الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وللحديث طريق ثالثة: عن هند بنت الحارث به. (1) وإسناده إليها صحيح ولكنه مرسل، ولا يقال: إن هذا يقويه ما قبله، لأن الروايات الثلاث تنتهي إلى هند بنت الحارث.
والوجه الثاني: وهو على فرض صحة الرواية فليس فيها هذا الشرخ المزعوم ولا ما في معناه من ضعف العلاقة بين عائشة والنبي صلى الله عليه وسلم، وغاية ما فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سكت في هذه الرواية، ولكنه صرح في غيرها أن أحب الناس إليه عائشة، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة سبق ذكرها. وكما هو معلوم أن من أراد السلامة في باب من أبواب العلم لا ينهي البحث فيه حتى يجمع كل الروايات الخاصة به في غالب ظنه، ثم يجمع بينها ويبني على ذلك الجمع أو الترجيح عقيدته ولا يلتقط نصًا واحدًا ويدع نصوصًا كثيرة أوضح منه وأصرح.
الوجه الثالث:
أن هذا السؤال على فرض صحته أيضًا ربما كان في حضرة أم سلمة فسكت النبي صلى الله عليه وسلم لئلا ينكسر قلبها في أول زواجه بها، ومما يؤيد ذلك أنها ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يتزوجها أنها تغار، ومما يخفف الغيرة أن لا يتحدث الرجل كثيرًا عن حبه لإحدى الزوجتين أمام الأخرى حفاظًا على قلبها، فلو صحت الرواية لكنا أسعد الناس بها.
الوجه الرابع: معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بغيرة أم سلمة فسكت مراعاة لذلك، وإليك هذه الرواية:
عن أم سلمة أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:"ما من مسلم تصيبه مصيبة، فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيرا منها، إلا أخلف الله له خيرا منها"، قالت: فلما مات أبو سلمة، قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: أرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة يخطبني له، فقلت: إن لي بنتا وأنا غيور، فقال:"أما ابنتها فندعو الله أن يغنيها عنها، وأدعو الله أن يذهب بالغيرة"(2).
(1) ضعيف. أخرجه البلاذري في أنساب الأشراف باب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من طريق عمرو بن محمد الناقد، ثنا سفيان، عن معمر، عن الزهري، عن هند بنت الحارث به، وهذا إسناد صحيح إلى هند لكنه مرسل، وهند بنت الحارث ثقة من الثالثة. التقريب (8695).
(2)
أخرجه مسلم (918).
ومعلوم أن سكوت النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الموقف يعد من الأخذ بالأسباب التي تخفف الغيرة.
الرواية الثانية: التي استدلوا بها على ما ذهبوا إليه من الطعن في أم المؤمنين - ضي الله عنها-: عن عائشة قالت: لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة حزنت حزنًا شديدًا لما ذكروا لنا من جمالها، قالت: فتلطفت لها حتى رأيتها، فرأيتها والله أضعاف ما وصفت لي في الحسن والجمال، قالت: فذكرت ذلك لحفصة، وكانتا يدًا واحدة، فقالت: لا والله، إن هذه إلا الغيرة ما هي كما يقولون، فتلطفت لها حفصةُ حتى رأتها، فقالت: قد رأيتها ولا والله ما هي كما تقولين ولا قريب؛ وإنها لجميلة، قالت: فرأيتها بعد فكانت لعمري كما قالت حفصة، ولكني كنت غيري (1).
والرد على ذلك من وجوه:
أحدها: أن الحديث من رواية الواقدي وهو متروك.
الثاني: أنه لو صح لما كان فيه طعن في عائشة؛ لأن أمر الغيرة معفوُّ عنه كما سبق.
الثالث: أن أم المؤمنين رضي الله عنها هي التي روت ذلك على فرض صحته، فلو كان فيه شيء يسيء إليها كما يقولون ما نقلته، ولكنها تنقل ما لها وما عليها حفظًا لدين الله تعالى وهذا من أعظم المناقب.
