الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما قوله لعمار: (يا عاضّ إير أبيه)، فقد ذكره البلاذري في نفس الباب ضمن قصة ذكرها من غير إسناد مصدرًا لها.
وقد روي أيضًا أنه لما بلغ عثمان موت أبي ذر بالربذة، قال: فقال عمار بن ياسر: نعم، فرحمه الله من كل أنفسنا، فقال عثمان: يا عاضَّ إير أبيه، أتراني ندمت على تسييره؟ وأمر فدفع في قفاه وقال: الحق بمكانه، فلما تهيأ للخروج جاءت بنو مخزوم إلى عليّ فسألوه أن يكلم عثمان فيه فقال له علي: يا عثمان اتق الله، فإنك سيرت رجلًا صالحًا من المسلمين فهلك في تسييرك، ثم أنت الآن تريد أن تنفي نظيره، وجرى بينهما كلام حتى قال عثمان: أنت أحق بالنفي منه، فقال علي: رُم ذلك إن شئت، واجتمع المهاجرون فقالوا: إن كنت كلما كلمك رجل سيرته ونفيته فإن هذا شيء لا يسوغ، فكف عن عمار. (1)
والجواب عن هذا أنه كلام باطل لا إسناد له.
ومن جهة أخرى لا توجد رواية صحيحة تدل على أن عثمان رضي الله عنه ضرب عمارًا رضي الله عنه، ولا تدل على أن الخوارج سوغوا خروجهم على عثمان بأنه ضرب عمارًا، وإذا ثبت بطلان الضرب، فما بني على باطل فهو باطل.
ثانيا: شبهتهم على النصف الأول من خلافة عثمان رضي الله عنه
-.
قالوا: إن عثمان بدأ خلافته بخطأ عظيم لم تغفره له الجماعة المسلمة؛ وهو تعطيل إقامة الحد على عبيد الله بن عمر الذي قتل الهرمزان، وابنة أبي لؤلؤة، وجفينة، ولقد كثر الصخب جدًّا في الجماعة الإسلامية بسبب هذا الأمر، ولم نعلم لعائشة أي اعتراض ولا دعوة للثورة فكيف يوجه هذا مع ثورتها بعد ذلك؟ ! .
والجوب على ذلك من وجوه: 1 - إن تعطيل إقامة الحد على عبيد الله بن عمر كسبب من أسباب الشغب والخروج على عثمان لا إسناد له، وأقدم مَنْ ذكر ذلك هو المحب الطبري (ت 694 هـ) في الرياض النضرة (3/ 87 و 100) ولم يذكر له إسنادًا، ولم يثبت فيه
(1) أنساب الأشراف (2/ 277)، ولا إسناد له.
أن الخروج كان من أسبابه هذا. وغاية ما أثبتَه أنه أمرٌ قد حدث، ثم تلاه في ذكر ذلك ابن المطهر الحلي (ت 726 هـ). (1)
2 -
إن عبيد الله بن عمر كان متأولًا في ذلك؛ لأن الهرمزان كان متهمًا بالمشاركة في قتل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وكان الذي قتله أبو لؤلؤة الكافر المجوسي مولى المغيرة بن شعبة، وكان بينه وبين الهرمزان مجانسة، وذُكر لعبيد الله بن عمر أنه رؤي عند الهرمزان حين قتل عمر، فكان ممن اتُّهم بالمعاونة على قتل عمر، وقد قال عبد الله بن عباس لما قُتل عمر: وقال له عمر: قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة، فقال: إن شئت أن نقتلهم، فقال: كذبت، أما بعد إذ تكلموا بلسانكم وصلّوا إلى قبلتكم، فهذا ابن عباس -وهو أَفْقَهُ مِنْ عبيد الله بن عمر وأَدْيَنُ وأفضلُ بكثير- يستأذن عمر في قتل علوج الفرس مطلقًا الذين كانوا بالمدينة لما اتهموهم بالفساد اعتقد جواز مثل هذا، فكيف لا يعتقد عبيد الله جواز قتل الهرمزان؟ ! فلما استشار عثمان الناس في قتله فأشار عليه طائفة من الصحابة أن لا يقتله؛ فإن أباه قتل بالأمس ويُقتل هو اليوم فيكون في هذا فساد في الإسلام، وكأنهم وقعت لهم شبهة في عصمة الهرمزان، وهل كان من الصائلين الذين كانوا يستحقون الدفع، أو من المشاركين في قتل عمر الذين يستحقون القتل؟ وقد تنازع الفقهاء في المشتركين في القتل إذا باشر بعضهم دون بعض فقيل لا يجب القود إلا على المباشر خاصة؛ وهو قول أبي حنيفة، وقيل: إذا كان السبب قويًا وجب على المباشر والمتسبب، كالمكرِه والمكرَه؛ وكالشهود بالزنا والقصاص إذا رجعوا وقالوا: تعمدنا، وهذا مذهب الجمهور؛ كمالك، والشافعي، وأحمد، ثم إذا أمسك واحدٌ وقتله الآخرُ فمالك يوجب القود على الممسك والقاتل، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، والرواية الأخرى يقتل القاتل ويحبس الممسك حتى يموت، كما روي عن ابن عباس، وقيل: لا قود إلا على القاتل؛ كقول أبي حنيفة والشافعي.
