الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي مِنْ سُوءٍ قَطُّ، وَأَبَنُوهُمْ، بِمَنْ، وَاللهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَطُّ، وَلَا دَخَلَ بَيْتِي قَطُّ إِلَّا وَأَنَا حَاضِر، وَلَا غِبْتُ فِي سَفَرٍ إِلَّا غَابَ مَعِي" وَسَاقَ الحْدِيثَ بِقِصَّتِهِ، وَفِيهِ: وَلَقَدْ دَخَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بَيْتِي، فَسَأَل جَارَيتِي، فَقَالَتْ: وَالله مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا عَيْبًا، إِلَّا أَنَّهَا كَانَتْ تَرْقُدُ حَتَّى تَدْخُلَ الشَّاةُ فتَأْكُلَ عَجِينَهَا، أَوْ قَالَتْ خَمِيرَهَا - شَكَّ هِشَامٌ - فَانْتَهَرَهَا بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: اصْدُقِي رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، حَتَى أَسْقَطُواها بِهِ، فَقَالَتْ: سُبْحَانَ الله وَالله مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا إِلَّا مَا يَعْلَمُ الصَّائِغُ عَلَى تِبْرَ الذَّهَبِ الْأَحْمَرِ، وَقَدْ بَلَغَ الْأَمْرُ ذَلِكَ الرَّجُلَ الَّذِيَ قِيلَ لَهُ، فَقَالَ: سُبْحَانَ الله وَالله مَا كَشَفْتُ، عَنْ كَنَفِ أُنْثَى قَطُّ. قَالَتْ عَائِشَةُ: وَقُتِلَ شَهِيدًا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَفِيهِ أَيْضًا مِنَ الزِّيَادَةِ: وَكَانَ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا بِهِ مِسْطَح وَحَمْنَةُ وَحَسَّانُ، وَأَمَّا المنافِقُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ فَهُوَ الَّذِي كَانَ يَسْتَوْشِيهِ وَيَجْمَعُهُ، وَهُوَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ وَحَمْنَةُ (1).
الوجه الثاني: فوائد الحديث
.
وبعد سياق حديث الإفك نذكر بعض الفوائد المستنبطة من هذا الحديث ليكون القارئ على بصيرة من أمره قبل عرض التساؤلات الواردة على هذا الحديث. كما قال ابن حجر (2) بعد ذكر فوائد الحديث: وبذلك يعرف قصور من قال براءة عائشة ثابتة بصريح القرآن فأي فائدة لسياق قصتها.
اعلم أن في حديث الإفك فوائد كثيرة:
1 -
صحة القرعة بين النساء وفى العتق وغيره.
2 -
وفيه مشروعية جواز حكاية ما وقع للمرء من الفضل ولو كان فيه مدح ناس وذم ناس إذا تضمن ذلك إزالة توهم النقص عن الحاكي إذا كان بريئًا عند قصد نصح من يبلغه ذلك لئلا يقع فيما وقع فيه من سبق
3 -
إن الاعتناء بالسلامة من وقوع الغير في الإثم أولى من تركه يقع في الإثم وتحصيل الأجر للموقوع فيه.
(1) صحيح مسلم (2770)، وأخرجه البخاري (2661) بنحوه.
(2)
فتح الباري (8/ 482).
4 -
وفيه استعمال التوطئة فيما يحتاج إليه من الكلام.
5 -
جواز ركوب النساء في الهوادج على ظهر البعير ولو كان ذلك مما يشق عليه حيث يكون مطيقًا لذلك.
6 -
وأن الهودج يقوم مقام البيت في حجب المرأة.
7 -
وجواز تستر المرأة بالشيء المنفصل عن البدن.
8 -
وجوب الإقراع بين النساء عند إرادة السفر ببعضهن.
9 -
أنه لا يجب قضاء مدة السفر للنسوة المقيمات. وهذا مجمع عليه إذا كان السفر طويلًا وحكم القصير حكم الطويل على المذهب الصحيح.
10 -
جواز سفر الرجل بزوجته.
11 -
جواز غزوهن.
12 -
جواز خدمة الرجال لهن في تلك الأسفار إذا كان من وراء حجاب.
13 -
أن ارتحال العسكر يتوقف على أمر الأمير.
14 -
جواز خروج المرأة لحاجة الإنسان بغير إذن الزوج وهذه من الأمور المستثناة اعتمادًا على الإذن العام المستند إلى العرف العام.
15 -
جواز لبس النساء القلائد في السفر كالحضر.
