الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السؤال يكمن في معرفة أهم حدث وقع في سنة 55 هـ حيث توفي في هذه السنة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، آخر الستة الذين رضيهم، ورشحهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه للخلافة من بعده. (1)
الوجه الرابع: أنه فعل ذلك بعدما ظهرت كفاءة يزيد في غزو القسطنينية
.
عن أم حرام: أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا. قالت أم حرام قلت: يا رسول الله أنا فيهم؟ قال: أنت فيهم. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم، فقلت: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: لا. (2)
قال ابن حجر: قال المهلب: في هذا الحديث منقبة لمعاوية لأنه أول من غزا البحر، ومنقبة لولده يزيد لأنه أول من غزا مدينة قيصر. وتعقبه ابن التين، وابن المنير بما حاصله: أنه لا يلزم من دخوله في ذلك العموم أن لا يخرج بدليل خاص إذ لا يختلف أهل العلم أن قوله صلى الله عليه وسلم مغفور لهم مشروط بأن يكونوا من أهل المغفرة حتى لو ارتد واحد ممن غزاها بعد ذلك لم يدخل في ذلك العموم اتفاقًا، فدل على أن المراد مغفور لمن وجد شرط المغفرة فيه منهم، وأما قول ابن التين يحتمل أن يكون لم يحضر مع الجيش فمردود إلا أن يريد لم يباشر القتال فيمكن، فإنه كان أمير ذلك الجيش بالاتفاق، وجوز بعضهم أن المراد بمدينة قيصر المدينة التي كان بها يوم قال النبي صلى الله عليه وسلم تلك المقالة، وهي حمص، وكانت دار مملكته إذ ذاك، وهذا يندفع بأن في الحديث أن الذين يغزون البحر قبل ذلك، وأن أم حرام فيهم، وحمص كانت قد فتحت قبل الغزوة التي كانت فيها أم حرام، والله أعلم، وكانت غزوة يزيد المذكورة في سنة اثنتين وخمسين من الهجرة وفي تلك الغزاة مات أبو أيوب الأنصاري فأوصى أن يدفن عند باب القسطنطينية وأن يعفى قبره ففعل به ذلك وقوله قد أوجبوا أي
(1) انظر: الدولة الأموية للصلابي (1/ 443).
(2)
أخرجه البخاري (2766).
فعلوا فعلًا وجبت لهم به الجنة (1) وقال البدر العيني: والأصح أن يزيد بن معاوية غزا القسنطينية في سنة اثنتين وخمسين (2).
(1) فتح الباري 6/ 103.
(2)
عمدة القاري 14/ 198، وانظر: فيض القدير (3/ 84)، وقال عندها: قوله: (وأول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر) ملك الروم يعني: القسطنطينية أو المراد مدينته التي كان بها يوم قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وهي حمص، وكانت دار مملكته إذ ذاك (مغفور لهم) لا يلزم منه كون يزيد بن معاوية مغفورًا له لكونه منهم إذ الغفران مشروط بكون الإنسان من أهل المغفرة ويزيد ليس كذلك لخروجه بدليل خاص، ويلزم من الجمود على العموم أن من ارتد ممن غزاها مغفور له، وقد أطلق جمع محققون حِلّ لعن يزيد به حتى قال التفتازاني: الحق أن رضى يزيد بقتل الحسين وإهانته أهل البيت مما تواتر معناه، وإن كان تفاصيله آحادًا فنحن لا نتوقف في شأنه بل في إيمانه لعنة الله عليه، وعلى أنصاره، وأعوانه. قال الزين العراقي: وقوله بل في إيمانه أي: بل لا يتوقف في عدم إيمانه بقرينة ما قبله وما بعده. اهـ
قال الباحث: وقولهم الغفران مشروط بكون الإنسان من أهل المغفرة ويزيد ليس كذلك لخروجه بدليل خاص. مبني على اعتقادهم كفر يزيد وهذا باطل ولو صح أنه رضي بقتل الحسين فهل صح أنه لم يتب، ولم يندم على ذلك؟ وقد كان وحشي قاتل حمزة وهند بقرت بطنه وأبو سفيان قائد المشركين يومئذ وخالد الحربة في هزيمة المسلمين حتى كاد يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم علمنا بعد ذلك توبتهم، ولم يقل أحد بأن توبتهم لم تقبل لأنهم فعلو ذلك. ويزيد لم يثبت كفره ولا زندقته بل لم يصح أنه رضي بقتل الحسين، فأين التواتر على أنه قد صح عنه الرضا؟ ! وغاية ما في الأمر أنه لم ينتصر للحسين، ولم يقتل قاتله، ولم يعزله وهذا خطأ كبير، ولكن لا يصل إلى الكفر والزندقة وحل لعنه، وهذا بحث مختصر في هذه المسألة؛ قال ابن تيمية رحمه الله: الذي يُجَوِّز لعن يزيد، لابد له من إثبات أمرين:
الأول: أنه كان من الفاسقين الظالمين الذين تباح لعنتهم، وأنه مات مصرًّا على ذلك.
والثاني: أن لعنة المعيّن من هؤلاء جائزة. وقد استدل القوم على جواز لعنه بأمور،
الأول منها: أنهم استدلوا على جواز لعنه بأنه ظالم، فيدخل في قوله تعالى {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} والجواب: أن هذه آية عامة كآيات الوعيد، بمنزلة قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} وهذا يقتضي أن هذا الذنب سبب للعن، والعذاب، لكن قد يرتفع موجبه لمعارض راجح، إما توبة، وإما حسنات ماحية، وإما مصائب مكفّرة، وإما شفاعة شفيع مطاع، ومنها رحمة أرحم الراحمين.
فمن أين يعلم أن يزيدًا لم يتب من هذا، ولم يستغفر الله منه؟ أو لم تكن له حسنات ماحية للسيئات؟ أو لم يبتلى بمصائب، وبلاء من الدنيا تكفر عنه؟ وأن الله لا يغفر له ذلك مع قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ، وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عمر- رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ، مَغْفُورٌ لهُمْ"، وأول جيش غزاها كان أميرهم يزيد، والجيش عدد معين لا مطلق، وشمول المغفرة لآحاد هذا الجيش أقوى من شمول اللعنة لكل واحد واحد من الظالمين فإن هذا أخص، والجيش معينون.
ويقال إن يزيدًا إنما غزا القسطنطينية لأجل هذا الحديث، ونحن نعلم أن أكثر المسلمين لا بد لهم من ظلم فإن فتح هذا الباب ساغ أن يلعن أكثر موتى المسلمين والله تعالى أمر بالصلاة على موتى المسلمين لم يأمر بلعنتهم والآية لا تدل على لعن المعين ولو كان كل ذنب لعن فاعله يلعن المعين الذي فعله لَلُعِنَ جمهور الناس، وهذا بمنزلة الوعيد المطلق لا يستلزم ثبوته في حق المعين إلا إذا وجدت شروطه، وانتفت موانعه، وكذلك من ظلم قرابة له لا سيما وبينه، وبينه عدة آباء أيلعنه بعينه ثم إذا لعن هؤلاء لعن كل من شمله ألفاظه، وحينئذ فيلعن جمهور المسلمين اهـ من منهاج السنة (4/ 571 - 574).
