الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجوب خدمة المرأة لزوجها
(1):
قلت: وبعض الأحاديث المذكورة آنفاً (2) ظاهرة الدلالة على وجوب طاعة الزوجة لزوجها، وخِدمتها إِياه في حدود استطاعتها، ومما لا شكّ فيه أنّ من أول ما يدخل في ذلك: الخدمةَ في منزله، وما يتعلق به من تربية أولاده ونحو ذلك. وقد اختلف العلماء في هذا، فقال شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله في "الفتاوى" (2/ 234 - 235): "وتنازع العلماء، هل عليها أن تخدمه في مِثل فراش المنزل، ومناولة الطعام والشراب، والخَبْزِ والطَّحْنِ والطعام لمماليكه وبهائمه؛ مِثل علف دابته ونحو ذلك؟
فمنهم من قال: لا تحب الخِدمة.
وهذا القول ضعيف، كضعف قول من قال: لا تجب عليه العشرة والوطء! فإِنّ هذا ليس معاشرة له بالمعروف، بل الصاحب في السفر الذي هو نظير الإِنسان، وصاحبه في المسكن؛ إِن لم يعاونه على مصملحته؛ لم يكن قد عاشره بالمعروف.
وقيل -وهو الصواب-: وجوب الخدمة، فإِنّ الزوج سيّدها في كتاب الله، وهي عانية عنده بسُنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى العاني والعبد الخدمة، ولأن ذلك هو المعروف.
ثمّ مِنْ هؤلاء مَنْ قال: تجب الخدمة اليسيرة، ومنهم من قال: تجب الخِدمة
(1) عن كتاب "آداب الزفاف"(ص 286) -بتصرّف يسير-.
(2)
كقوله صلى الله عليه وسلم: "فانظُري أين أنت منه؟ فإِنّما هو جنّتك ونارك"، وكقوله صلى الله عليه وسلم:"إِذا صلّت المرأة خمسها، وحصّنت فرجها، وأطاعت بعلها؛ دخلَت من أيّ أبواب الجنّة شاءت".
بالمعروف. وهذا هو الصواب، فعليها أن تَخْدُمَهُ الخدمة المعروفة من مثلها لِمثله، ويتنوع ذلك بتنوع الأحوال، فخِدمة البدوية ليست كخدمة القروية، وخدمة القوية ليست كخدمة الضعيفة".
قال شيخنا رحمه الله: "وهذا هو الحقّ -إِن شاء الله تعالى- أنه يجب على المرأة خدمة البيت، وهو قول مالك وأصبغ، كما في "الفتح" (9/ 418)، وأبي بكر بن أبي شيبة، وكذا الجُوزَجَانِيِّ من الحنابلة، كما في "الاختيارات" (ص 145)، وطائفة من السلف والخلف، كما في "الزاد" (4/ 46)، ولم نجد لمن قال بعدم الوجوب دليلاً صالحاً.
وقول بعضهم: "إِنّ عقد النكاح إِنما اقتضى الاستمتاع لا الاستخدام"! مردود بأنّ الاستمتاع حاصل للمرأة أيضاً بزوجها، فهما متساويان في هذه الناحية، ومن المعلوم أنّ الله تبارك وتعالى قد أوجب على الزوج شيئاً آخر لزوجته، ألا وهو نفقتها وكسوتها ومسكنها، فالعدل يقتضي أن يجب عليها مقابل ذلك شيء آخر أيضاً لزوجها، وما هو إِلا خِدمتها إِيّاه، ولا سيما أنه القوّام عليها بنص القرآن الكريم، وإذا لم تقم هي بالخدمة فسيُضْطَرُّ هو إِلى خدمتها في بيتها، وهذا يجعلها هي القوّامة عليه، وهو عكس للآية القرآنية كما لا يخفى، فثَبتَ أنه لا بدّ لها من خِدمته، وهذا هو المراد!