16 -
وصيانة المال ولو قل للنهي عن إضاعة المال؛ فإن عقد عائشة لم يكن من ذهب ولا جوهر.
17 -
أن من يُركب المرأة على البعير وغيره لا يكلمها إذا لم يكن محرمًا إلا لحاجة؛ لأنهم حملوا الهودج ولم يكلموا من يظنونها فيه.
18 -
جواز تأخر بعض الجيش ساعة ونحوها لحاجة تعرض له عن الجيش إذا لم يكن ضرورة إلى الاجتماع.
19 -
واستعمال بعض الجيش ساقةً يكون أمينًا ليحمل الضعيف ويحفظ ما يسقط وغير ذلك من الصالح.
20 -
إعانة الملهوف، وعون المنقطع، وإنقاذ الضائع، وإكرام ذوى الأقدار كما فعل صفوان رضي الله عنه في هذا كله.
21 -
حسن الأدب مع الأجنبيات لاسيما في الخلوة بهن عند الضرورة في برية أو غيرها كما
فعل صفوان من إبراكه الجمل من غير كلام ولا سؤال، وأنه ينبغى أن يمشى قدامها لا بجنبها ولا وراءها ليستقر خاطرها وتأمن مما يتوهم من نظره لما عساه ينكشف منها في حركة المشي.
22 -
استحباب الإيثار بالركوب ونحوه كما فعل صفوان.
23 -
استحباب الاسترجاع قول إنا لله وإنا إليه راجعون - عند المصائب سواء كانت في الدين أو الدنيا، وسواء كانت في نفسه أو من يعز عليه.
24 -
تغطية المرأة وجهها عن نظر الأجنبي سواء كان صالحًا أو غيره.
25 -
جواز الحلف من غير استحلاف.
26 -
أنه يستحب أن يستر عن الإنسان ما يقال فيه إذا لم يكن في ذكره فائدة كما كتموا عن عائشة هذا الأمر شهرًا ولم تسمع بعد ذلك إلا بعارض عرض وهو قول أم مسطح: تعس مسطح.
27 -
استحباب ملاطفة الرجل زوجته وحسن المعاشرة.
28 -
أنه إذا عرض عارض بأن سمع عنها شيئًا أو نحو ذلك يقلل من اللطف ونحوه لتفطن هي أن ذلك لعارض فتسأل عن سببه فتزيله أو تعتذر أو تعترف.
29 -
استحباب السؤال عن المريض.
30 -
وفيه إشارة إلى مراتب الهجران بالكلام والملاطفة؛ فإذا كان السبب محققًا فيترك أصلًا، وإن كان مظنونًا فيخفف، وإن كان مشكوكًا فيه أو محتملًا فيحسن التقليل منه لا للعمل بما قيل بل لئلا يظن بصاحبه عدم المبالاة بما قيل في حقه؛ لأن ذلك من خوارم المروءة.
31 -
أنه يستحب للمرأة إذا أرادت الخروج لحاجة أن تكون معها رفيقة تستأنس بها.
32 -
كراهة الإنسان صاحبه وقريبه إذا أذى أهل الفضل أو فعل غير ذلك من القبائح كما فعلت أم مسطح في دعائها عليه.
33 -
أن الزوجة لا تذهب إلى بيت أبويها إلا بإذن زوجها.
34 -
مشروعية التسبيح عند سماع ما يعتقد السامع أنه كذب.
35 -
استحباب مشاورة الرجل بطانته وأهله وأصدقاءه فيما ينوبه من الأمور وتخصيص من جربت صحة رأيه منهم بذلك ولو كان غيره أقرب.
36 -
جواز البحث والسؤال عن الأمور المسموعة عمن له به تعلق. أما غيره فهو منهي عنه وهو تجسس وفضول واستصحاب حال من اتهم بسوء إذا كان قبل ذلك معروفًا بالخير إذا لم يظهر عنه بالبحث ما يخالف ذلك.
37 -
والبحث عن حال من اتهم بشيء وحكاية ذلك للكشف عن أمره ولا يعد ذلك غيبة.
38 -
جواز استعمال (لا نعلم إلا خيرًا) في التزكية، وأن ذلك كاف في حق من سبقت عدالته ممن يطلع على خفي أمره.
39 -
التثبت في الشهادة.
40 -
فطنة الإمام عند الحادث المهم.
41 -
توطئة العذر من يراد إيقاع العقاب به أو العتاب له.
42 -
استشارة الأعلى من هو دونه.