ومنها: استدلوا على لعنه بأنه كان سببًا في قتل الحسين رضي الله عنه.
الرد على هذه الشبهة: الصواب أنه لم يكن ليزيد بن معاوية يد في قتل الحسين رضي الله عنه ابتدًاء، وهذا ليس دفاعًا عن شخص يزيد لكنه قول الحقيقة، فقد أرسل يزيد عبيد الله بن زياد ليمنع وصول الحسين إلى الكوفة، ولم يأمر بقتله، بل الحسين نَفْسُه كان حسن الظن بيزيد حتى قال دعوني أذهب إلى يزيد فأضع يدي في يده.
قال ابن الصلاح رحمه الله: لم يصح عندنا أنه أمر بقتله رضي الله عنه، والمحفوظ أن الآمر بقتاله المفضي- إلى قتله كرمه الله إنما هو عبيد الله بن زياد والي العراق إذ ذاك.، والناس في يزيد ثلاث فرق:
فرقة تحبه وتتولاه، وفرقة أخرى تسبه، وتلعنه.، وفرقة متوسطة في ذلك لا تتولاه، ولا تلعنه، وهذه الفرقة هي المصيبة ومذهبها اللائق بمن يعرف سير الماضين، ويعلم قواعد الشريعة الطاهرة جعلنا الله من خيار أهلها آمين. اهـ من فتاوى ابن الصلاح ج: 1 صـ (216 - 218).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن يزيدًا لم يأمر بقتل الحسين باتفاق أهل النقل، ولكن كتب إلى ابن زياد أن يمنعه عن ولاية العراق، والحسين رضي الله عنه كان يظن أن أهل العراق ينصرونه، ويفون له بما كتبوا إليه فأرسل إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل فلما قتلوا مسلمًا وغدروا به وبايعوا ابن زياد أراد الرجوع فأدركته السرية الظالمة فطلب أن يذهب إلى يزيد أو يذهب إلى الثغر، أو يرجع إلى بلده فلم يمكنوه من شىء من ذلك حتى يستأسر لهم فامتنع فقاتلوه حتى قتل شهيدًا مظلومًا رضي الله عنه ولما بلغ ذلك يزيد أظهر التوجع على ذلك، وظهر البكاء في داره، ولم يسب له حريمًا أصلًا بل أكرم أهل بيته وأجازهم حتى ردهم إلى بلدهم.
ولو قدر أن يزيدًا قتل الحسين لم يكن ذنب ابنه ذنبًا له فإن الله تعالى يقول {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164)، وقد اتفق الناس على أن معاوية رضي الله عنه وصَّى يزيدًا برعاية حق الحسين، وتعظيم قدره وإذا قيل إن معاوية رضي الله عنه استخلف يزيد، وبسبب ولايته فعلى هذا.
قيل: استخلافه إن كان جائزًا لم يضره ما فعل. وإن لم يكن جائزا فذاك ذنب مستقل، ولو لم يقتل الحسين، وهو مع ذلك كان من أحرص الناس على إكرام الحسين رضي الله عنه وصيانة حرمته فضلًا عن دمه فمع هذا القصد، والاجتهاد لا يضاف إليه فعل أهل الفساد" ا. هـ. من منهاج السنة (4/ 472) =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وقال أيضًا: والذي نقله غير واحد أن يزيدًا لم يأمر بقتل الحسين، ولا كان له غرض في ذلك بل كان يختار أن يكرمه، ويعظمه كما أمره بذلك معاوية صلى الله عليه وسلم، ولكن كان يختار أن يمتنع من الولاية والخروج عليه فلما قدم الحسين، وعلم أن أهل العراق يخذلونه، ويسلمونه طلب أن يرجع إلى يزيد، أو يرجع إلى وطنه أو يذهب إلى الثغر فمنعوه من ذلك حتى يستأسر فقاتلوه حتى قتل مظلوما شهيد رضي الله عنه، وأن خبر قتله لما بلغ يزيد، وأهله ساءهم ذلك، وبكوا على قتله، وقال يزيد: لعن الله ابن مرجانة. يعني: عبيد الله بن زياد أما والله لو كان بينه، وبين الحسين رحم لما قتله، وقال: قد كنت أرضى من طاعة أهل العراق بدون قتل الحسين، وأنه جهز أهله بأحسن الجهاز، وأرسلهم إلى المدينة لكنه مع ذلك ما انتصر للحسين، ولا أمر بقتل قاتله، ولا أخذ بثأره.
وأما ما ذكر من سبي نسائه، والذراري، والدوران بهم في البلاد، وحملهم على الجمال بغير أقتاب فهذا كذب، وباطل ما سبى المسلمون، ولله الحمد هاشمية قط ولا استحلت أمة محمد صلى الله عليه وسلم سبى بني هاشم قط، ولكن أهل الهوى والجهل يكذبون كثيرًا، والحجَّاج كان قد تزوج ببنت عبد الله بن جعفر فلم يرض بذلك بنوامية حتى نزعوها منه لأنهم معظمون لبني هاشم وقالوا: ليس الحجاج كفوا لشريفة هاشمية.
وفي الجملة فما يعرف في الإسلام أن المسلمين سبوا امرأة يعرفون أنها هاشمية، ولا سبى عيال الحسين بل لما دخلوا إلى بيت يزيد قامت النياحة في بيته، وأكرمهم، وخيَّرهم بين المقام عنده، والذهاب إلى المدينة، فاختاروا الرجوع إلى المدينة، ولا طيف برأس الحسين، وهذه الحوادث فيها من الأكاذيب ما ليس هذه موضع بسطه. اهـ من منهاج السنة (4/ 557)، (5/ 156).
قال ابن كثير رحمه الله: وليس كل ذلك الجيش كان راضيًا بما وقع من قتله -أي قتل الحسين- بل ولا يزيد بن معاوية رضي بذلك والله أعلم ولا كرهه، والذي يكاد يغلب على الظن أن يزيد لو قدر عليه قبل أن يقتل لعفى عنه، كما أوصاه أبوه، وكما صرح هو به مخبرًا عن نفسه بذلك، وقد لعن ابن زياد على فعله ذلك وشتمه فيما يظهر ويبدو، ولكن لم يعزله على ذلك ولا عاقبه ولا أرسل يعيب عليه ذلك والله أعلم. اهـ من البداية والنهاية (8/ 202)
وقال الغزالي رحمه الله: "فإن قيل هل يجوز لعن يزيد لأنه قاتل الحسين أو أمر به؟ قلنا: هذا لم يثبت أصلًا فلا يجوز أن يقال: إنه قتله أو أمر به ما لم يثبت، فضلًا عن اللعنة، لأنه لا تجوز نسبة مسلم إلى كبيرة من غير تحقيق "اهـ من إحياء علوم الدين (3/ 125).
