الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالذي أودُّه أنهم إِن غيَّروا حُكماً أو تركوا مذهباً إِلى مذهب آخر، أن يكون ذلك اتباعاً منهم للسنة، وأن لا يكون ذلك قاصراً على الأحكام القانونية والأحوال الشخصية، بل يجب أن يتعدوا ذلك إِلى عباداتهم ومعاملاتهم الخاصة بهم، فلعلهم يفعلون" انتهى.
والخلاصة أنّ الثلاث تقع واحدة إِذْ خَيرُ الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وهو عَمَلٌ بمقتضى قوله -تعالى-: {الطلاق مرتان} والنية لا تقوم مقام العدد اللفظي.
وكما أنه لا يجزئ قول المرء: "سبحان الله وبحمده مائة مرة" -هكذا- للحصول على ثواب من يقول: "سبحان الله وبحمده" مرّة بعد مرّة؛ مِن حطِّ الخطايا ولو كانت مثل زبد البحر؛ فإِنه لا يجزئ قول المرء: طالق ثلاثاً جملة واحدة، ولا يكون إِلا مرّة بعد مرَّة، على النحو الذي بيّن الله -تعالى- في كتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم في سُنّته، وأنّ إِيقاع الثلاث وإمضاءَه؛ إِنّما هو تسوية بين المدخول بها وغير المدخول، وتجاوز للأحكام التي وضعها الحكيم العليم الرحمن الرحيم.
وما ورَد عن بعض الصحابة رضي الله عنهم إِنما هو اجتهادٌ؛ كيلا تفشو هذه الألفاظ في النّاس وتشيع فيهم، والله -تعالى- أعلم.
الإِشهاد على الطَّلاق:
قال الله -تعالى-: {يا أيها النّبيّ إِذا طلّقتم النّساء فطلِّقوهنّ لعدَّتهنّ وأحصوا العِدَّة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهنّ من بيوتهنّ ولا يخرجن إِلا أن يأتين بفاحشة مُبيِّنة وتلك حدود الله ومن يتعدّ حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعلّ الله يحدث بعد ذلك أمراً * فإِذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروفٍ
أو فارقوهنّ بمعروف وأشهدوا ذَوَيْ عدلٍ منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتَّق الله يجعل له مخرجاً} (1).
وقد اختلف العلماء في معنى الإِشهاد في قوله -سبحانه-: {وأشهدوا ذَوَي عدْلٍ منكم} أهو على الطلاق أم الرجعة أم عليهما معاً، وهذا له أثره الخلافي في المسألة.
جاء في "صحيح البخاري"(2) باب قول الله -تعالى-: {يا أيها النّبيّ إِذا طلّقتم النّساء فطلِّقوهنّ لعدَّتهنّ وأحصوا العدة} أحصيناه: حفظناه وعددناه، وطلاق السّنّة أن يُطلقها طاهراً من غير جماع، ويشهد شاهدين.
قال الحافظ رحمه الله: "قوله: ويُشهد شاهدين: مأخوذ من قوله -تعالى-: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} وهو واضح، وكأنه لمح بما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس قال: "كان نفر من المهاجرين يطلقون لغير عدة ويراجعون بغير شهود فنزلت".
جاء في كتاب "الجامع في أحكام الطلاق"(3): "
…
[أخرج] ابن جرير الطبري في "تفسيره"(28/ 88) من طريق أبي صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس (4) قال: إِن أراد مراجعتها قبل أن تنقضي عدتها أشهد رجلين
(1) الطلاق: 1 - 2.
(2)
انظر "كتاب الطلاق"(باب - 1).
(3)
لعمرو عبد المنعم سليم -حفظه الله تعالى- (ص 152).
(4)
قلت: وقد تُكُلِّم كثيراً في رواية (علي بن أبي طلحهّ) عن (ابن عباس)، وأنه =
كما قال الله: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} عند الطلاق وعند المراجعة.
= لم يسمع منه، بيْد أن في الأمر تفصيلاً، فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في كتاب "العجاب في بيان الأسباب" (1/ 203):
"والذين اشتهر عنهم القول في ذلك [أي: تفسير القرآن العظيم] من التابعين: أصحاب ابن عبّاس رضي الله عنهما ثقات وضعفاء فمن الثقات:
1 -
مجاهد بن جبر.
