسكرين. (4)
يقول الحارث بن سويد الكوفي -شاهد عيان ثقة ثبت- لقد رأيتُنا يوم الجمل، وإن رماحنا ورماحهم لمتشاجرة ولو شاءت الرجال لمشت عليه، يقولون: اللَّه أكبر، سبحان اللَّه، اللَّه أكبر. (5)، ثم إن أهل الفتنة أخذوا يرشقون جمل أم المؤمنين بالنبال وعليّ يصرخ فيهم أن كفوا عن الجمل، لكنهم لا يطيعونه فصار الجمل كالقنفذ من كثرة النبال التي علقت به. (6)
ويقدم الأشتر نحو الجمل فوقف له ابن الزبير فتقاتلا، ولهذا شاهد من حديث أخرجه
(1) تاريخ الطبري (4/ 513).
(2)
ابن أبي شيبة في المصنف (15/ 277).
(3)
البيهقي في السنن الكبرى (8/ 181).
(4)
فضائل الصحابة للإمام أحمد (1/ 455).
(5)
تاريخ خليفة (198) بإسناد صحيح.
(6)
تاريخ الطبري (4/ 513، 533) من طريق سيف بن عمر.
ابن أبي شيبة في المصنف (1) بإسناد رجاله ثقات: أن الأشتر وابن الزبير التقيا فقال ابن الزبير: فما ضربته ضربة حتى ضربني خمسًا أو ستًا، ثم قال: فألقاني برجلي، ثم قال: واللَّه لولا قرابتك لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما تركت منك عضوًا مع صاحبه، قال: وقالت عائشة: واثكل أسماء، قال: فلما كان بعد أعطت الذي بشرها به أنه حيّ عشرة آلاف.
أما قصة صراع ابن الزبير مع الأشتر وقول ابن الزبير: اقتلوني ومالكًا، تعارضها الروايات الصحيحة، فقد أخرج الطبري (2) بسند صحيح عن علقمة أن الأشتر لقي ابن الزبير في الجمل فقال: فما رضيت بشدة ساعدي أن قمت في الركاب فضربته على رأسه فصرعته. قلنا فهو القائل: اقتلوني ومالكًا؟ قال: لا، ما تركته وفي نفسي منه شيء، ذاك عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، لقيني فاختلفنا ضربتين، فصرعني وصرعته، فجعل يقول: اقتلوني ومالكًا، ولا يعلمون من مالك فلو يعلمون لقتلوني. (3)
هنا وصل القعقاع إلى الجمل فخاف على أم المؤمنين أن تصاب فبدأ ينادي بالانسحاب فأخذ الجمل محمد بن طلحة بن عبيد اللَّه، فقتل رضي الله عنه فأخذ القعقاع الجمل وسحبه خارج المعركة.
أخرج ابن أبي شيبة في المصنف (4) بسند صحيح أن عبد اللَّه بن بديل قال لعائشة: يا أم المؤمنين أتعلمين أني أتيتك عندما قتل عثمان فقلتُ ما تأمريني، فقلتِ الزم عليًا؟ فسكتت فقال: اعقروا الجمل فعقروه قال: فنزلت أنا وأخوها محمد واحتملنا الهودج حتى وضعناه بين يدي عليّ، فأمر به علي فأدخل في بيت عبد اللَّه بن بديل. وأورده الحافظ في الفتح. (5)
هنا علي رضي الله عنه أصدر الأوامر بأن لا تلحقوا هاربًا ولا تأخذوا سبيًا فثار أهل الفتنة وقالوا: تحل لنا دماؤهم ولا تحل لنا نساؤهم وأموالهم؟ فقال عليّ: أيكم يريد عائشة في سهمه فسكتوا،
(1) ابن أبي شيبة في المصنف (11/ 108)، (15/ 257).
(2)
تاريخ الطبري (4/ 520).
(3)
ابن أبي شيبة في المصنف (15/ 228).
(4)
السابق.
(5)
الحافظ في الفتح (13/ 62).
فنادى لا تقتلوا جريحًا ولا تقتلوا مدبرًا، ومن أغلق بابه وألقى سلاحه فهو آمن (1).
وعن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قال: دخلت على مروان بن الحكم، فقال: ما رأيت أحدًا أكرم من أبيك، ما هو إلا أن ولينا يوم الجمل فنادى مناديه لا يقتل مدبرٌ ولا يذفف على جريح. (2)
وكان علي رضي الله عنه يطوف على القتلى وهم يدفنون، ثم سار حتى دخل البصرة فمر على طلحة، ورآه مقتولًا، فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول: عزيز عليّ أبا محمد أن أراك مجندلًا تحت نجوم السماء، ثم قال: إلى اللَّه أشكو عجري وبجري -أي همومي وأحزاني- وبكى عليه وعلى أصحابه. (3)
بعدها ذهب إلى بيت عبد اللَّه بن بديل الخزاعي لزيارة عائشة والاطمئنان عليها فقال لها: غفر اللَّه لكِ، قالت: ولك ما أردت إلا الإصلاح بين الناس. (4)، ونقل الزهري (5) قولها: إنما أريد أن يحجز بين الناس مكاني، ولم أحسب أن يكون بين الناس قتال، ولو علمت ذلك لم أقف ذلك الموقف أبدًا. وهذا هو الصحيح بخلاف من قال بأن عائشة نزلت في بيت عبد اللَّه بن خلف الخزاعي.
ثم قام علي بتجهيز عائشة وإرسالها إلى مكة معززة مكرمة، وهذا الفعل من علي رضي الله عنه يعد امتثالًا لما أوصاه به النبي صلى الله عليه وسلم (6)، في حديث أبي رافع رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: إنه سيكون بينك وبين عائشة أمر، قال: فأنا أشقاهم يا رسول اللَّه؟ قال: لا، ولكن إذا كان ذلك فارددها إلى مأمنها.
وكان خروج عائشة رضي الله عنها يوم الجمل يعتبر زلة عن قصد حسن وهو الإصلاح، وقد
(1) البيهقي في السنن الكبرى (8/ 182)، وابن أبي شيبة (15/ 257) و (15/ 286) بإسناد صحيح.
(2)
وأخرجه الشافعي في الأم (4/ 308)، وأورده الحافظ في الفتح (13/ 62).
(3)
تاريخ دمشق (25/ 115)، وأسد الغابة لابن الأثير (3/ 88 - 89).
(4)
شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي (1/ 206).
(5)
في المغازي (154).
(6)
أخرجه الإمام أحمد في المسند (6/ 393) بسند حسن.