الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومما يشهد لذلك الترجيح هذه الرواية عن أبي إسحاق، أن زيادا لما قدم الكوفة، قال: قد جئتكم في أمر ما طلبته إلا إليكم، قالوا: ادعنا إلى ما شئت، قال: تلحقون نسبي بمعاوية؟ قالوا: أما بشهادة الزور فلا، فأتى البصرة، فشهد له رجل. (1) اهـ
الوجه الثالث: أن معاوية أقر عليه ابن زياد لأمور مقبولة عنده اجتهادًا منه رضي الله عنه ولقد ساق ابن العربي هذه الشبهة ورد عليه بما حاصله هذا العنوان
.
فقال رحمه الله: فإن قيل أحدث معاوية في الإسلام الحكم بالباطل، والقضاء بما لا يحل من استلحاق زياد قلنا قد بينا في غير موضع أن استلحاق زياد إنما كان لأشياء صحيحة، وعمل مستقيم نبينه بعد ذكر أمثل ما ادعى فيه المدعون من الانحراف عن الاستقامة.
قالوا: كان زياد ينتسب إلى عبيد الثقفي من سمية جارية الحارث بن كلدة، واشترى زياد عبيد أباه بألف درهم فأعتقه قال أبو عثمان النهدي فكنا نغبطه، واستعمله عمر على بعض صدقات البصرة، وقيل بل كتب لأبي موسى فلما لم يقطع الشهادة مع الشهود على المغيرة جلدهم وعزله، وقال له: ما عزلتك لخزية، ولكني كرهت أن أحمل على الناس فضل عقلك، ورووا أن عمروا أرسله إلى اليمن في إصلاح فساد، فرجع وخطب خطبة لم يسمع مثلها فقال عمرو بن العاص: أما والله لو كان هذا الغلام قرشيًا لساق الناس بعصاه، فقال أبو سفيان: والله إني لأعرف الذي وضعه في رحم أمه فقال له علي: ومن؟ قال: أنا. قال: مهلا يا أبا سفيان فقال أبو سفيان في ذلك أبياتا من الشعر، فذلك الذي حمل معاوية واستعمله علي على فارس، وحمى، وجبي، وفتح، وأصلح.
وكاتبه معاوية يروم إفساده فوجه زياد بكتابه إلى علي. فكتب إليه علي: إني وليتك ما وليتك، وأنت أهل لذلك عندي، ولن يدرك ما تريد بما أنت فيه إلا بالصبر واليقين، وإنما كانت من أبي سفيان فلتة زمن عمر لا تستحق بها نسبًا، ولا ميراثًا، فلما قرأ زياد الكتاب
(1) إسناده ضعيف. أخرجه الطبري في التاريخ حوادث سنة (44) فقال حدثني أحمد بن زهير، قال: حدثنا عبد الرحمن بن صالح، -صدوق يتشجع كما في التقريب ت 3898 - قال: حدثنا عمرو بن هاشم- الجنبي لين الحديث التقريب (ت 5126) عن عمر بن بشير الهمداني- ضعيف لسان الميزان ت (820) عن أبي إسحاق به وهذا إسناد ضعيف ويشهد له ظاهر حديث مسلم من أن زيادًا هو الذي دعا نفسه ابن أبي سفيان.
قال: شهد لي أبو حسن ورب الكعبة فذلك الذي جرأ زيادًا، ومعاوية بما صنعا ثم ادعاه معاوية سنة أربع وأربعين، وزَّج معاوية ابنته من ابنه محمد، وبلغ الخبر أبا بكرة أخاه لأمه فآلى يمينا ألا يكلمه أبدا، وقال: هذا زنى بأمه، وانتفى من أبيه، والله ما رأت سمية أبا سفيان قط، وكيف يفعل بأم حبيبة أيراها فيهتك حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن حجبته فضحته فقال زياد: جزى الله أبا بكرة خيرًا؛ فإنه لم يدع النصيحة في حالٍ، وتكلم فيه الشعراء، ورووا عن سعيد بن المسيب أنه قال: أول قضاء كان في الإسلام بالباطل استلحاق زياد.