2 -
ومنهم عكرمة.
3 -
ومن طريق معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس رضي الله عنهما وعليّ صدوق لم يلْقَ ابن عبّاس، لكنّه حَمَل عن ثقاتِ أصحابه، فلذلك كان البخاري وابن أبي حاتم وغيرهما يعتمدون على هذه النُّسخة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قال أبو جعفر النحاس في كتاب "معاني القرآن" له بعد أن ساق رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تأويل الآية -: هذا من أحسن ما قيل في تأويل الآية وأعلاه وأجلّه، ثم أسند عن أحمد بن حنبل قال: بمصر صحيفة في التفسير رواها علي بن أبي طلحة لو رحل رجل فيها إِلى مصر قاصداً ما كان كثيراً. انتهى. وهذه النسخة كانت عند أبي صالح كاتب الليث رواها عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس وهي عند البخاري عن أبي صالح وقد اعتمد عليها في "صحيحه" هذا كثيراً على ما بيناه في أماكنه. وهي عند الطبري وابن أبي حاتم وابن المنذر بوسائط بينهم وبين أبي صالح. انتهى".
والحاصل أنّ هذه وجادةٌ اعتمدها الإِمام البخاري وأمثاله من الفحول المذكورين في رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس رضي الله عنهما على نسخة معاوية بن صالح. وهنالك من يفرّق بين ما رواه في الحديث وما رواه في التفسير [انظر ما قاله محقق كتاب "العُجَاب" (1/ 206)].
ويزيدنا اطمئناناً أن تكون رواية عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاس رضي الله عنهما =
وجاء في "تفسير ابن كثير" رحمه الله: "وقوله -تعالى-: {وأشهدوا ذَوَي عدل منكم} أي: على الرجعة إِذا عزمتم عليها، كما رواه أبو داود، وابن ماجه عن عمران بن حصين، أنه سئل عن الرجل يطلق امرأته ثمّ يقع بها، ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها، فقال: طلقت لغير سُنَّة وراجعت لغير سُنَّة، أشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تَعُد (1).
وقال ابن جريج: كان عطاء يقول: {وأشهدوا ذَوَي عدل منكم} قال: لا يجوز في نكاح ولا طلاق ولا إرجاع إلَاّ شاهدا عدل، كما قال الله عز وجل إِلا أن يكون من عذر".
وجاء في "تفسير القرطبي" رحمه الله: "قوله -تعالى-: {وأشهِدوا} أمرٌ بالإِشهاد على الطلاق، وقيل: على الرجعة.
والظاهر رجوعه إِلى الرجعة لا إِلى الطلاق، فإِن راجع من غير إِشهاد؛ ففي صحة الرجعة قولان للفقهاء، وقيل: المعنى: وأشهدوا عند الرجعة والفرقة جميعاً. وهذا الإِشهاد مندوب إِليه عند أبي حنيفة؛ كقوله -تعالى-: {وأشهدوا إِذا تبايعتم} . وعند الشافعي واجب في الرجعة، مندوب إِليه في الفرقة".
= من اختيار ابن جرير أو ابن كثير وأمثالهما -رحم الله الجميع-.
وانظر -إِن شئت المزيد- ما قاله الحافظ رحمه الله في كتاب "العُجاب في بيان الأسباب" وما أفاده محقّقه: الأستاذ عبد الحكيم محمد الأنيس -حفظه الله تعالى- وقد مضى في بداية القول توثيق الحافظ ابن حجر رحمه الله لذلك. والله -تعالى- أعلم.
(1)
أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود"(1915)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه"(1645)، وصححه شيخنا رحمه الله في "الإِرواء"(2078).
وجاء في "تفسير الإِمام البغوي" -رحمه الله تعالى-: " {وأشهدوا} على الرجعة أو الفراق، أمر بالإِشهاد على الرجعة وعلى الطلاق
…
".