43 -
أن من استفسر عن حال شخص فأراد بيان ما فيه من عيب فليقدم ذكر عذره في ذلك إن كان يعلمه كما قالت بريرة في عائشة حيث عاتبها بالنوم عن العجين فقدمت قبل ذلك أنها جارية حديثه السن.
44 -
فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يحكم لنفسه إلا بعد نزول الوحي لأنه صلى الله عليه وسلم لم يجزم في القصة بشيء قبل نزول الوحي.
45 -
أن الحمية لله ورسوله لا تذم.
46 -
فيه فضائل جمة لعائشة ولأبويها ولصفوان بن المعطل رضي الله عنه بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بما شهد وبفعله الجميل في إركاب عائشة رضي الله عنها وحسن أدبه في جملة. القضية ولعلي بن أبي طالب وأسامة وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير.
47 -
خطبة الإمام الناس عند نزول أمر مهم.
48 -
اشتكاء ولى الأمر إلى المسلمين من تعرض له بأذى في نفسه أو أهله أو غيره واعتذاره فيما يريد أن يؤذيه به.
49 -
المبادرة إلى قطع الفتن والخصومات والمنازعات وتسكين الغضب.
50 -
وإطلاق الكذب على الخطأ.
51 -
والقسم بلفظ العمر الله واحتمال أخف الضررين بزوال أغلظهما وفضل احتمال الأذى.
52 -
وفيه مباعدة من خالف الرسول ولو كان قريبًا حميمًا.
53 -
وفيه أن من آذى النبي صلى الله عليه وسلم بقول أو فعل يقتل؛ لأن سعد بن معاذ أطلق ذلك ولم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم.
54 -
وفيه مساعدة من نزلت فيه بلية بالتوجع والبكاء والحزن.
55 -
وفيه تثبت أبي بكر الصديق في الأمور؛ لأنه لم ينقل عنه في هذه القصة مع تمادي الحال فيها شهرًا كلمة فما فوقها إلا ما ورد عنه في بعض طرق الحديث أنه قال (والله ما قيل لنا هذا في الجاهلية فكيف بعد أن أعزنا الله بالإسلام) وقع ذلك في حديث ابن عمر عند الطبراني (1).
56 -
توقيف من نقل عنه ذنب على ما قيل فيه بعد البحث عنه.
57 -
فيه مشروعية التوبة، وأنها تقبل من المعترف المقلع المخلص، وأن مجرد الاعتراف لا يجزئ فيها، وأن الاعتراف بما لم يقع لا يجوز ولو عرف أنه يصدق في ذلك ولا يؤاخذ على ما يترتب على اعترافه بل، عليه أن يقول الحق أو يسكت.
58 -
أن الصبر يحمد عاقبته ويغبط صاحبه.
59 -
فيه الضحك والفرح والاستبشار عند ذلك.
60 -
ومعذرة من انزعج عند وقوع الشدة لصغر من ونحوه.
61 -
وإدلال المرأة على زوجها وأبويها.
(1) المعجم الكبير للطبراني (23/ 125/ 164) رواه الطبراني وفيه إسماعيل بن يحيى بن عبيد الله التيمي وهو متروك كذاب، وقال ابن عدي: وَعَامَّةُ مَا يَرْوِيهِ مِنَ الحدِيثِ بَوَاطِيلُ عَنِ الثِّقَاتِ وَعَنِ الضُّعَفَاءِ. وعليه فهي زيادة لم تثبت فصح أن أبا بكر لم يتكلم بشيء. انظر: الكامل لابن عدي (1/ 501)، ومجمع الزوائد (9/ 238).
62 -
تفويض الكلام إلى الكبار دون الصغار لأنهم أعرف.
63 -
وفيه أن الشدة إذا اشتدت أعقبها الفرج.
64 -
وفيه فضل من يفوض الأمر لربه، وأن من قوي على ذلك خف عنه الهم والغم.
كما وقع في حالتي عائشة قبل استفسارها عن حالها وبعد جوابها بقولها. والله المستعان.
65 -
ووقوع المغفرة من أحسن إلى من أساء إليه أو صفح عنه.
66 -
براءة عائشة رضي الله عنها من الإفك وهي براءة قطعية بنص القرآن العزيز فلو تشكك فيها إنسان - والعياذ بالله - صار كافرًا مرتدًا بإجماع المسلمين. قال ابن عباس وغيره: لم تزن امرأة نبي من الأنبياء (1) وهذا إكرام من الله تعالى لهم.