قال القاضي أبو بكر رضي الله عنه: قد بينا في غير موضع هذا الخبر، وتكلمنا عليه بما يغني عن إعادته ولكن لا بد في هذه الحالة من بيان المقصود منه.
فنقول: كل ما ذكرتم لا ننفيه، ولا نثبته لأنه لا يحتاج إليه، والذي ندريه حقا، ونقطع عليه علما:
1 -
أن زيادًا من الصحابة بالمولد، والرؤية لا بالتفقه والمعرفة.
2 -
وأما أبوه فما علمنا له أبا قبل دعوى معاوية على التحقيق، وإنما هي أقوال غائرة من المؤرخين.
3 -
وأما شراؤه له فمراعاة للحضانة فإنه حضنه عند أمه إذ دخل عليه فيه شبهة بالحضانة إليه إن كان ذلك، وأما قولهم إن أبا عثمان النهدي غبطه بذل فهو بعيد على أبي عثمان فإنه ليس في أن يبتاع أحد حاضنه أو أباه فيعتقه من المزية بحيث يغبطه عليه أبو عثمان وأمثاله، لأن هذه مرتبة يدركها الغني، والفقير، والشريف، والوضيع، ولو بذل من المال ما يعظم قدره فيدري به قدر مروءته في إهانة الكثير العظيم في صلة الولي الحميم وإنما ساقوا هذه الحكاية ليجعلوا له أبًا، ويكون بمنزلة من انتفى من أبيه.
3 -
وأما استعمال عمر له: فصحيح، وناهيك بذلك تزكية، وشرفًا، ودينًا.
4 -
وأما قولهم: إن عمر عزله لأنه لم يشهد بباطل، فباطل بل روى أنه لما شهد أصحابه الثلاثة وعمر يقول للمغيرة ذهب ربعك ذهب نصفك ذهب ثلاثة أرباعك فما جاء زياد قال له: إني أراك صبيح الوجه وإني لأرجو أن لا يفضح الله على يديك رجلًا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
5 -
وأما خطبته التي ذكروا أنه عجب منها عمرو فما كان عنده فضل علم، ولا فصاحة يفوق بها عمرا فمن فوقه أو دونه، وقد ادخل له الشيخ المفتري خطبا ليست في الحد المذكور.
6 -
وأما قولهم إن أبا سفيان اعترف به وقال شعرا فيه فلا يرتاب ذو تحصيل في أن أبا سفيان لو اعترف به في حياة عمر لم يخف شيء لأن الحال لم يكن تخلو من أحد قسمين إما أن يرى عمر إلاطته به كما روى عنه في غيره فيمضي ذلك أو يرد ذلك فلا يلزم أبا سفيان شيء باقتراف ما كان في الجاهلية فذكرهم هذه الحكاية المخترعة الباردة المتهافتة الخارجة عن حد الدين والتحصيل لا معنى لها.
7 -
وأما تولية على له فتزكية.
8 -
وأما بعث معاوية إليه فيكون معه: فصحيح في الجملة، وأما تفصيل ما كتب معاوية أو كتب زياد به إلى علي أو أجاب به عليّ زيادا: فهذا كله مصنوع.
9 -
وأما قول علي إنما كانت من أبي سفيان فلته زمن عمر لا تستحق بها نسبًا فلو صح لكان ذلك شهادة كما روى عن زياد ولم يكن ذلك بمبطل لما فعل معاوية لأنها مسألة اجتهاد بين العلماء فرأى عليّ شيئًا ورأى معاوية، وغيره غيره.