ولو سلّمنا أنه قتل الحسين، أو أمر بقتله وأنه سُرَّ بقتله، فإن هذا الفعل لم يكن باستحلال منه، لكن بتأويل باطل، وذلك فسق لا محالة، وليس كفرًا، فكيف إذا لم يثبت أنه قتل الحسين، ولم يثبت سروره بقتله من وجه صحيح، بل حُكِي عنه خلاف ذلك. ولقد فصل ابن خلدون في الاعتذار عن الصحابة، وعن الحسين وفي بيان موقف يزيد حسبما ثبت عنده في شأنه فقال: وأما الحسين، فإنه لما ظهر فسق يزيد عند الكافة من أهل عصره- وذلك حسبما نقل عنه على ألسنة الناس، ووصل إلى الحسين رضي الله عنه بعثت شيعة أهل البيت بالكوفة للحسين أن يأتيهم فيقوموا بأمره. فرأى الحسين أن الخروج على يزيد متعين من أجل فسقه لا سيما من له القدرة على ذلك، وظنها من نفسه بأهليته، وشوكته. فأما الأهلية فكانت كما ظن وزيادة. وأما الشوكة فغلط =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= رضي الله عنه فيها إلا أنه في أمر دنيوي لا يضره الغلط فيه. وأما الحكم الشرعي فلم يغلط فيه لأنه منوط بظنه، وكان ظنه القدرة على ذلك. ولقد عزله ابن العباس، وابن الزبير، وابن عمر، وابن الحنفية -أخوه- وغيرهم في مسيره إلى الكوفة، وعلموا غلطه في ذلك، ولم يرجع عما هو بسبيله لما أراده الله.
وأما غير الحسين من الصحابة الذين كانوا بالحجاز، ومع يزيد بالشام، والعراق، ومن التابعين لهم، فرأوا أن الخروج على يزيد، وإن كان فاسقًا لا يجوز لما ينشأ عنه من الهرج، والدماء فأقصروا عن ذلك، ولم يتابعوا الحسين، ولا أنكروا عليه، ولا أثموه، لأنه مجتهد، وهو أسوة المجتهدين. ولا يذهب بك الغلط أن تقول بتأثيم هؤلاء بمخالفة الحسين، وقعودهم عن نصره، فإنهم أكثر الصحابة، وكانوا مع يزيد ولم يروا الخروج عليه، وكان الحسين يستشهد بهم، وهو يقاتل بكربلاء على فضله وحقه، ويقول: سلوا جابر بن عبد الله، وأبا سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وسهل بن سعيد، وزيد بن أرقم، وأمثالهم. ولم ينكر عليهم قعودهم عن نصره ولا تعرض لذلك، لعلمه أنه عن اجتهاد منهم كما كان فعله عن اجتهاد منه. وكذلك لا يذهب بك الغلط أن تقول بتصويب قتله لا كان عن اجتهاد، وإن كان هو على اجتهاد، ويكون ذلك كما يحد الشافعي والمالكي الحنفي على شرب النبيذ. وأعلم أن الأمر ليس كذلك وقتاله لم يكن عن اجتهاد هؤلاء وإن كان خلافه عن اجتهادهم، وإنما انفرد بقتاله يزيدًا وأصحابه. ولا تقولن إن يزيد وإن كان فاسقًا ولم يجز هؤلاء الخروج عليه فأفعاله عندهم صحيحة. واعلم أنه إنما ينفذ من أعمال الفاسق ما كان مشروعًا. وقتال البغاة عندهم من شرطه أن يكون مع الإمام العادل، وهو مفقود في مسألتنا، فلا يجوز قتال الحسين مع يزيد ولا ليزيد، بل هي من فعلاته الؤكدة لفسقه، والحسين فيها شهيد مثاب، وهو على حق واجتهاد، والصحابة الذين كانوا مع يزيد على حق أيضًا واجتهاد. (من المقدمة في التاريخ فصل ولاية العهد).
قال الغزالي: "فإن قيل: فهل يجوز أن يقال: قاتل الحسين لعنه الله؟ أو الآمر بقتله لعنه الله؟ قلنا: الصواب أن يقال: قاتل الحسين إن مات قبل التوبة لعنه الله، لأنه يحتمل أن يموت بعد التوبة، لأن وحشيًا قتل حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله وهو كافر، ثم تاب عن الكفر، والقتل جميعًا، ولا يجوز أن يلعن، والقتل كبيرة ولا تنتهي به إلى رتبة الكفر، فإذا لم يقيد بالتوبة، وأطلق كان فيه خطر، وليس في السكوت خطر، فهو أولى" اهـ من إحياء علوم الدين (3/ 125).
ثالثا: استدلوا بلعنه بما صنعه جيش يزيد بأهل المدينة، وأنه أباح المدينة ثلاثًا حيث استدلوا بحديث "من أخاف أهل المدينة ظلمًا أخافه الله، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله من صرفًا ولا عدلًا" والجواب: إن الذين خرجوا على يزيد بن معاوية من أهل المدينة كانوا قد بايعوه بالخلافة، وقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من أن يبايع الرجل الرجل ثم يخالف إليه ويقاتله، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "ومن بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع، فإن جاء أحد ينازعه فاضربوا رقبة الآخر"، وإن الخروج على الإمام لا يأتي بخير، فقد جاءت الأحاديث الصحيحة التي تحذّر من الإقدام على مثل هذه الأمور، لذلك قال الفضيل بن عياض رحمه الله:"لو أنّ لي دعوة مستجابة ما جعلتها إلا في إمام، فصلاح الإمام صلاح البلاد والعباد"، وهذا الذي استقرت عليه عقيدة أهل السنة والجماعة، ومعركة الحرة تعتبر فتنة عظيمة، والفتنة يكون فيها من الشبهات ما يلبس الحق =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= بالباطل، حتى لا يتميز لكثير من الناس، ويكون فيها من الأهواء والشهوات ما يمنع قصد الحق وإرادته، ويكون فيها ظهور قوة الشر ما يضعف القدرة على الخير، فالفتنة كما قال شيخ الإسلام:"إنما يعرف ما فيها من الشر إذا أدبرت فأما إذا أقبلت فإنها تُزين، ويُظن أن فيها خيرًا". وسبب خروج أهل المدينة على يزيد ما يلي:
1 -
غلبة الظن بأن بالخروج تحصل المصلحة المطلوبة، وترجع الشورى إلى حياة المسلمين، ويتولى المسلمين أفضلهم.
2 -
عدم علم البعض منهم بالنصوص النبوية الخاصة بالنهي عن الخروج على الأئمة.