الرابع: أن غيرة المرأة على زوجها تعني حبها له، وهذا ما كان بالفعل من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
الرواية الثالثة: التي استدل بها مَنْ أساء الفهم على سوء الأخلاق من عائشة تجاه أم سلمة: عن أم سلمة: أنها أتت بطعام في صحفة لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فجاءت عائشة متزرة بكساء ومعها فهر ففلقت به الصحفة، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين فلقتي الصحفة ويقول:"كلوا غارت أمكم" مرتين، ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم صحفة عائشة فبعث بها إلى أم
(1) ضعيف جدًّا. أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (8/ 95) من طريق محمد بن عمر، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة به، ومن طريقه ابن الجوزي في المنتظم في أحداث السنة الرابعة من الهجرة، والبلاذري في أنساب الأشراف في أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وولده. وفي إسناده الواقدي وهو متروك.
سلمة وأعطي صحفة أم سلمة عائشة. (1)
وهذه رواية صحيحة، أما موضع الاعتراض فهو من الغيرة، ويرون فيها إساءة لأم سلمة.
والرد على ذلك من وجوه.
الأول: ما سبق ذكره وبيانه من أن الغيرة معفوُّ عنها في نحو هذه الحدود.
الثاني: ومن الجبلة والفطرة أن الإنسان ربما يغار، وخاصة إذا كان مع أهل الفضل، فنساء النبي صلى الله عليه وسلم تصيبهن الغيرة، وهذا قد يكون -في بعض الأحوال- من أصالة المرأة؛ لأنها إذا كملت محبتها لزوجها تفانت في هذه المحبة إلى درجة أنها تغار، فلما أُتي بالطعام غارت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فضربت القصعة فكسرتها وسقط الطعام، حتى ورد في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل يقول:"غارت أمكم، غارت أمكم، غارت أمكم"، ومَنْ الذي لا يغار على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ! فلما كسر الإناء وذهب الطعام ندمت عائشة -رضي الله عنا-، وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الأمر؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يضيع سعي العبد إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ما صنعت، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالضمان وقال:"إناء كإناء، وطعام كطعام" أي: اضمني إناءً مثل الإناء الذي كسرتيه، واضمني طعامًا مثل الطعام الذي أتلفتيه. (2)
(1) صحيح. أخرجه النسائي (7/ 70)، وفي الكبرى (8904)، والطحاوي في مشكل الآثار (2839)، والخطيب في الأسماء المبهمة (1/ 128) من طريق ثابت عن أبي المتوكل عن أم سلمة به؛ وهذا إسناد صحيح. واختلف على ثابت فرواه عنه حماد بن سلمة عن أبي المتوكل كما هنا، ورواه الطبراني في الأوسط (4335) والصغير (568) من طريق عبيد الله بن عمر، وأبو يعلى الخليلي (3339)، والدارقطني في السنن 4/ 153 (14) من طريق عمران بن خالد الخزاعي -كلاهما [عمران] وعبيد الله، عن ثابت، عن أنس به. ورجح أبو زرعة الرازي فيما حكاه ابن أبي حاتم في العلل عنه رواية حماد بن سلمة؛ وقال أن: غيرها خطأ. اهـ. فتح الباري (5/ 125).
وهو كما قال؛ لأن حماد بن سلمة أثبت الناس في ثابت، فيحكم له عند الاختلاف على ثابت، وحديث أنس ثابت في الصحيح لكن بإبهام الزوجة التي أرسلت والتي كسرت الإناء أخرجه البخاري من طريق حميد عن أنس (4927).
وقال الطيبي: إنما أبهمت عائشة تفخيمًا لشأنها، وأنه مما لا يخفى ولا يلتبس أنها هي؛ لأن الهدايا إنما كانت تهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها. اهـ. فتح الباري (5/ 124).