67 -
أنه يستحب من حلف على يمين ورأى خيرا منها أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه.
68 -
فضيلة زينب أم المؤمنين رضي الله عنها.
69 -
وتحريم الشك في براءة عائشة.
70 -
إكرام المحبوب بمراعاة أصحابه ومن خدمة أو أطاعة كما فعلت عائشة - رضى الله عنها - بمراعاة حسان وإكرامه إكرامًا للنبي صلى الله عليه وسلم.
71 -
التأسي بما وقع للأكابر من الأنبياء وغيرهم.
72 -
ذم الغيبة وذم سماعها وزجر من يتعاطاها لا سيما إن تضمنت تهمة المؤمن بما لم يقع منه.
73 -
فيه تأخير الحد عمن يخشى من إيقاعه به الفتنة. (2)
74 -
استدل بالحديث أبو علي الكرابيسي - صاحب الشافعي - في كتاب القضاء على منع الحكم حالة الغضب لما بدا من سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وسعد بن عبادة من قول بعضهم لبعض حالة الغضب حتى كادوا يقتتلون. قال: فإن الغضب يخرج الحليم
(1) تفسير عبد الرزاق (2/ 195/ 1233).
(2)
قال الحافظ في الفتح (8/ 481): نبه على ذلك ابن بطال مستندًا إلى أن عبد الله بن أبي كان ممن قذف عائشة، ولم يقع في الحديث أنه ممن حد، وتعقبه عياض بأنه لم يثبت أنه قذف، بل الذي ثبت أنه كان يستخرجه ويستوشيه.
المتقي إلى ما لا يليق به، فقد أخرج الغضب قومًا من خيار هذه الأمة بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مالا يشك أحد من الصحابة أنها منهم زلة إلى آخر كلامه في ذلك.
75 -
ويؤخذ من سياق عائشة رضي الله عنها جميع قصتها المشتملة على براءتها بيان ما أجمل في الكتاب والسنة لسياق أسباب ذلك وتسمية من يعرف من أصحاب القصص لما في ضمن ذلك من الفوائد الأحكامية والآدابية وغير ذلك، وبذلك يعرف قصور من قال براءة عائشة ثابتة بصريح القرآن فأي فائدة لسياق قصتها.
76 -
اتقاء مواطن الشبهات فإن عائشة رضي الله عنها مع أنها أم المؤمنين قيل فيها ذلك فكيف بغيرها؟ وهذا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف بغير زمانه عليه الصلاة والسلام.
77 -
ترتيب المصالح وارتكاب أخف الضررين وتقديم الأولويات، فإن ضياع العقد أهون من التخلف عن الجيش ولأنها رضي الله عنها كانت حديثة السن.
78 -
علاج الأمور في الفتن باللين، والحكمة، والبعد عن الشدة، والأدب في الدفاع عن النفس، واللجوء إلى الله تعالى، واستنفاد الجهد في ذلك. (1)
79 -
التواضع الجم والأدب الوفير: قال ابن كثير رحمه الله: ومن خصائصها: أن الله، سبحانه، برأها مما رماها به أهل الإفك، وأنزل في عذرها، وبراءتها، وحيًا يتلى في محاريب المسلمين، وصلواتهم إلى يوم القيامة، وشهد لها أنها من الطيبات، ووعدها المغفرة والرزق الكريم، وأخبر سبحانه، أن ما قيل فيها من الإفك كان خيرًا لها، ولم يكن بذلك الذي قيل فيها شر لها، ولا عيب لها، ولا خافض من شأنها، بل رفعها الله بذلك، وأعلى قدرها وعظم شأنها، وأصار لها ذكرًا بالطيب والبراءة بين أهل الأرض والسماء، فيا لها من منقبة ما أجلها. وتأمل هذا التشريف والإكرام الناشئ عن فرط تواضعها واستصغارها لنفسها، حيث قالت: ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بوحي يتلى، ولكن كنت أرجو
(1) فتح الباري (8/ 347)، وشرح مسلم للنووي (9/ 113).
أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا يبرئني الله بها، فهذه صديقة الأمة، وأم المؤمنين، وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تعلم أنها بريئة مظلومة، وأن قاذفيها ظالمون مفترون عليها، قد بلغ أذاهم إلى أبويها، وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا كان احتقارها لنفسها وتصغيرها لشأنها، فما ظنك بمن قد صام يومًا أو يومين، أو شهرًا أو شهرين، قد قام ليلة أو ليلتين، فظهر عليه شيء من الأحوال، ولاحظوا أنفسهم بعين استحقاق الكرامات، وأنهم ممن يتبرك بلقائهم، ويُغتنم بصالح دعائهم، وأنهم يجب على الناس احترامهم وتعظيمهم وتعزيرهم وتوقيرهم، فيتمسح بأثوابهم، ويقبل ثرى أعتابهم، وأنهم من الله بالمكانة التي ينتقم لهم لأجلها ممن تنقصهم في الحال، وأن يؤخذ من أساء الأدب عليهم من غير إمهال، وإن إساءة الأدب عليهم ذنب لا يكفره شيء إلا رضاهم.
ولو كان هذا من وراء كفاية لهان، ولكن من وراء تخلف، وهذه الحماقات والرعونات نتاج الجهل الصميم، والعقل غير المستقيم، فإن ذلك إنما يصدر من جاهل معجب بنفسه، غافل عن جرمه وعيوبه وذنوبه، مغتر بإمهال الله له عن أخذه بما هو فيه من الكبر والازدراء على من لعله عند الله خير منه. نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة. وينبغي للعبد أن يستعيذ بالله أن يكون عند نفسه عظيمًا، وهو عند الله حقير. (1)
80 -
وقال القرطبي: قال بعض أهل التحقيق: إن يوسف عليه السلام لما رمى بالفاحشة برأه الله على لسان صبى في المهد، وإن مريم لما رميت بالفاحشة برأها الله على لسان ابنها عيسى - صلوات الله عليه -، وإن عائشة لما رميت بالفاحشة برأها الله تعالى بالقرآن، فما رضى لها ببراءة صبي ولا نبي حتى برأها الله بكلامه من القذف والبهتان. (2)
81 -
وينبغي أن يعلم أن سب عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه يعتبر مروقًا من الدين - حسبما تقرر في القواعد الشرعية - وسابها كافر، وعلى هذا إجماع علماء المسلمين، مستدلين
(1) تفسير ابن كثير (6/ 405).
(2)
تفسير القرطبي (12/ 212). وليس معنى هذا القول بتفضيل عائشة على يوسف ولا الجزم بتفضيلها على مريم؛ وإنما هو تمام الصيانة لعرض نبيه وخليله صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.
بقوله تعالى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، وبغيرها من آيات الكتاب الحكيم. قال القاضي أبو يعلى: من قذف عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه كفر بلا خلاف. (1)
وروى عن محمد بن زيد بن علي بن الحسين أخي الحسن بن زيد أنه لما قدم عليه رجل من العراق فذكر عائشة بسوء، فقام إليه بعمود فضرب به دماغه فقتله، فقيل له: هذا من شيعتنا ومن بني الآباء! فقال: هذا سمى جدي (2) قرنان، ومن سمى جدي قرنان استحق القتل (3).
وروي عن أخيه الحسن بن زيد بن علي بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب: أنه كان بحضرته رجلًا فذكر عائشة بذكر قبيح من الفاحشة، فقال: يا غلام، اضرب عنقه، فقال له العلويون: هذا رجل من شيعتنا، فقال: معاذ الله، هذا رجل طعن على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الله تعالى:{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور: 26]، فإن كانت عائشة خبيثة، فالنبي صلى الله عليه وسلم خبيث! ، فهو كافر فاضربوا عنقه. فاضربوا عنقه، وأنا حاضر - على حد قول الراوي -.
وقال ابن تيمية: ومن رمى عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه فقد مرق من الدين .. (4)
وقال ابن حجر الهيتمي بعد ما ذكر حديث الإفك: علم من حديث الإفك أن من نسب عائشة إلى الزنا كان كافرًا، وقد صرح بذلك أئمتنا وغيرهم لأن في ذلك تكذيب النصوص القرآنية، ومكذبها كافر بإجماع المسلمين، وبه يعلم القطع بكفر كثيرين من غلاة الروافض؛ لأنهم ينسبونها إلى ذلك - قاتلهم الله - أنى يؤفكون. (5)
(1) نقله عنه ابن تيمية في الصارم المسلول (571).
(2)
يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم. والقرنان هو الديوث الذي لا غيرة له قال الليث: القرنان: نعت سوء في الرجل، الذي لا غيرة له، "تهذيب اللغة"(9/ 93)، والعين (5/ 143).
(3)
ذكرها ابن تيمية في الصارم المسلول (566 - 567).
(4)
ذكرها ابن تيمية في الصارم المسلول (566 - 567).
(5)
الصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمي (101).