قال القاضي عياض بالنسبة لمسألة الخروج: على أن الخلاف وهو جواز الخروج أو عدمه كان أولًا، ثم حصل الإجماع على منع الخروج عليهم والله أعلم، ومن المعلوم أن أهل الحرّة متأولون، والمتأول المخطئ مغفور له بالكتاب، والسنة، لأنهم لا يريدون إلا الخير لأمتهم، فقد قال العلماء: إنه لم تكن خارجة خير من أصحاب الجماجم والحرّة، وأهل الحرة ليسوا أفضل من علي وعائشة وطلحة والزبير، وغيرهم، ومع هذا لم يحمدوا ما فعلوه من القتال، وهم أعظم قدرًا عند الله، وأحسن نية من غيرهم. فخروج أهل الحرة كان بتأويل، ويزيد إنما يقاتلهم لأنه يرى أنه الإمام، وأن من أراد أن يفرق جمع المسلمين فواجب مقاتلته وقتله، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح. وكان علي رضي الله عنه يقول: لو أن رجلًا ممّن بايع أبا بكر خلعه لقاتلناه، ولو أن رجلًا ممّن بايع عمر خلعه لقاتلناه أما إباحة المدينة ثلاثًا لجند يزيد يعبثون بها يقتلون الرجال، ويسبون الذرية وينتهكون الأعراض، فهذه كلها أكاذيب وروايات لا تصح، فلا يوجد في كتب السنة أو في تلك الكتب التي أُلِّفت في الفتن خاصّة، كالفتن لنعيم بن حمّاد أو الفتن لأبي عمرو الداني أي إشارة لوقوع شيء من انتهاك الأعراض، وكذلك لا يوجد في أهم المصدرين التاريخيين المهمين عن تلك الفترة (الطبري، والبلاذري) أي إشارة لوقوع شيء من ذلك، وحتى تاريخ خليفة على دقته واختصاره لم يذكر شيئًا بهذا الصدد، وكذلك إن أهم كتاب للطبقات وهو طبقات ابن سعد لم يشر إلى شيء من ذلك في طبقاته.
نعم قد ثبت أن يزيدًا قاتل أهل المدينة، فقد سأل مهنّا بن يحيى الشامي الإمام أحمد عن يزيد فقال: هو فعل بالمدينة ما فعل قلت: وما فعل؟ قال: قتل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل. قلت: وما فعل؟ قال: نهبها. وإسنادها صحيح، أما القول بأنه استباحها فإنه يحتاج إلى إثبات، وإلا فالأمر مجرد دعوى، لذلك ذهب بعض الباحثين المعاصرين إلى إنكار ذلك، من أمثال الدكتور نبيه عاقل، والدكتور العرينان، والدكتور العقيلي. قال الدكتور حمد العرينان بشأن إيراد الطبري لهذه الرواية في تاريخه "ذكر أسماء الرواة متخليًا عن مسئولية ما رواه، محملًا إيانا مسئولية إصدار الحكم، يقول الطبري في مقدمة تاريخه: "فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجهًا من الصحة ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت من قبلنا وإنما أُتي من بعض ناقليه إلينا "ا. هـ. ولا يصح في إباحة المدينة شيء، وسوف نورد فيما يلي هذه الروايات التي حصرها الدكتور عبد العزيز نور -جزاه الله خيرًا- في كتابه المفيد "أثر التشيع على الروايات التاريخية في القرن الأول الهجري- والتي نقلها من كتب التاريخ المعتمدة التي عنيت بهذه الوقعة: نقل ابن سعد خبر الحرة عن الواقدي. ونقل البلاذري عن هشام الكلبي عن أبي مخنف نصًا واحدًا، وعن الواقدي ثلاثة نصوص. ونقل الطبري عن هشام الكلبي أربعة عشر- مرة، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وهشام الكلبي الشيعي ينقل أحيانًا من مصدر شيعي آخر وهو أبو مخنف حيث نقل عنه في خمسة مواضع. ونقل الطبري عن أبي مخنف مباشرة مرة واحدة. وعن الواقدي مرتين. واعتمد أبو العرب على الواقدي فقط، فقد نقل عنه أربعًا وعشرين مرة. ونقل الذهبي نصين عن الواقدي. وذكرها البيهقي من طريق عبد الله بن جعفر عن يعقوب بن سفيان الفسوي. وأول من أشار إلى انتهاك الأعراض هو المدائني التوفى سنة 225 هـ ويعتبر ابن الجوزي أول من أورد هذا الخبر في تاريخه.
وممّا سبق بيانه يتضح أن الاعتماد في نقل هذه الروايات تكمن في الواقدي، وهشام الكلبي، وأبي مخنف، بالإضافة إلى رواية البيهقي التي من طريق عبد الله بن جعفر. أما الروايات التي جاءت من طريق الواقدي فهي تالفة، . قال أبو حاتم والنسائي عن الواقدي:"متروك الحديث". وأما الروايات التي من طريق أبي مخنف، فقد قال عنه قال أبو حاتم:"متروك الحديث". وقال ابن عدي: "حدث بأخبار من تقدم من السلف الصالحين، ولا يبعد أن يتناولهم، وهو شيعي محترق، صاحب أخبارهم، وإنما وصفته لأستغني عن ذكر حديثه، فإني لا أعلم له من الأحاديث المسندة ما أذكره، وإنما له من الأخبار المكروهة الذي لا أستحب ذكره".
وأما هشام الكلبي فقد قال الدارقطني وغيره متروك وقال ابن عساكر: رافضي ليس بثقة. لسان الميزان (6/ 196). مناقشة الروايات التي جاء فيها هتك الأعراض: أما الروايات التي جاء فيها هتك الأعراض، وهي التي أخرجها ابن الجوزي في المنتظم أحداث سنة (63) من طريق المدائني، عن أبي قرة، عن هشام بن حسّان: ولدت ألف امرأة بعد الحرة من غير زوج، والرواية الأخرى التي أخرجها البيهقي في دلائل النبوة من طريق يعقوب بن سفيان: قال: حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا جرير، عن المغيرة قال: أنهب مسرف بن عقبة المدينة ثلاثة أيام. فزعم المغيرة أنه افتض ألف عذراء، فالروايتان لا تصحان للعلل التالية: أما رواية المدائني فهي منقطعة بين هشام بن حسان والواقعة لأنه لم يدركها ولم يذكر من حدثه بها قال الذهبي: وما علمت له شيئا عن الصحابة والظاهر أنه رأى أنس بن مالك فإنه أدركه وهو قد اشتد. اهـ من سير أعلام النبلاء (6/ 355)
وأبو قرة لم أعرف من هو ولم أقف عليه في تلاميذ هشام ولا في شيوخ المدائني إلا في هذا الإسناد والذي وقفت عليه في أنساب الأشراف (2/ 92) أبو قرة مولى عباد بن زياد وبينه وبين المدائني أبو قحافة وفي (2/ 4489) بينه وبينه عبد الحميد الأشج.