ولكن الصحيح الذي رجحه الحافظ أن التي أرسلت الطعام في رواية البخاري هي زينب لا أم سلمة؛ فيكون على هذا حديث حميد عن أنس في قصة زينب.
(2)
شرح زاد المستقنع لمحمد المختار الشنقيطي (9/ 327).
فوضح بهذا أن هذه الغيرة فطرية طبيعية لاشيء فيها، بخلاف الغيرة التي تصل إلى حالة المرض والعياذ بالله، ولم يقع منها شيء في البيت النبوي بحمد الله.
الثالث: أن مثل هذه الأمور تحدث في البيت النبوي لنتعلم كيف نتصرف فيها إذا حدثت لنا، لأن لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، وبهذه المناسبة نذكر بعض الفوائد من هذا الحديث فانظرها في الحاشية. (1)
(1) في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إناء بإناء، وطعام بطعام" وهذا من الأصول في العقوبة، قال تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} ، وقوله تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} فقد تعلمنا هنا كيفية العقوبة في مثل هذا الوقف من غير إفراط ولا تفريط.
فدل هذا الحديث على أن الإتلاف والغصب يبتدأ في ضمانه بالمثل، وأن من أتلف شيئًا نأمره أن ينظر إلى مثل ذلك الشيء إن وجد، وأننا لا ننتقل إلى القيمة متى أمكن وجود المثل، وهذا الأصل دلت عليه سنة النبي صلى الله عليه وسلم ودل عليه صريح القرآن، فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (النحل: 126)، وقال سبحانه وتعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (الشورى: 40)، فقوله:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} سَمَّى ضمان الشيء وردِّ الشَيء بمثله سيئة، وهذا ليس المراد منه أنها سيئة حقيقة، لأنه لو أساء إليك شخص فرددت إساءته بمثلها فلست بمسيء، فاستشكل العلماء رحمهم الله المثلية هنا؛ فقالوا: لأن الإنسان إذا أراد أن يرد سيئة ربما أخذته الحمية غالبًا فزاد وجار، ولذلك قال:{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} (الشورى: 40)، والغالب أن الإنسان لا يحتمل نفسه ولا يستطيع أن يأخذ القصاص مثلًا بمثل، لأن الحمق والغيظ يدفعه إلى الزيادة. الشاهد في قوله:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (النحل: 126) فوجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نعاقب بالمثل، ومن أتلف شيئًا فإنه يجب علينا أن نعاقبه على ذلك الإتلاف فنأمره بمثله:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ} ، فإذا كسر إناء عاقبناه بالمثل وقلنا له: أحضر إناء مثل الإناء الذي كسرته، ولو أخذ سيارةً غصبًا فأتلفها قلنا له: ائت بسيارة مثل تلك السيارة وأعطها لصاحبها، فتلك عقوبة بالمثل وامتثال لأمر الله سبحانه وتعالى في كتابه. وفي هذه الجملة دليل على أننا نضمن بالمثل، وهذا هو الصحيح من قول العلماء لظاهر القرآن وظاهر السنة، وهو مذهب الجمهور -رحمة الله عليهم- خلافا للشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد. اهـ. شرح زاد المستقنع للشنقيطي (9/ 428).
ثانيًا: كرم أخلاقه صلى الله عليه وسلم في تعامله مع أهله وزوجه ومن ذلك أنه كان يُحسن إليهم، ويرأف بهم، ويتلطّف ويتودّد إليهم، فكان يمازح أهله ويلاطفهم ويداعبهم، وكان من شأنه صلى الله عليه وسلم أن يرخم اسم عائشة كأن يقول لها: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= "يا عائش"، ويُكرمها بأن يناديها باسم أبيها بأن يقول لها:"يا ابنة الصديق" وما ذلك إلا توددًا ويقربًا وتلطفًا إليها، واحترامًا وتقديرًا لأهلها.