10 -
وأما نكتة الكلام، وهو القول في استلحاق معاوية زيادًا، وأخذ الناس عليه في ذلك: فأي أخذ عليه فيه إن كان سمع ذلك من أبيه؟ وأي عار على أبي سفيان في أن يليط بنفسه ولد زنا كان في الجاهلية، فمعلوم أن سمية لم تكن لأبي سفيان كما لم تكن وليدة زمعة لعتبة، ولكن كان لعتبة منازع تعيَّن القضاء له، ولم يكن لمعاوية منازع في زياد.
اللهم إن ها هنا نكتة اختلف العلماء فيها وهي: أن الأخ إذا استلحق أخا يقول: هو ابن أبي، ولم يكن له منازع بل كان وحده فقال مالك: يرث، ولا يثبت النسب.
وقال الشافعي في آخرين: يثبت النسب ويأخذ المال. هذا إذا كان المقر به غير معروف النسب واحتج الشافعي بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش، وللعاهر الحجر" فقضى بكونه للفراش وبإثبات النسب.
قلنا: ليس كذلك، وذلك أن قوله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بكونه للفراش صحيح.
وأما قوله: بثبوت النسب: فباطل لأن عبدًا ادعى سببين أحدهما: الأخوة، والثاني: ولادة الفراش فلو قال النبي صلى الله عليه وسلم هو أخوك. الولد للفراش لكان إثباتًا للحكم وذكرًا للعلة. بَيْدَ أن النبي صلى الله عليه وسلم عدل عن الأخوة، ولم يتعرض لها وأعرض عن النسب، ولم يصرح به، وإنما هو في الصحيح في لفظ هو أخوك وفي آخر هو لك، معناه: فأنت أعلم به، وقد مهدنا ذلك في مسائل الخلاف.
فالحارث بن كلدة لم يدَّع زيادًا ولا كان إليه منسوبًا، وإنما كان ابن أمته، ولد على فراشه أي في داره فكل من ادعاه فهو له إلا أن يعارضه من هو أولى به منه، فلم يكن على معاوية في ذلك مغمز بل فعل فيه الحق على مذهب مالك.
فإن قيل فلم أنكر عليه الصحابة؟ قلنا: لأنها مسألة اجتهاد فمن رأى أن النسب لا يلحق بالوارث الواحد أنكر ذلك، وعظمه.
فإن قيل: ولم لعنوه وكانوا يحتجون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ملعون من انتسب لغير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه؟ قلنا: إنما لعنه من لعنه لوجهين:
أحدهما: لأنه أثبت نسبه من هذا الطريق، ومن لم ير لعنه لهذا لعنه لغيره، وكان زياد أهلًا أن يلعن عندهم لما أحدث بعد استلحاق معاوية.
فإن قيل: جعل النبي صلى الله عليه وسلم للزنا حرمة، ورتب عليه حكمًا حين قال:(احتجبي منه يا سودة) وهذا يدل على أن الزنا يتعلق به من حرمة الوطء ما يتعلق بالنكاح الصحيح هكذا قال الكوفيون، ومالك في رواية ابن القاسم يساعدهم على المسألة، ولا يساعدهم على دليلها من هذا الوجه، وقد بيناها في كتاب النكاح.
وقال الشافعي: العذر في أمر النبي صلى الله عليه وسلم لسودة بالاحتجاب مع ثبوت نسبه من زمعة وصحة إخوته لها بدعوى عبد أن ذلك تعظيم لحرمة أزواج صلى الله عليه وسلم لأنهن لم يكنَّ كأحد من النساء في شرفهن، وفضلهن.
قلنا: لو كان أخاها بنسب ثابت صحيح كما قلتم ويكون قول النبي صلى الله عليه وسلم الولد للفراش تحقيقًا للنسب لما منع النبي صلى الله عليه وسلم سودة منه كما لم يمنع عائشة من الرجل الذي قالت: هو أخي من الرضاعة وإنما قال: (انظرن من إخوانكن).