وقال العلامة السعدي رحمه الله في "تفسيره": " {وأشهدوا} على طلاقها ورجعتها {ذوي عدل منكم} أي: رجلين مسلمين عدلين لأن في الإِشهاد المذكور سداً لباب المخاصمة وكتمان كل منهما ما يلزم بيانه".
قال العلامة أحمد شاكر رحمه الله في كتاب "نظام الطلاق في الإِسلام"(ص 80) -بحذف-: "والظاهر من سياق الآيتين أنَّ قوله: {وأشهدوا} راجع إِلى الطلاق وإلى الرجعة معاً والأمر للوجوب، لأنه مدلوله الحقيقي، ولا ينصرف إِلى غير الوجوب -كالندب- إِلا بقرينة، ولا قرينة هنا تصرفه عن الوجوب، بل القرائن هنا تؤيد حمْله على الوجوب: لأن الطلاق عمل استثنائي يقوم به الرجل -وهو أحد طرفي العقد- وحده. سواء أوافقته المرأة أم لا، كما أوضحنا ذلك مراراً، وتترتب عليه حقوق للرجل قِبَلَ المرأة، وحقوق للمرأة قِبَلَ الرجل، وكذلك الرجعة، ويخشى فيهما الإِنكار من أحدهما، فإِشهاد الشهود يرفع احتمال الجحد، ويثبت لكل منهما حقه قِبَلَ الآخر.
فمن أشهد على طلاقه فقد أتى بالطلاق على الوجه المأمور به، ومن أشهد على الرجعة فكذلك، ومن لم يفعل فقد تعدى حد الله الذي حده له، فوقع عمله باطلاً، لا يترتب عليه أي أثر من آثاره.
وهذا الذي اخترنا هو قول ابن عباس. فقد روى عنه الطبري في التفسير (28 - 88) قال: إِنْ أراد مراجعتها قبل أن تنقضي عدتها أشهد رجلين، كما قال الله:{وأشهدوا ذَوَي عدلٍ منكم} عند الطلاق وعند المراجعة.
وهو قول عطاء أيضاً.
فقد روى عنه عبد الرزاق وعبد بن حميد قال: "النكاح بالشهود، والطلاق بالشهود، والمراجعة بالشهود" نقله السيوطي في "الدر المنثور"(6/ 232) والجصاص في أحكام القرآن بمعناه (3/ 456) وكذلك هو قول السدي. فقد روى عنه الطبري قال في قوله: {وأشهدوا ذَوَي عدلٍ منكم} . على الطلاق والرجعة.
وأمّا ابن حزم فإِنَّ ظاهر قوله في "المحلى"(1)(10/ 251) يفهم منه أنه يرى اشتراط الإِشهاد في الطلاق وفي الرجعة، وإن لم يذكر هذا الشرط في مسائل الطلاق؛ بل ذكره في الكلام على الرجعة فقط، قال:"فإنْ راجع ولم يُشهِد فليس مراجعاً، لقول الله -تعالى-: {فإِذا بلغن أجلهن فأمسكوهنّ بمعروفٍ أو فاوقوهنّ بمعروف وأشهدوا ذَوَي عدل منكم} لم يفرق عز وجل (2) بين المراجعة والطلاق والإِشهاد، فلا يجوز إِفراد ذلك عن بعض، وكل من طلّق ولم يشهد ذوَي عدل، أو رجع ولم يشهد ذوي عدل: متعدياً لحدود الله -تعالى- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" (3).
قال شيخ الإِسلام رحمه الله في "الفتاوى"(33/ 33): "وقد ظن بعض
(1) وفي نسختي: (11/ 613) دار الاتحاد العربي.
(2)
جاء في التعليق: في النسخة المطبوعة من "المحلّى""فرق عز وجل " وهو خطأ مطبعي واضح من سياق الكلام. والصواب (فقرن) كما في النسخة المخطوطة من "المحلّى" بدار الكتب المصرية.
(3)
أخرجه البخاري: 2697، ومسلم: 1718، واللفظ له.