ثالثًا: ومع هذا الحب والاحترام لم يكن يضيع حق أحد لحساب أحد، فقد كان عدله صلى الله عليه وسلم وإقامته شرع الله تعالى ولو على أقرب الأقربين استجابة لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} (النساء: 135).
فكان يعدل بين نسائه صلى الله عليه وسلم ومن ذلك ما جرى في هذه القصة، فهو صلى الله عليه وسلم قد وضع الأمر في نصابه فلم يفوتها لعائشة؛ لأنها حبيبته بنت حبيبه رضي الله عنهم، ولم يبالغ في العقوبة؛ لأنها أحرجته أمام الضيوف، وقد أرسل القصعة لأم سلمة تطييبًا لخاطرها مع أن الكل ملكه صلى الله عليه وسلم، وانظر مرقاة المفاتيح باب قيام شهر رمضان.
رابعًا: وكان يتحمل ما قد يقع من بعضهن من غيرة؛ كما كانت عائشة غيورة، ولذلك رد حق أم سلمة في الإناء، ولم ينتصر لنفسه فيما جرى، حتى قالت عائشة: ولم أرَ في وجهه غضبًا، ولم يعاتبني صلى الله عليه وسلم. اهـ. مشكل الآثار باب: بيان ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله غارت أمكم.
خامسًا: فهو لم يتحمل فحسب بل من كريم خلقه أنه اعتذر عن زوجته أمام أصحابه بأمرين:
أولها: الغيرة التي هي طبيعة في النساء، قال ابن حجر رحمه الله: وقوله: "غارت أمكم" اعتذار منه صلى الله عليه وسلم لئلا يحمل صنيعها على ما يذم، بل يجري على عادة الضرائر من الغيرة، فإنها مركبة في النفس بحيث لا يقدر على دفعها، وفيه إشارة إلى عدم مؤاخذة الغيراء بما يصدر منها؛ لأنها في تلك الحالة يكون عقلها محجوبًا بشدة الغضب الذي أثارته الغيرة. فتح الباري باب الغيرة.
ثانيها: أنه ذكر أنها أم المؤمنين فيجب عليهم احترامها وبرها على كل حال حتى لو كانت غيري.
سادسًا: ومن أجل فوائد هذا الحديث حسنُ العشرة مع النساء سواءً كانت أم سلمة أو عائشة؛ وهذا من أجلِّ محاسن هذه الشريعة، فقد أمر الله تعالى بأن يُعاشر النساء بالمعروف فقال جل ذكره:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ، والمعروف كلمة جامعة لكل فعل وقول وخلق نبيل، وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جميل العشرة، دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف بهم، ويوسعهم نفقته، ويضاحك نساءه. وهذا يبين لنا كيف عاش صلى الله عليه وسلم زوجًا؟ وكيف تعامل مع نسائه؟ وكيف راعى نفسياتهن؟ ولقد كثرت وصاياه وإرشاداته للرجال بضرورة رعاية حقهن زوجات، وأمهات لأولادهم؟ وحسبي أن أسوق بعض الأحاديث دون شرح أو تعليق، فهي كافية في إيضاح المراد مكتفيًا بالإشارة إلى بعض ما تدل عليه تلك الأحاديث الشريفة:
فقد أوصى بهن خيرًا في نصوص كثيرة منها: حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اللهم إني أحرج حق الضعيفين اليتيم والمرأة" أخرجه ابن ماجه (3678)، وأحمد 2/ 439، وابن حبان (5565)، والحاكم (1/ 131) وقال: على شرط مسلم، وكذا قال الذهبي، وقال البوصيري: إسناده صحيح ورجاله ثقات، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (2447). =
الرواية الرابعة:
عن عائشة تقول يومًا: دخل عليَّ يومًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أين كنت منذ اليوم؟ قال: "يا حميراء، كنت عند أم سلمة"، فقلت: ما تشبع من أم سلمة! قالت: فتبسم، فقلت: يا رسول الله، ألا تخبرني عنك لو أنك نزلت بعدوتين إحداهما لم تُرْعَ والأخرى قد
= وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا وخياركم خيارهم لنسائهم" أخرجه الترمذي (1162) من حديث أبي هريرة وقال: حسن صحيح، وأخرجه أحمد (2/ 250، 2/ 472)، وابن حبان (4176)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2112).