وأيضاً؛ فإِنّ قيام الرجل بالخدمة يؤدّي إِلى أمرين متباينين تمام التباين؛ أن ينشغل الرجل بالخدمة عن السعي وراء الرزق وغير ذلك من المصالح، وتبقى المرأة في بيتها عُطَلاً عن أي عمل يجب عليها القيام به! ولا يخفى فساد هذا في الشريعة التي سوَّت بين الزوجين في الحقوق، بل وفضّلت الرجل عليها
درجة، ولهذا لم يُزِل الرسول صلى الله عليه وسلم شكوى ابنته فاطمة [رضي الله عنها] حينما:"أتت النّبيّ صلى الله عليه وسلم تشكو إِليه ما تلقى في يدها من الرَّحَى، وبَلَغَها أنه جاءه رقيق، فلم تصادفه، فذكَرت ذلك لعائشة، فلما جاء، أخبرته عائشة، قال علي رضي الله عنه: فجاءنا وقد أخذْنا مضاجعنا، فذهبْنا نقوم، فقال: على مكانكما! فجاء، فقعد بيني وبينها، حتى وجدت بَرْدَ قدميه على بطني، فقال: ألا أدلكما على خير ممّا سألتما؟ إذا أخذتما مضاجعكما -أو أويتما إِلى فراشكما- فسبِّحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبّرا أربعاً وثلاثين، فهو خير لكما من خادم. قال علي: فما تركْتها منذ سمعته من النّبيّ صلى الله عليه وسلم. قيل له: ولا ليلة صِفّين؟ قال: ولا ليلة صفّين"(1).
فأنت ترى أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقل لعليّ: لا خِدمة عليها، وإنما هي عليك، وهو صلى الله عليه وسلم لا يحابي في الحُكم أحداً كما قال ابن القيّم رضي الله عنه. ومن شاء زيادة البحث في هذه المسألة فليرجع إِلى كتابه القيم "زاد المعاد"(4/ 45 - 46).
هذا وليس فيما سَبق من وجوب خِدمة المرأة لزوجها ما ينافي استحباب مشاركة الرجل لها في ذلك، إِذا وجد الفراغ والوقت، بل هذا من حُسْنِ المعاشرة بين الزوجين، ولذلك قالت السيدة عائشة رضي الله عنها:"كان صلى الله عليه وسلم يكون في مهنة أهله -تعني خِدمة أهله-، فإِذا حضرت الصلاة خرج إِلى الصلاة"(2). انتهى كلام شيخنا رحمه الله.
وذكر بعض العلماء في وجوب خدمة المرأة زوجها لقوله -سبحانه-:
(1) أخرجه البخاري: 5361، ومسلم: 2727 واللفظ له.
(2)
أخرجه البخاري: 676.
{ولهنّ مِثلُ الذي عليهنّ بالمعروف} (1)؛ أي: ولهنّ على الرجال من الحقّ مِثل ما للرجال عليهنّ، فليؤدّ كل واحدٍ منهما إِلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف. قاله ابن كثير رحمه الله.
فإِن لم تكن الخدمة من ذلك؛ فماذا يكون عليها؟!
وذكروا كذلك حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: "تزوّجني الزُّبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا شيء؛ غير ناضح (2)، وغير فرسه، فكنت أعلف فرسه، وأستقي الماء، وأخرِز (3)، غَرَبهُ (4)، وأعجن، ولم أكن أُحسن أخبز، وكان يخبز جارات لي من الأنصار -وكُنَّ نِسْوةَ صِدْقٍ- وكنت أنقل النّوى من أرض الزبير -التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم- على رأسي، وهي مِنّي على ثُلُثَيْ فرسخٍ (5) "(6).
وفي بعض مجالس شيخنا رحمه الله سُئل: هل للمرأة أن تَخْدُمَ إِخوان الزوج؟ فأجاب رحمه الله: الزوج هو الذي يُخْدَمُ فقط لا غيره؛ إِلا إِذا كان قد اشترط بخدمة أخ أو والد أو والدة؛ فيجب.
(1) البقرة: 228.
(2)
الناضح: هو الجمل الذي يُسقى عليه الماء.
(3)
أي: تخيط الجلد وتجعل منه دلواً.
(4)
هو الدلو.
(5)
الفرسخ: ثلاث أميال، وهي حوالي 6 كم، انظر كتاب:"المكاييل والأوزان الإِسلامية وما يعادلها في النظام المتري"(ص 94) لفالترهنتس وترجمه عن الألمانية د. كامل العسلي.
(6)
أخرجه البخاري: 5224، ومسلم:2182.