الناس: أن الإِشهاد هو الطلاق، وظن أن الطلاق الذي لا يشهد عليه لا يقع. وهذا خلاف الإِجماع (1)، وخلاف الكتاب والسّنة، ولم يقل أحد من العلماء المشهورين به؛ فإِن الطلاق أذن فيه أولاً، ولم يأمر فيه بالإِشهاد، وإِنما أمر بالإِشهاد حين قال:{فإِذا بلغن أجلهنّ فأمسكوهنّ بمعروف أو فارقوهنّ بمعروف} والمراد هنا بالمفارقة تخلية سبيلها إِذا قضت العدة، وهذا ليس بطلاق ولا برجعة ولا نكاح. والإِشهاد في هذا باتفاق المسلمين، فعلم أن الإِشهاد إِنما هو على الرجعة، ومن حكمة ذلك: أنه قد يطلقها ويرتجعها، فيزين له الشيطان كتمان ذلك حتى يطلقها بعد ذلك طلاقاً محرماً ولا يدري أحد، فتكون معه حراماً، فأمر الله أن يشهد على الرجعة ليظهر أنه قد وقعت به طلقة".
وإِذا عَرف المرء رأي شيخ الإِسلام رحمه الله في الإِشهاد في النكاح؛ وأنه يرى حصولَه مع الإِعلان ولو لم يَشْهَد شاهدان، إِذا كان كذلك؛ انقدح في ذهنه أنّ هذا له أثره في فتواه رحمه الله في مسألة عدم إِيجاب الإِشهاد في الطلاق، علماً أنّ الإِشهاد في النكاح أقوى نصّاً وفقهاً من الإِشهاد في الطلاق كما هو ظاهر النُّصوص.
جاء في "الفتاوى"(32/ 127): "واشتراط الإِشهاد وحده ضعيف؛ ليس له أصل في الكتاب ولا في السنة، فإِنه لم يثبت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيه حديث (2).
(1) قال الموزعي في "تيسير البيان": وقد اتفق الناس على أن الطلاق من غير إشهاد جائز. قاله في "سبل السلام"(3/ 348). وفي "السيل الجرار"(2/ 410): "وقد وقع الإِجماع على عدم وجوب الإِشهاد في الطلاق واتفقوا على الاستحباب".
(2)
وقد خالفه من العلماء مَن خالفه في هذا؛ فهذا رأيه، رحم الله الجميع.
ومن الممتنع أن يكون الذي يفعله المسلمون دائماً له شروط لم يُبِنْها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا مما تعمُّ به البلوى، فجميع المسلمين يحتاجون إِلى معرفة هذا. وإذا كان هذا شرطاً كان ذِكره أولى من ذِكر المهر وغيره، مما لم يكن له ذِكر في كتاب الله ولا حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم[فتبين] أنه ليس مما أوجبه الله على المسلمين في مناكحهم.
قال أحمد بن حنبل وغيره من أئمَّة الحديث: لم يثبت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الإِشهاد على النكاح شيء، ولو أوجبه لكان الإِيجاب إِنما يعرف من جهة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان هذا من الأحكام التي يجب إِظهارها وإعلانها، فاشتراط المهر أولى؛ فإِن المهر لا يجب تقديره في العقد بالكتاب والسّنة والإِجماع، ولو كان قد أظهر ذلك لنقل ذلك عن الصحابة: ولم يضيعوا حِفْظ ما لا بُدّ للمسلمين عامة من معرفته، فإِنَّ الهمم والدواعي تتوافر على نقل ذلك، والذي يأمر بحفظ ذلك. وهم قد حفظوا نهيه عن نكاح الشغار، ونكاح المحرم، ونحو ذلك من الأمور التي تقع قليلاً؛ فكيف النكاح بلا إِشهاد إِذا كان الله ورسوله قد حرَّمه وأبطله؛ كيف لا يحفظ في ذلك نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
بل لو نقل في ذلك شيء من أخبار الآحاد لكان مردوداً عند من يرى مثل ذلك، فإِن هذا من أعظم ما تعمّ به البلوى أعظم من البلوى بكثير من الأحكام، فيمتنع أن يكون كل نكاح للمسلمين لا يصح إِلا بإِشهاد، وقد عقد المسلمون من عقود الأنكحة ما لا يحصيه إِلا رب السماوات؛ فعُلم أنَّ اشتراط الإِشهاد دون غيره باطل قطعاً.
