الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكره لشبع بطنه فيما روي عنه من روايات هو: بيان تفرغه التام لملازمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحفظه لما سمعه منه، وأنه لم يشغله عن ذلك شاغل، حتى لقمة العيش التي قد تشغل غيره، حيث وجدها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه ما قال ذلك عبثًا أو سذاجة، كما زعم البعض، وإنما أراد به الرد علي من قالوا: إن أبا هريرة قد أكثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ما يفهم من قوله: إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله الموعد، إني كنت امرأ مسكينًا، أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم
…
الحديث.
الوجه الثاني:
لو كان همه إشباع بطنه لكان بإمكانه البحث عنه عند أمير من أمراء اليمن، أو رئيس قبيلة من قبائلها، يعمل عنده بزراعة، أو رعي مواش، أو غير ذلك، ولوفر على نفسه عناء السفر، وترك الأهل والعشيرة والبلد، وبالهجرة من اليمن إلى الحجاز، إلى رجل لم يكن ملكًا، أو ذا سلطان أومال يومها، ولم يكن قد تخلص من أعدائه الثلاثة المتربصين به الدوائر: المشركين في مكة وغيرها، والمنافقين في المدينة وحولها، واليهود المجاورين لها، وكانت احتمالات النصر والهزيمة كلها واردة في المقاييس البشرية والمادية، ولم تغب هذه الاحتمالات عن ذهن أبي هريرة الشاب الفطن واليماني الحكيم، وهو يحث رحاله نحو المدينة، نحو النور الذي شع فيها: ملبيًا دعوة الحق، دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعوة الإيمان بالله الواحد الأحد، وقد شهد بعد وصوله المدينة بيومين أو ثلاثة: غزوة خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وشهد معه المشاهد بعدها، ولازمه حتى وفاته، وحفظ منه لم يحفظه كثيرون سواه، ممن تشرفوا بصحبته صلى الله عليه وسلم، نعم يحث رحاله متوجهًا إلى طيبة وهو ينشد:
يا ليلة من طولها وعنائها
…
على أنها من دارة الكفر نجت (1).
الوجه الثالث:
لو كان همه إشباع بطنه، لترك ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم، وبحث عمن يشبعها له من موسري الصحابة رضي الله عنهم أو غيرهم من أهل المدينة، بعمل أو غيره إذا لم يتيسر
(1) أبو هريرة للضاري (صـ 46).
له إشباعها في أكثر أيام ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم، إذا كان لا يحصل في بعض الأيام على أكثر من تمرة أو تمرتين، أو شربة لبن، أوما قارب ذلك، فعن مجَاهِد أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَقُولُ:، كان يقول: الله الذي لا إله إلا هو، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يومًا على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر، فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي عمر، فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمر فلم يفعل، ثم مر بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، فتبسم حين رآني، وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال:"يا أبا هر" قلت: لبيك يا رسول الله، قال:"الحق" ومضى فتبعته، فدخل، فاستأذن، فأذن لي، فدخل، فوجد لبنا في قدح، فقال:"من أين هذا اللبن؟ "قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال:"أبا هر" قلت: لبيك يا رسول الله، قال:"الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي" قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئًا، وإذا أتته هدية أرسل إليهم، وأصاب منها، وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة، كنت أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاء أمرني، فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بد، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا، فاستأذنوا فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت، قال:"يا أبا هر" قلت: لبيك يا رسول الله، قال:"خذ فأعطهم" قال: فأخذت القدح، فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده، فنظر إلي فتبسم، فقال:"أبا هر" قلت: لبيك يا رسول الله، قال:"بقيت أنا وأنت" قلت: صدقت يا رسول الله، قال:"اقعد فاشرب" فقعدت فشربت، فقال:"اشرب" فشربت، فما زال يقول:"اشرب" حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق، ما أجد له