وأيضا فقد قال الشيباني: ذكر ابن الجوزي حين نقل الخبر أنه نقله من كتاب الحرّة للمدائني، وهنا يبرز سؤال ملح: وهو لماذا الطبري والبلاذري، وخليفة، وابن سعد، وغيرهم لم يوردوا هذا الخبر في كتبهم، وهم قد نقلوا عن المدائني في كثير من المواضع من تآليفهم؟ قد يكون هذا الخبر أُقحم في تآليف المدائني، وخاصة أن كتب المدائني منتشرة في بلاد العراق، وفيها نسبة لا يستهان بها من الرافضة، وقد كانت لهم دول سيطرت على بلاد العراق، وبلاد الشام، ومصر في آن واحد، وذلك في القرن الرابع الهجري، أي قبل ولادة ابن الجوزي رحمه الله، ثم إن كتب المدائني ينقل منها وجادة بدون إسناد" ا. هـ.
- في إسناد البيهقي عبد الله بن جعفر عن يعقوب بن سفيان: قال: حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا جرير، عن المغيرة به. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= راوي الخبر هو: المغيرة بن مقسم، من الطبقة التي عاصرت صغار التابعين، ولم يكتب لهم سماع من الصحابة، وتوفي سنة 136 هـ، فهو لم يشهد الحادثة فروايته للخبر مرسلة.
- كذلك المغيرة بن مقسم مدلس، ذكره ابن حجر في الطبقة الثالثة من المدلسين الذين لا يحتج بهم إلا إذا صرحوا بالسماع. طبقات المدلسين ت (107)، والتقريب ت (6851).
- أمّا الرواية الأخرى التي جاء فيها وقوع الاغتصاب، هي ما ذكرها ابن الجوزي في الموضع السابق أن محمد بن ناصر ساق بإسناده عن المدائني عن أبي عبد الرحمن القرشي عن خالد الكندي عن عمّته أم الهيثم بنت يزيد قالت:"رأيت امرأة من قريش تطوف، فعرض لها أسود فعانقته وقبّلته، فقلت: يا أمة الله أتفعلين بهذا الأسود؟ فقالت: هو ابني وقع عليّ أبوه يوم الحرة" ا. هـ.
- خالد الكندي وعمّته لم أعثر لهما على ترجمة. ولم أعثر عليهما إلا في هذا الإسناد.
والمرأة التي كانت تطوف لا يدرى من هي ولا يخفى أنها ناقلة الخبر فكيف يعتمد على خبر لا يعرف ناقله في أمر هام كهذا ولا يقال إن هذا من الستر فليس من الستر أن يفترى على أمة بأكملها لستر امرأة لا ذنب لها فيما حدث.
- أمّا الرواية التي ذكرها ابن حجر في الإصابة أن الزبير بن بكار قال: حدثني عمّي قال: كان ابن مطيع من رجال قريش شجاعة ونجدة وجلدًا فلما انهزم أهل الحرة وقتل ابن حنظلة وفرّ ابن مطيع ونجا، توارى في بيت امرأة، فلما هجم أهل الشام على المدينة في بيوتهم ونهبوهم، دخل رجل من أهل الشام دار الرأة التي توارى فيه ابن مطيع، فرأى المرأة فأعجبته فواثبها، فامتنعت منه، فصرعها، فاطلع ابن مطيع على ذلك فخلّصها منه وقتله".
- وهذه الرواية منقطعة، فراوي القصة هو مصعب الزبيري المتوفى سنة 236 هـ، والحرة كانت في سنة 63 هـ، فيكون بينه وبين الحرة زمن طويل ومفاوز بعيدة.
وعليه فلم نجد لهم رواية ثابتة جاءت من طريق صحيح لإثبات إباحة المدينة، بالرغم من أنّ شيخ الإسلام ابن تيمية، والحافظ ابن حجر -رحمهما الله- قد أقرّا بوقوع الاغتصاب، ومع ذلك لم يوردا مصادرهم التي استقيا منها معلوماتهما تلك، ولا يمكننا التعويل على قول هذين الإمامين دون ذكر الإسناد، فمن أراد أن يحتج بأي خبر كان فلا بد من ذكر إسناده، وهو ما أكده شيخ الإسلام ابن تيميّه حينما قال في المنهاج: "لا بد من ذكر (الإسناد) أولًا، فلو أراد إنسان أن يحتج بنقل لا يعرف إسناده في جُرْزَةِ بقل لم يقبل منه. ا. هـ من المنهاج (4/ 510). فكيف نقبل الحكم الصادر على الجيش الإسلامي في القرون المفضلة بأنه ينتهك العرض دون أن تكون تلك الروايات مسندة، أو لا يمكن الاعتماد عليها! ثم على افتراض صحتها جدلًا فأهل العلم حينما أطلقوا الإباحة فإنما يعنون بها القتل، والنهب كما جاء ذلك عن الإمام أحمد، وليس اغتصاب النساء، فهذه ليست من شيمة العرب، فمن المعلوم أن انتهاك العرض أعظم من ذهاب المال، فالعرب في الجاهلية تغار على نسائها أشد الغيرة، وجاء الإسلام ليؤكد هذا الجانب، ويزيده قوة إلى قوته، واستغل الرافضة هذه الكلمة -الإباحة- وأقحموا فيها هتك الأعراض، حتى أن الواقدي نقل بأن عدد القتلى بلغ سبعمائة رجل من قريش، والأنصار، ومهاجرة العرب ووجوه الناس، وعشرة آلاف من سائر الناس! وهو الذي أنكره =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال: لم يقتل جميع الأشراف، ولا بلغ عدد القتلى عشرة آلاف، ولا وصلت الدماء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم اهـ. من المنهاج (4/ 575).
- ثم إن المدينة كانت تضم الكثير من الصحابة والتابعين، وبعضهم لم يشترك في المعركة من أمثال: ابن عمر، وأبي سعيد الخدري، وعلي بن الحسين، وسعيد بن المسيِّب، وهؤلاء لن يقفوا مكتوفي الأيدي، وهم يشاهدون النساء المؤمنات يفجر بهنّ، حتى التبس أولاد السفاح بأولاد النكاح كما زعموا! .
- كما أننا لا نجد في كتب التراجم أو التاريخ ذكرًا لأي شخص قيل: إنه من سلالة أولاد الحرة (الألف) كما زعموا.
- سجّل لنا التاريخ صفحات مشرقة ما اتسم به الجندي المسلم والجيوش الإسلامية، من أخلاق عالية وسلوك إسلامي عظيم، حتى أدت في بعض الأحيان إلى ترحيب السكان بهم، كفاتحين يحملون الأمن، والسلام، والعدل للناس.
- لم ينقل إلينا أن المسلمين يفتحون المدن الكافرة، ويقومون باستباحتها، وانتهاك أعراض نسائها! فكيف يتصور أن يأتي هذا المجاهد لينتهك أعراض المؤمنات، بل أخوات وحفيدات الصحابة رضي الله عنهم سبحانك هذا بهتان عظيم.
- ومن العجيب أن هناك من نسب إلى يزيد بن معاوية أنه لما بلغته هزيمة أهل المدينة بعد معركة الحرة، تمثل بهذا البيت:
- ألا ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل.