وقد تنازعوا أيضًا في الآمر الذي لم يكره إذا أمر من يعتقد أن القتل محرم، هل يجب القود على الآمر؟ على قولين، وإذا كان الهرمزان ممن أعان على قتل عمر جاز قتله في أحد القولين
(1) نقلًا عن فتنة مقتل عثمان للغبان (1/ 95).
قصاصًا، وعمر هو القائل في المقتول بصنعاء: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لأقدتهم به. (1)
3 -
ظهر من الكلام السابق أن في قتل ابن عمر وقد قُتل أبوه بالأمس فتنة؛ فكيف تدعوا عائشة رضي الله عنها إلى الفتنة؟
4 -
إن قاتل الأئمة محاربٌ لله ورسوله ساعٍ في الأرض فسادًا، وإذا كان الهرمزان ممن أعان على قتل عمر كان من المفسدين في الأرض المحاربين؛ فيجب قتله لذلك، ولو قدر أن المقتول معصوم الدم يحرم قتله لكن كان القاتل متأولًا يعتقد حِلَّ قتله لشبهة ظاهرة صار ذلك شبهة تدرأ القتل عن القاتل، وإذا كان عبيد الله بن عمر متأولًا يعتقد أن الهرمزان أعان على قتل أبيه، وأنه يجوز له قتله صارت هذه شبهة يجوز أن يجعلها المجتهد مانعة من وجوب القصاص؛ فإن مسائل القصاص فيها مسائل كثيرة اجتهادية.
5 -
وأيضًا فالهرمزان لم يكن له أولياء يطلبون دمه وإنما وليه ولي الأمر، ومثل هذا إذا قتله قاتل كان للإمام قتل قاتله لأنه وليه، وكان له العفو عنه إلى الدية لئلا تضيع حقوق المسلمين، فإذا قدر أن عثمان رضي الله عنه عفا عنه ورأى قدر الدية أن يعطيها لآل عمر لما كان على عمر رضي الله عنه من الدين؛ فإنه كان عليه ثمانون ألفًا وأمر أهله أن يقضوا دينه من أموال عصبته عاقلته بني عدي وقريش؛ فإن عاقلة الرجل هم الذين يحملون كلَّ الدية لو طالب بها عبيد الله أو عصبة عبيد الله إذا كان قتله خطأ أو عفا عنه إلى الدية فهم الذين يؤدون دين عمر فإذا أعان بها في دين عمر كان هذا من محاسن عثمان التي يمدح بها لا يذم، وقد كانت أموال بيت المال في زمن عثمان كثيرة وكان يعطى الناس عطاءً كثيرًا أضعاف هذا، فكيف لا يعطى هذا لآل عمر؟ !
وبكل حال كانت مسألة اجتهادية، وإذا كانت مسألة اجتهادية وقد رأى طائفة كثيرة من الصحابة أن لا يقتل، ورأى آخرون أن يقتل لم ينكر على عثمان ما فعله باجتهاده ولا على عليّ ما قاله باجتهاده. (2)
(1) منهاج السنة لابن تيمية (6/ 276 - 280).
(2)
منهاج السنة (6/ 280، 281).