الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال ابن كثير: هذا الحديث مما قد توهم به بعض الأغبياء من أهل البدع وغيرهم، كلٌ مدعٍ أنه كان يريد أن يكتب في ذلك الكتاب ما يرمون إليه من مقالاتهم، وهذا هو التمسك بالمتشابه، وترك المحكم. وأهل السنة يأخذون بالمحكم، ويردون ما تشابه إليه، وهذه طريقة الراسخين في العلم كما وصفهم الله عز وجل في كتابه. وهذا الموضع مما زلَّ فيه أقدام كثيرٍ من أهل الضلالات، وأما أهل السنة فليس لهم مذهبٌ إلا اتباع الحق يدورون معه كيفما دار. وهذا الذي كان يريد رضي الله عنه أن يكتبه قد جاء في الأحاديث الصحيحة التصريح بكشف المراد منه (1).
الوجه الثاني: اعتقاد الصحابة ومن تبعهم عصمةَ النبي صلى الله عليه وسلم
-
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67] واعلم أن الأمة مجمعةٌ على
(1) السيرة النبوية لابن كثير (4/ 451). وهو ما في الصحيحين عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: "ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكرٍ كتابًا، فإني أخاف أن يتمنى متمنٍ، ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر"- البخاري (7217، 5666)، ومسلم (2387)، أحمد (6/ 144، 106، 47)، فهذا يُثبِت أنه قَصْدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك الكتاب هو هذا بعينه، وأنه كان قد عزم على أن يكتب الكتاب الذي ذكره لعائشة، فلما رأى أن الشك قد وقع علم أن الكتاب لا يرفع الشك فلم يبق فيه فائدة، هذا أولًا.
وثانيًا: علم أن الله يجمعهم على ما أراد كما قال: "يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر"، وهذا الذي عنيناه بالبديل عن الكتاب الذي فيه العصمة من الاختلاف، فالعصمة من الاختلاف قد تحققت لا بذلك الكتاب، بل ببديله الذي هو الإجماع التام المتحقق على خلافة الصديق رضي الله عنه وقد صرح بذلك سفيان بن عيينة بأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب الاستخلاف لأبي بكر، وذلك فيما رواه عنه البيهقي في (الدلائل)(7/ 184)، وقال البيهقي أيضًا (7/ 184):(وإنما أراد ما حكا سفيان بن عيينة عن أهل العلم قبله أن يكتب استخلاف أبي بكر ثم ترك كتبه اعتمادًا على ما علم من تقدير الله تعالى ذلك كما هم به في ابتداء مرضه حين قال: وارأساه، ثم بدا له أن لا يكتب، وقال: "يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر"، ثم نبه أمته على خلافته باستخلافه إياه في الصلاة حين عجز عن حضورها) اهـ.
قال ابن كثيرٍ في السيرة النبوية (4/ 453): وقد خطب صلى الله عليه وسلم في يوم الخميس قبل أن يُقْبَضَ صلى الله عليه وسلم بخمسة أيامٍ خطبةً عظيمةً بَيَّنَ فيها فضل الصديق من بين سائر الأصحاب رضي الله عنه ولعل خطبته هذه كانت عوضًا عما أراد أن يكتبه في الكتاب؛ ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ومن تَوَهَّمَ أن هذا الكتاب كان بخلافة عليٍّ رضي الله عنه فهو ضالٌّ باتفاق عامة الناس، من علماء السنة والشيعة، أما أهل السنة فمتفقون على تفضيل أبي بكرٍ وتقديمه، وأما الشيعة القائلون بأن عليًّا كان هو المستحق للإمامة فيقولون: إنه قد نص على إمامته قبل ذلك نصًّا جليًّا ظاهرًا معروفًا، وحينئذٍ فلم يكن يحتاج إلى كتاب. منهاج السنة (6/ 25).
عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الشيطان وكفايته منه لا في جسمه بأنواع الأذى، ولا على خاطره بالوساوس، فعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحدٍ إلا وُكِّلَ به قرينُه من الجن، وقرينه من الملائكة. قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: "وإياي، ولكن الله تعالى أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخيرٍ.، ورُوِيَ (فأَسْلَمُ) بضم الميم أي: فأَسْلَمُ أنا منه، وصحح بعضهم هذه الرواية ورَجَّحَها، ورُوِيَ (فأَسْلَمَ) يعني القرين أنه انتقل عن حال كفره إلى الإسلام فصار لا يأمر إلا بخيرٍ كالمَلَكِ، وهو ظاهر الحديث، ورواه بعضهم فاستسلم. قال القاضي أبو الفضل -وفقه الله-: فإذا كان هذا حكمَ شيطانه وقرينه المُسلَّط علي بني آدمَ فكيف بمن بَعُدَ منه وَلَمْ يَلْزَمْ صُحْبَتَهُ وَلَا أُقْدِرَ عَلَى الدُّنُوِّ مِنْهُ! (1) ثم اعلم أنه قد تقررت عصمته صلى الله عليه وسلم في أقواله في جميع أحواله وأنه لا يصح منه فيها خُلْفٌ، ولا اضطرابٌ في عمدٍ، ولا سهوٍ، ولا صحةٍ، ولا مرضٍ، ولا جِدٍ، ولا مزحٍ، ولا رضىً ولا غضبٍ. (2) قال أئمتنا في هذا الحديث: إن النبي صلى الله عليه وسلم غير معصومٍ من الأمراض، وما يكون من عوارضها؛ من شدة وجع غشيٍ ونحوه مما يطرأ على جسمه، معصومٌ أن يكون منه من القول أثناء ذلك ما يطعن في معجزته، ويؤدي إلى فسادٍ في شريعته، من هذيانٍ أو اختلالٍ في الكلام. (3)
قال النووي: اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم معصومٌ من الكذب، ومن تغيير شيءٍ من الأحكام الشرعية في حال صحته، وحال مرضه، ومعصومٌ من ترك بيان ما أُمِرَ ببيانه، وتبليغ ما أوجب الله عليه تبليغه، وليس معصومًا من الأمراض، والأسقام العارضة للأجسام ونحوها مما لا نقص فيه لمنزلته، ولا فساد لما تمهد من شريعته وقد سُحِرَ صلى الله عليه وسلم حتى صار يُخَيَّل إليه أنه فعل الشيء ولم يكن فعله ولم يصدر منه صلى الله عليه وسلم. (4) فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم معصومٌ في كل حالةٍ في صحته، ومر عنه لقوله تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3]، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "إني
(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/ 117).
(2)
الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/ 191).
(3)
المصدر السابق.
(4)
شرح النووي على مسلم (11/ 90).