- فهذا البيت قاله ابن الزبعري بعد معركة أحد، وكان كافرًا ويتشفى بقتل المسلمين، وذكره ابن كثير ثم عقّب بعده بالقول: فهذا إن قاله يزيد بن معاوية فعليه لعنة الله وعليه لعنة اللاعنين، وإن لم يكن قاله فلعنة الله على من وضعه عليه ليشنع به عليه" اهـ. من البداية والنهاية (8/ 224) وجزم شيخ الإسلام ببطلانه فقال:"ويعلم ببطلانه كل عاقل" كما في منهاج السنة (4/ 550).
وقال ابن كثير رحمه الله: وروى المدائني أن مسلم بن عقبة بعث روح بن زنباع إلى يزيد ببشارة الحرة، فلما أخبره بما وقع قال: وا قوماه، ثم دعا الضحاك بن قيس القهري فقال له: ترى ما لقي أهل المدينة؟ فما الذي يجبرهم؟ قال: الطعام والأعطية، فأمر بحمل الطعام إليهم، وأفاض عليهم أعطيته.
وهذا خلاف ما ذكره كذبة الروافض عنه من أنه شمت بهم، واشتفى بقتلهم، وأنه أنشد ذكرا وأثرا شعر ابن الزبعرى المتقدم ذكره. اهـ من البداية، والنهاية (8/ 256)
رابعًا: استدلوا على جواز لعنه بها روي عن الإمام أحمد:
وهي التي أخرجها أبو يعلى الفراء بإسناده إلى صالح بن أحمد بن حنبل قال: قلت لأبي: إن قومًا يُنسبون إلى تولية يزيد، فقال: يا بني وهل يتولى يزيد أحد يؤمن بالله؟ فقلت: ولم لا تلعنه؟ فقال: ومتى رأيتني ألعن شيئًا، ولم لا يُلعن من لعنه الله في كتابه؟ فقرأ قوله تعالى {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} (محمد: 23).
وكلام أحمد يستدل له ولا يستدل به وهذا لو ثبت فكيف وثبوته عنه فيه نزاع على أنه قد ثبت عنه العكس. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وبيان ذلك ما يلي: - قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "هذه الرواية التي ذكرت عن أحمد منقطعة ليست ثابتة عنه، ثم إن الآية لا تدل على لعن المعيّن" ا. هـ من المنهاج (4/ 573).
- ثبت عن الإمام أحمد النهي عن اللعن، كما في رواية صالح نفسه، أن أحمد قال:"ومتى رأيت أباك يلعن أحدًا، لما قيل له ألا تلعن يزيد" اهـ من المصدر السابق، وحين سأل عصمة بن أبي عصمة أبو طالب العكبري الإمام أحمد عن لعن يزيد، قال:"لا تتكلم في هذا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لعن المؤمن كقتله"، وقال: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم". وقد كان يزيد فيهم فأرى الإمساك أحب إليّ" ا. هـ.
- قال الخلال: "وما عليه أحمد هو الحق من ترك لعن المعيّن، لما فيه من أحاديث كثيرة تدل على وجوب التوقي من إطلاق اللعن".
- قال تقي الدين المقدسي: "إن المنصوص عن أحمد الذي قرره الخلال اللعن المطلق لا المعيّن، كما قلنا في نصوص الوعد والوعيد، وكما نقول في الشهادة بالجنة والنار، فإنا نشهد بأن المؤمنين في الجنة، وأن الكافرين في النار، ونشهد بالجنة والنار لمن شهد له الكتاب والسنة، ولا نشهد بذلك لمعيّن إلا من شهد له النص، أو شهدت له الاستفاضة على قول، ثمّ إن النصوص التي جاءت في اللعن جميعها مطلقة، كالراشي والمرتشي-، وآكل الربا وموكله، وشاهديه وكاتبه" ا. هـ.
- اختلاف الحنابلة رحمهم الله في تجويز لعن يزيد إنما جاء باعتماد بعضهم على رواية صالح المنقطعة، والتي لا تثبت عن الإمام أحمد رحمه الله، لذلك اعتمد أبو يعلى على تلك الرواية فألف كتابًا ذكر فيه بيان ما يستحق من اللعن، وذكر منهم يزيد، وتابعه في ذلك ابن الجوزي رحمه الله فألف كتابًا سمّاه" الرد على المتعصب العنيد المانع من لعن يزيد"، وأباح فيه لعن يزيد بن معاوية. ولم يقتصر ذلك على بعض فقهاء الحنابلة بل امتد إلى غيرهم، فتابع السيوطي ابن الجوزي في ذلك، وإلى ذلك ذهب ابن حجر رحمه الله وذكر أن الإمام أحمد يجيز لعن يزيد، بينما شذّ أبو المعالي حينما نقل الاتفاق على جواز لعن يزيد بن معاوية.
خامسًا: استدلوا على جواز لعنه بأنه كان يقارف المسكرات، وينكح أمهات الأولاد، والبنات، والأخوات، ويدع الصلوات:
نقل الطبري روايتين عن أبي مخنف (تاريخ الطبري (3/ 350، 351).
ونقل البلاذري عدة روايات عن الواقدي، وعوانة كما في أنساب الأشراف باب خبر يوم الحرة. ونقل ابن سعد (5/ 38)، (5/ 66)، ومن طريقه ابن عساكر (27/ 429) من طريق الواقدي وذكر ابن كثير (8/ 250) وقال الطبراني: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، ثنا ابن عائشة عن أبيه. قال: كان يزيد في حداثته صاحب شراب. اهـ
ومحمد بن زكريا قال الدارقطني: يضع الحديث. اهـ لسان الميزان (6/ 158).
ونقل البيهقي، . ونقل الطبري، وخليفة بن خياط، وأبو الحسن العبدي، وابن كثير، والذهبى، وابن حجر على رواية جويرية بن أسماء عن أشياخ أهل المدينة، ونقل ابن سعد عن الواقدي نصًا واحدًا. ونقل البياسي عن أبي مخنف نصًا واحدًا. ونقل ابن عساكر عن عمر بن شبة باتهام يزيد بشرب الخمر. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= قلت: ممّا سلف بيانه يتضح أن الاعتماد في نقل تلك الروايات تكمن في الواقدي، وأبي مخنف، وعوانة بن الحكم، ورواية عمر بن شبة.
فأما الروايات التي من طريق الواقدي وأبي مخنف فهما متروكا الحديث، وأما عوانة بن الحكم فقد قال عنه الحافظ ابن حجر:"فكان يضع الأخبار لبني أمية" - لسان الميزان (4/ 386). وأما رواية عمر بن شبة التي تشير إلى اتهام يزيد بشرب الخمر في حداثته، فقد تكفل ابن عساكر رحمه الله في ردها فقال:"وهذه حكاية منقطعة، فإن عمر بن شبة بينه وبين يزيد زمان" تاريخ مشق (65/ 407).