وأما ما روى عن سعيد بن المسيب فأخبر عن مذهبه في أن هذا الاستلحاق ليس بصحيح وكذلك رأى غيره من الصحابة، والتابعين، وقد صارت المسألة إلى الخلاف بين الأئمة وفقهاء الأمصار فخرجت من حد الانتقاد إلى حد الاعتقاد، وقد صرح مالك في كتاب الإسلام، وهو: الموطأ بنسبه فقال في دولة بني العباس زياد بن أبي سفيان، ولم يقل كما يقول المخاذل زياد بن أبيه هذا على أنه لا يرى النسب يثبت بقول واحد، ولكن في ذلك فقه بديع لم يتفطن له أحد وهو أنها لما كانت مسألة خلاف ونفذ الحكم فيها بأحد الوجهين لم يكن لها رجوع، فإن حكم القاضي في مسائل الخلاف بأحد القولين يمضيها، ويرفع الخلاف فيها، والله أعلم.
11 -
وأما روايتهم: أن عمر قال: كرهت أن أحمل فضل عقلك على الناس: فهذه زيادة ليس لها أصل من ناقص عقل، وأي عقل كان لزياد يزيد به على الناس في أيام عمر، وغلام كل واحد من الصحابة كان أعقل من زياد، وأعلم منه، ولهذا كل من كمل عقله أكثر من الآخر فهو أولى أن يختلط مع الناس.
12 -
ويقولون إنه كان داهية وهي كلمة واهية. والدهاء هو المعرفة بالمعاني، والاستدلال على العواقب بالمبادئ، وكل احد من الصحابة، والتابعين فوق زياد. . . وخذ من ولاة بني أمية خاصة -أعقل من زياد وأفصح منه فلا تلتفتوا إلى ما روى من الأباطيل.
13 -
وأما كلام أبي بكرة أخيه لأمه فيه فغير ضائر له لأن ذلك رأي أبي بكرة واجتهاد.
14 -
وأما قولهم فيها عن أبي بكرة أنه زنّى أمه فلو كان ذلك صحيحًا لم يضر أمه، ما جرى في الجاهلية في الدين فإن الله عفا عن أمر الجاهلية بالإسلام وأسقط الإثم عنه فلا يذكره إلا جاهل به.
والناس إذا لم يجدوا عيبًا لأحد، وغلبهم الحسد عليه وعداوتهم له أحدثوا له عيوبًا فاقبلوا الوصية ولا تلتفتوا إلا إلى ما صح من الأخبار، واجتنبوا كما ذكرَتْ لكم أهل التواريخ فإنهم ذكروا عن السلف أخبارًا صحيحة يسيرة ليتوسلوا بذلك إلى رواية الأباطيل فيقذفوا في قلوب الناس ما لا يرضاه الله تعالى وليحتقروا السلف، ويهونوا الدين، وهو أعز من ذلك، وهم أكرم منا فرضي الله عن جميعهم، ومن نظر إلى أفعال الصحابة تبين منها بطلان هذه الهتوك التي يختلقها أهل التواريخ فيدسونها في قلوب الضعفاء وهذا زياد لما أحس المنية استخلف سمرة بن جندب من كبار الصحابة فقبل خلافته، وكيف يظن به على منزلته أنه يقبل ولاية ظالم لغير رشده، وهو على ما هو عليه من لصحبة، وذلك من غير إكراه، ولا تقية إن هذا لهو الدليل المبين فمع من تحبون أن تكونوا مع سمرة بن جندب أو مع المسعودي والمبرد والجاحظ، ونظرائهم. (1)
الوجه الرابع: وعلى فرض وقوع ذلك من معاوية وأنه خطأ محض فهو اجتهاد أخطأ فيه معاوية فله أجر على اجتهاده ولا ندعي العصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نسأل الله أن يرضى عنا كما رضي عنهم.
(1) العواصم من القواصم (248 - 256) بحروفه سوى أحرفٍ يسيرةٍ. وانظر: بحث لأبي عبد الله الذهبي بعنوان رد البهتان عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.