وخوّف ورهّب من تزوج بأكثر من واحدة لمن لم يعدل بينهن: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان له امرأتان يميل لإحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة أحد شقيه مائل" أخرجه النسائي (3942)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1949).
- إقرار نساء النبي صلى الله عليه وسلم بفضل عائشة: ولذلك ورد عن أكثر من واحدة منهن الإهداء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عائشة، قال الطيبي: في قصة إهداء زينب التي رواها أنس: إنما أبهمت عائشة تفخيمًا لشأنها، وإنه مما لا يخفي ولا يلتبس أنها هي؛ لأن الهدايا إنما كانت تهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها.
سابعًا: ويحتمل أن ذلك منهن غيرة من عائشة إذ الغيرة قاسم مشترك بين جميع النساء. والله أعلم.
قال البدر العيني: ويقال إنما لم يؤدبها ولو بالكلام؛ لأنه فهم أن المُهدية كانت أرادت بإرسالها ذلك إلى بيت عائشة أذاها والمظاهرة عليها، فلما كسرتها لم يزد على أن قال:"غارت أمكم". عمدة القاري باب: إذا كسر - قصعة أو شيئًا لغيره.
تاسعًا: احترام مشاعر الضيف حيث قال: "غارت أمكم" وهو يبتسم ويأمرهم بالأكل، ولم ينشغل بغير إكرام الضيف الذي عمدته الطعام وطلاقة الوجه، ومعلوم أنه لو أحدث نزاعًا مع أهله في وجود الضيف لكان ذلك مؤذيًا له، وربما لا يعود عندما يعلم أن النزاع كان بسببه.
عاشرًا: أن تصرف النبي صلى الله عليه وسلم مع أم سلمة فيه شيء من الداراة لها ولا عيب في ذلك، وعليه أورده ابن أبي الدنيا في (كتاب المداراة) باب: مداراة الرجل زوجته وحسن معاشرته إياها.
الحادي عشر: وفيه مداعبة لعائشة، ولذلك أورده ابن أبي الدنيا في (كتاب العيال) باب: ملاعبة الرجل أهله.
الثاني عشر: تواضع النبي صلى الله عليه وسلم حيث قام بجمع الطعام بيديه كما في بعض روايات الحديث.
الثالث عشر: ومنها التجرد من حظوظ النفس وهو أمر لا يقدر عليه إلا من أعطاه الله قوةً وعزمًا: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} . (فصلت: 34، 35).
الرابع عشر: الحلم وهو زين ومن زينة الرجال.
الخامس عشر: غض الطرف عن الهفوة والزلة والخطأ غير المقصود.
رُعيت؛ أيهما كنت ترعى؟ قال: "التي لم تُرْعَ"، قلت: فأنا ليس كأحد من نسائك، كلُّ امرأة من نسائك قد كانت عند رجل غيري، قالت: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم. (1)
والرد على ذلك من وجوه:
الوجه الأول: أن هذا الحديث بهذا السياق والتمام لا يصح؛ لأنه من رواية الواقدي؛ وهو متروك الرواية متهم بالكذب، وفاطمة بنت مسلم لم أجد من ترجم لها بجرح أو تعديل، وبناء على ذلك فالزيادات التي انفردت بها هذه الرواية لا تقبل ولا يعول عليها، ومن هذه الزيادات قولها: ما تشبع من أم سلمة؛ فهذه الفقرة لا تصح.