ولهذا كان المشترطون للإِشهاد مضطربين اضطراباً يدل على فساد الأصل،
فليس لهم قول يثبت على معيار الشرع، إِذا كان فيهم من يجوزه بشهادة فاسقين، والشهادة التي لا تجب عندهم قد أمر الله فيها بإِشهاد ذوي العدل، فكيف بالإِشهاد الواجب؟! ".
وقال رحمه الله (ص 129): "وأمَّا النكاح فلم يرد الشرع فيه بإِشهاد واجب ولا مستحب، وذلك أن النكاح أُمِر فيه بالإِعلان، فأغنى إِعلانه مع دوامه عن الإِشهاد، فإِن المرأة تكون عند الرجل والناس يعلمون أنها امرأته، فكان هذا الإِظهار الدائم مُغنياً عن الإِشهاد كالنسب؛ فإِن النسب لا يحتاج إِلى أن يُشهِد فيه أحداً على ولادة امرأته؛ بل هذا يظهر ويعرف أن امرأته ولدت هذا فأغنى هذا عن الإِشهاد؛ بخلاف البيع؛ فإِنّه قد يجحد ويتعذر إِقامة البينة عليه.
ولهذا إِذا كان النكاح في موضع لا يظهر فيه كان إِعلانه بالإِشهاد، فالإِشهاد قد يجب في النكاح؛ لأنَّه بِهِ يُعلَن ويُظهَر؛ لا لأنَّ كل نكاح لا ينعقد إِلا بشاهدين؛ بل إِذا زَوَّجَهُ وَلِيَّتَهُ ثمّ خرجا فتحدثا بذلك وسمع الناس، أو جاء الشهود والناس بعد العقد فأخبروهم بأنه تزوجها؛ كان هذا كافياً، وهكذا كانت عادة السلف، لم يكونوا يكلَّفون إِحضار شاهدين، ولا كتابة صَداق".
وقال رحمه الله (ص 130): "فالذي لا ريب فيه أن النكاح مع الإِعلان يصح، وإِن لم يشهد شاهدان. وأمّا مع الكتمان والإِشهاد فهذا مما ينظر فيه. وإذا اجتمع الإِشهاد والإِعلان، فهذا الذي لا نزاع في صحته.
وإِن خلا عن الإِشهاد والإِعلان: فهو باطل عند العامَّة فإِن قُدِّرَ فيه خلاف فهو قليل. وقد يظن أن في ذلك خلافاً في مذهب أحمد، ثم يقال: ما يميز
هذا عن المتخذات أخداناً؟
وفي المشترطين للشهادة من أصحاب أبي حنيفة من لا يعلل ذلك بإِثبات الفراش؛ لكن كان المقصود حضور اثنين تعظيماً للنكاح. وهذا يعود إِلى مقصود الإِعلان، وإذا كان الناس ممن يجهل بعضهم حال بعض، ولا يعرف من عنده هل هي امرأته أو خدينة، مثل الأماكن التي يكثر فيها الناس المجاهيل: فهذا قد يقال: يجب الإِشهاد هنا".
وجاء في "تبين المسالك بتدريب السالك"(3/ 159). " قال الموَّاق: من المدونة: من طلق زوجته فليشهد على طلاقه وعلى رجعته، وقال مالك فيمن منعت نفسها وقد ارتجع حتى يشهد: قد أصابت. ابن عرفة: وهذا دليل على وجوب الإِشهاد. وعلى ندبه درج خليل قال: وندب الإِشهاد وأصابت من منعت له.
والأصل في مشروعية الإِشهاد قوله -تعالى-: {وأشهدوا ذَوَي عدل منكم} .
وذكر كلام القرطبي رحمه الله المتقدّم، ثمّ ذكر كذلك أثر عمران بن الحصين رضي الله عنه ثمَّ قال: ومذهب الثلاثة: عدم وجوب الإِشهاد.