قلت: وأقوى ما يتعلق به المتهمون يزيد بشرب الخمر بروايتين:
الرواية الأولى: وهي التي أخرجها ابن عساكر وغيره من طريق محمد بن زكريا الغلابي، في أن يزيدًا كان يشرب الخمر في حداثته، فأرشده أبوه إلى شربها ليلًا فقط! ! ، وهذه الرواية لا تصح سندًا ولا متنًا للعلل التالية:
- في سندها محمد بن زكريا الغلابي، قال عنه الدارقطني: كان يضع الحديث كما سبق.
- وفي سندها ابن عائشة راوي الخبر، وهو محمد بن حفص بن عائشة، فقد ذكره أبو حاتم في الجرح والتعديل (7/ 236)، البخاري (في التاريخ الكبير (1/ 65)، وابن حبان في الثقات (9/ 62) وسكتوا عنه، فهو مجهول عندهما كما قرّر ذلك ابن القطان في كتابه: بيان الوهم والإيهام.
- لم تحدّد الصادر تاريخ وفاة ابن عائشة، غير أنّ ابنه عبد الله الراوي عنه توفي سنة 228 هـ، وبهذا فإن ابن عائشة ولد تقريبًا بعد المائة من الهجرة، ومن ثم تكون الرواية مرسلة، لأن الراوي بينه وبين هذه القصة -على افتراض وقوعها- أمد بعيد.
- من ناحية المتن فكيف يرضى معاوية رضي الله عنه لولده بشرب الخمر، ويشجعه عليها ليلًا، ومعاوية هو الصحابي الجليل وأخو أم المؤمنين وكاتب الوحي المبين، وهو رواي الحديث:"من شرب الخمر فاجلوده". أخرجه الترمذي (1444)، وقال الألباني: صحيح.
الرواية الثانية: وهي رواية يعقوب بن سفيان الفسوي: سمعت ابن عفير: أخبرنا ابن فليح أن عمرو بن حفص وفد على يزيد فأكرمه، وأحسن جائزته، فلمّا قدم المدينة قام إلى جنب المنبر، وكان مرضيًا صالحًا. فقال: ألم أجب؟ ألم أكرم؟ والله لرأيت يزيد بن معاوية يترك الصلاة سكرًا. فأجمع الناس على خلعه بالمدينة فخلعوه".
وهذه الرواية لا تصح سندًا ولا متنًا، وذلك للعلل التالية:
- ابن فليح هو يحيى بن فليح بن سليمان المدني، قال عنه ابن حزم: مجهول، وقال مرة: ليس بالقوي. لسان الميزان (6/ 273).
- ابن فليح وأبوه أيضًا لم يدركا هذه الحادثة، فقد ولد أبوه سنة 90 من الهجرة تقريبًا، قال الذهبي: ولد في آخر أيام الصحابة، وهو أسن من مالك بقليل. وتوفي سنة ثمان وستين ومائة من الهجرة، ومن هنا يتضح أن كان بين مولد أبيه والحادثة مفاوز طويلة وزمان بعيد، ومن ثم تبقى الرواية منقطعة. انظر: سير أعلام النبلاء (7/ 352). =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= - عندما ذهب عبد الله بن مطيع إلى محمد بن الحنفية فأرادوه على خلع يزيد فأبى، فقال ابن مطيع: إن يزيد يشرب الخمر ويترك الصلاة، ويتعدى حكم الكتاب، فقال لهم: ما رأيت منه ما تذكرون، وقد حضرته وأقمت عنده فرأيته مواظبًا على الصلاة، متحريًا للخير، يسأل عن الفقه ملازمًا للسنة، قالوا: فإن ذلك كان منه تصنعًا، فقال: وما الذي خاف مني أو رجا حتى يظهر لي الخشوع؟ أفأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر؟ فلئن كان أطلعكم على ذلك إنكم لشركاؤه، وإن لك يكن أطلعكم فما يحلّ لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا".
- محمد بن الحنفية هو أخو الحسين بن علي، وقد قتل أخوته، وأقاربه في كربلاء، وليس من العقول أن يقف مع يزيد، خاصة إذا علم أنه كان يشرب الخمر ويترك الصلاة.
- كذلك أقام علي بن الحسين طويلًا عند يزيد (قرابة الشهر)، وذلك بعد مقتل والده وأقاربه في كربلاء، ومع ذلك لم نجد رواية واحدة عن علي بن الحسين يتهم فيها يزيد بن معاوية بشرب الخمر.
- الصحابيان الجليلان النعمان بن بشير وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهما من الذين كانت لهما صلة قوية بيزيد، فالنعمان كان أميره على الكوفة، ثم جعله مستشارًا له في أمور الدولة، وعبد الله بن جعفر صحابي جليل كان يحبه صلى الله عليه وسلم وكان يقول:"وأما عبد الله فشبه خَلْقي وخُلُقي"، ولم نر هذين الصحابيين الجليلين ذكرا يزيدًا بالخمر، أو ترك الصلاة، فكيف يكون لهما هذه المنزلة، ولا يعرفون عن يزيد ما اطلع عليه المغرضون المتهمون يزيد بشربها.
- لذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ولم يكن يزيد مظهرًا للفواحش كما يحكي عنه خصومه اهـ. من مجموع الفتاوى (3/ 410). وتمام عبارة ابن تيمية قال رحمه الله: فإن يزيد بن معاوية ولد في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه ولم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولا كان من الصحابة باتفاق العلماء ولا كان من المشهورين بالدين والصلاح وكان من شبان المسلمين ولا كان كافرًا ولا زنديقا وتولى بعد أبيه على كراهة من بعض المسلمين ورضا من بعضهم وكان فيه شجاعة وكرم ولم يكن مظهرًا للفواحش كما يحكي عنه خصومه، وجرت في إمارته أمور عظيمة أحدها: مقتل الحسين، رضي الله عنه وهو لم يأمر بقتل الحسين، ولا أظهر الفرح بقتله، ولا نكت بالقضيب على ثناياه رضي الله عنه، ولا حمل رأس الحسين رضي الله عنه إلى الشام؛ لكن أمر بمنع الحسين رضي الله عنه وبدفعه عن الأمر ولو كان بقتاله فزاد النواب على أمره وحض الشمرذي الجيوش على قتله لعبيد الله بن زياد فاعتدى عليه عبيد الله بن زياد فطلب منهم الحسين رضي الله عنه أن يجيء إلى يزيد أو يذهب إلى الثغر مرابطا أو يعود إلى مكة فمنعوه رضي الله عنه إلا أن يستأسر لهم وأمر عمر بن سعد بقتاله فقتلوه مظلوما له ولطائفة من أهل بيته رضي الله عنه.