الوجه الثاني: ولو صحت لكانت محمولة على الغيرة التي تدل على حب عائشة لزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما العيب في ذلك؟ وقد سبق الكلام عن الغيرة.
الوجه الثالث: مثال العدوتين الذي ضربته عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم له أصل في الصحيح وهو من مناقب عائشة في رضي الله عنها بالمقارنة مع سائر أمهات المؤمنين، وهذا واضح عند أصحاب الفطر السليمة. وها هو الحديث الصحيح بذلك:
عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، أرأيت لو نزلت واديًا وفيه شجرة قد أكل منها، ووجدت شجرًا لم يؤكل منها، في أيها كنت ترتع بعيرك؟ قال:"في التي لم يرتع منها". تعني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكرًا غيرها. (2)
وهذه الرواية الصحيحة لا تعلق لها بأم سلمة على الخصوص، وإنما هي تدل بنفسها على من أرسله الله بالمؤمنين رؤوفًا رحيمًا بذكر شيء خصها الله به من دون نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذه الرواية الصحيحة فوائد، منها ما يلي:
1 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكرًا غيرها وهذه خصوصية لها من دون نساء النبي صلى الله عليه وسلم.
2 -
وهذا أحد الوجوه التي بها يندفع كون زواجه صلى الله عليه وسلم لأجل الشهوة والدنيا، فلو كان
(1) ضعيف جدًّا. ولا يصح بهذا التمام، أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى 8/ 80 من طريق محمد بن عمر الواقدي، حدثتني فاطمة بنت مسلم، عن فاطمة الخزاعية قالت: سمعت عائشة به. وفي إسناده الواقدي وهو متروك.
(2)
البخاري (4789).
الأمر كذلك لاستكثر من الأبكار، وقد سبق الكلام في هذه.
3 -
ومنها أنها كانت أحب أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، كما ثبت ذلك عنه في البخاري وغيره، أنه سئل: أيُّ الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة". قيل: فمن الرجال؟ قال: "أبوها". (1)
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة؛ فإنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها". (2)
فهل هذا يدل على أن أم سلمة لم تكن ترتاح إلى عائشة مِنْ جراءِ كسر الصحفة لها؟
والرد على ذلك من وجوه:
الوجه الأول: ذكر سياق القصة يدل على أن أم سلمة ذكرت ذلك في مناقب عائشة وعنها روت عائشة القصة، ولولا أن أم سلمة قالت ذلك لعائشة ولغيرها من نساء النبي صلى الله عليه وسلم لما علمناه وإليك هذا السياق: عن هشام بن عروة عن أبيه قال: كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، قالت عائشة: فاجتمع صواحبي إلى أم سلمة، فقلن: يا أم سلمة، والله إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، وإنا نريد الخير كما تريده عائشة، فمري رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس أن يهدوا إليه حيثما كان أو حيثما دار، قالت: فذكرت ذلك أمُّ سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم، قالت: فأعرض عني، فسألنها فقالت: ما قال لي شيئًا، فقلن لها: فكلميه، فلما عاد إلي ذكرت له ذلك فأعرض عني، قالت: فكَلَّمَتْهُ حين دار إليها أيضًا، فلم يقل لها شيئًا، فسألنها، فقالت: ما قال لي شيئًا، فقلن لها: كلميه حتى يكلمك، فدار إليها، فلما كان في الثالثة ذكرت له فقال:"يا أم سلمة، لا تؤذيني في عائشة، فإنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها، قالت: فقالت: أتوب إلى الله من أذاك يا رسول الله، ثم إنهن دعون فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول: إن نساءك ينشدنك الله العدل في بنت أبي بكر، فكلمته فقال: "يا بنية ألا تحبين ما أحب؟ "، قالت: بلى، فرجعَت إليهن فأخبرتهن فقلن: ارجعي إليه فأبت أن ترجع، فأرسلن زينب
(1) البخاري (3820).
(2)
البخاري (3564).