وكان قتله رضي الله عنه من المصائب العظيمة فإن قتل الحسين وقتل عثمان قبله كانا من أعظم أسباب الفتن في هذه الأمة وقتلتهما من شرار الخلق عند الله، ولما قدم أهلهم رضي الله عنه على يزيد بن معاوية أكرمهم وسيرهم إلى المدينة، وروي عنه أنه: لعن ابن زياد على قتله، وقال: كنت أرضى من طاعة أهل العراق بدون قتل الحسين لكنه مع هذا لم يظهر منه إنكار قتله والانتصار له والأخذ بثأره كان هوالواجب عليه، فصار أهل الحق يلومونه على تركه للواجب مضافًا إلى أمور أخرى، وأما خصومه فيزيدون عليه من الفرية أشياء. وأما الأمر الثاني فإن =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= أهل المدينة النبوية نقضوا بيعته وأخرجوا نوابه وأهله فبعث إليهم جيشًا وأمره إذا لم يطيعوه بعد ثلاث أن يدخلها بالسيف ويبيحها ثلاثًا فصار عسكره في المدينة النبوية ثلاثًا يقتلون وينهبون ويفتضون الفروج المحرمة ثم أرسل جيشًا إلى مكة المشرفة فحاصروا مكة وتوفي يزيد وهم محاصرون مكة وهذا من العدوان والظلم الذي فعل بأمره، ولهذا كان الذي عليه معتقد أهل السنة وأئمة الأمة أنه لا يسب ولا يحب، قال صالح بن أحمد بن حنبل، قلت لأبي: إن قوما يقولون إنهم يحبون يزيد قال: يا بني وهل يحب يزيد أحد يؤمن بالله واليوم الآخر، فقلت: يا أبت، فلماذا لا تلعنه؟ قال: يا بني، ومتى رأيت أباك يلعن أحدًا.
وروى عنه قيل له: أتكتب الحديث عن يزيد بن معاوية؟ فقال: لا، ولا كرامة أو ليس هو الذي فعل بأهل المدينة ما فعل.
فيزيد عند علماء أئمة المسلمين ملك من الملوك لا يحبونه محبة الصالحين وأولياء الله ولا يسبونه فإنهم لا يحبون لعنة المسلم المعين لما روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا كان يدعى حمارًا، وكان يكثر شرب الخمر، وكان كلما أتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ضربه، فقال رجل: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي، فقال النبي: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله.
ومع هذا فطائفة من أهل السنة يجيزون لعنه لأنهم يعتقدون أنه فعل من الظلم ما يجوز لعن فاعله وطائفة أخرى ترى محبته لأنه مسلم تولى على عهد الصحابة وبايعه الصحابة ويقولون: لم يصح عنه ما نقل عنه وكانت له محاسن أوكان مجتهدًا فيما فعله والصواب هو ما عليه الأئمة من أنه لا يخص بمحبة ولا يلعن ومع هذا فإن كان فاسقًا أو ظالمًا فالله يغفر للفاسق والظالم لا سيما إذا أتى بحسنات عظيمة، وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور له وأول جيش غزاها كان أميرهم يزيد بن معاوية، وكان معه أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه اهـ. من مجموع الفتاوى (3/ 410 - 414).
ونورد فيما يلي بعض أقوال أهل السنة والجماعة في مسألة لعن يزيد:
- قال ابن العربي رحمه الله: فإن قيل إن يزيد كان خمّارًا، قلنا: لا يحلّ إلا بشاهدين، فمن شهد بذلك عليه؟ ! " اهـ. من العواصم من القواصم (1/ 232)
- قال ابن حجر الهيتمي: لا يجوز أن يلعن شخص بخصوصه، إلا أن يعلم موته على الكفر كأبي جهل وأبي لهب، ولأن اللعن هو الطرد من رحمة الله، الملتزم لليأس منها، وذلك إنما يليق بمن علم موته على الكفر اهـ. من الصواعق المحرقة (2/ 637).
- قال ابن الصلاح: لم يصح عندنا أنه أمر بقتله -أي قتل الحسين-، والمحفوظ أن الآمر بقتاله المفضي -إلى قتله- كرمه الله-، إنما هو يزيد بن زياد والي العراق إذ ذاك، وأما سب يزيد ولعنه فليس من شأن المؤمنين، فإن صح أنه قتله أوامر بقتله، وقد ورد في الحديث المحفوظ:"أن لعن المسلم كقتله"، وإنما يكفر بالقتل قاتل نبي من الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم-، والناس في يزيد ثلاث فرق: فرقة تحبه وتتولّاه، وفرقة أخرى تسبه وتلعنه، وفرقة متوسطة في ذلك لا تتولّاه ولا تلعنه، وتسلك به سبيل سائر ملوك الإسلام وخلفائهم غير الراشدين في ذلك =
وقال ابن كثير: سنة تسع وأربعين فيها غزا يزيد بن معاوية بلاد الروم حتى بلغ قسطنطينية ومعه جماعات من سادات الصحابة منهم ابن عمر وابن عباس، وابن الزبير وأبو أيوب الأنصاري.
وقد ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أول جيش يغزون مدينة قيصر مغفور لهم". فكان هذا الجيش أول من غزاها، وما وصلوا إليها حتى بلغوا الجهد. (1)
وهو الجيش الثاني الذي رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه عند أم حرام فقالت: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال:"أنت من الأولين" يعني جيش معاوية حين غزا قبرص، ففتحها في سنة سبع وعشرين أيام عثمان بن عفان، وكانت معهم أم حرام فماتت هنالك بقبرص، ثم كان أمير الجيش الثاني ابنه يزيد في معاوية، ولم تدرك أم حرام جيش يزيد هذا.
وهذا من أعظم دلائل النبوة.
وقد أورد ابن عساكر ههنا الحديث الذي رواه محاضر، عن الأعمش، عن إبراهيم بن عبيدة، عن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم". (2)
وقد صح عن أحمد ما يدل على ذلك أيضا:
قال أبو طالب: سألت أبا عبد الله من قال لعن الله يزيد بن معاوية قال: لا أتكلم في هذا قلت: ما تقول فإن الذي تكلم به رجل لا بأس به وأنا صائر إلى قولك فقال أبو عبد الله قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لعن المؤمن كقتله"، وقال صلى الله عليه وسلم": خير الناس قرني ثم الذين
= وشبهه، وهذه الفرقة هي الصائبة، ومذهبها اللائق بمن يعرف سير الماضين، ويعلم قواعد الشريعة الطاهرة، جعلنا الله من خيار أهلها آمين" اهـ من فتاوى ابن الصلاح (1/ 142).
- قال الذهبي: ويزيد ممّن لا نسبه ولا نحبه، وله نظراء من خلفاء الدولتين، وكذلك من ملوك النواحي، بل فيهم من هو شر منه، وإنما عظم الخطب لكونه ولي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بتسع وأربعين سنة، والعهد قريب، والصحابة موجودون، كابن عمر الذي كان أولى منه ومن أبيه وجدّه اهـ من سير أعلام النبلاء (4/ 36).
- وقال ابن الحداد الشافعي: "ونترحم على معاوية، ونكل سريرة يزيد إلى الله تعالى" اجتماع الجيوش الإسلامية (49) اهـ.
(1)
البداية والنهاية (8/ 36).
(2)
البداية والنهاية (8/ 251).