وجاء في "الاستئناس لتصحيح أنكحة النّاس"(ص 51) للعلامة القاسمي رحمه الله (1): "ممّن ذهب إِلى وجوب الإِشهاد واشتراطه لصحته من الصحابة: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وعمران بن حصين -رضي الله
(1) وقد نقلْتُ أقوال أهل السّنة، وحذفتُ أقوال الآخرين؛ فهي مبثوثة في كُتبهم.
عنهما- ومن التابعين الإِمام محمد الباقر (1)، والإِمام جعفر الصادق (1)، وبنوهما أئمة آل البيت -رضوان الله عليهم- وكذلك عطاء، وابن جريج، وابن سيرين رحمهم الله.
وروى أبو داود في "سننه" عن عمران بن حصين رضي الله عنه أنه سئل عن الرجل يُطلّق امرأته ثمّ يقع بها ولم يُشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال: طلقت لغير سنّة وراجعت لغير سنة، أشهد على طلاقها وعلى رجعتها
(1) قال الإِمام الذهبي في "سِير أعلام النبلاء"(4/ 401) في ترجمة محمد الباقر -رحمهما الله تعالى-: "وشُهِر أبو جعفر بالباقر من بقر العلم أي: شقّه فعرف أصله وخفيّه، ولقد كان أبو جعفر إِماماً مجتهداً تالياً لكتاب الله، كبير الشّأن، ولكن لا يبلغ في القرآن درجة ابن كثير ونحوه، ولا في الفقه درجة أبي الزناد، وربيعة، ولا في الحفظ ومعرفة السّنن درجة قتادة وابن شهاب، فلا نُحابيه، ولا نحيف عليه، ونُحبّه في الله لما تجمّع فيه من صفات الكمال.
قال ابن فُضيل، عن سالم بن أبي حفصة: سألت أبا جعفر وابنه جعفراً عن أبي بكر وعمر، فقالا لي: يا سالم، تولّهما وابرأ من عدوّهما، فإِنهما كانا إِمامي هُدَى".
وقال كذلك (6/ 255) في ترجمة جعفر الصادق -رحمهما الله تعالى-: "
…
الإِمام الصادق شيخ بني هاشم أبو عبد الله القرشي الهاشمي العلوي النبوي
…
وكان يغضب من الرافضة ويمقتهم إِذا علم أنهم يتعرضون لجدّه أبي بكر ظاهراً وباطناً -هذا لا ريب فيه-.
ولكن الرافضة قوم جَهَلة، قد هوى بهم الهوى في الهاوية فبُعداً لهم" انتهى.
قلت: ومع القول بإِمامتهما، فإِننا لا نخصُّهما وأشخاصاً محدّدين بذلك -كما تفعل الشيعة- كما لا نعني بذلك مدلولهم في هذه الإِمامة وهذا كقولهم:"الإِمام علي" رضي الله عنه فمدلول إِمامة علي رضي الله عنه عند أهل السّنة غير مدلول الشيعة، نسأل الله -تعالى- الوفاة على الكتاب والسّنة على منهج سلف الأمّة.
ولا تعد (1).
وقد تقرر في الأصول أن قول الصحابي: من السّنة كذا في حُكم المرفوع إِلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم على الصحيح، لأن مُطلق ذلك إِنما ينصرف بظاهره إِلى من يجب اتباع سنته وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن مقصود الصحابي بيان الشرع لا اللغة والعادة كما بُسط في موضعه.
…
[وفي]"الدر المنثور" آية: {فإِذا بلغن أجلهنّ فأمسكوهنّ بمعروف أو فارقوهنّ بمعروف وأشهدوا ذَوَي عدل منكم} الآية. عن عبد الرزاق عن ابن سيرين أن رجلاً سأل عمران بن حصين عن رجل طلّق ولم يشهد وراجع ولم يُشهد قال: بئسما صنع، طلّق لبدعة وراجع لغير سنّة، فليشهد على طلاقه وعلى مراجعته وليستغفر الله.
فإِنكار ذلك من عمران رضي الله عنه والتهويل فيه وأمره بالاستغفار لعده إِياه معصية ما هو إِلا لوجوب الإِشهاد عنده رضي الله عنه كما هو ظاهر.
…
[وفي]"الدر المنثور" عن عبد الرزاق وعبد بن حميد عن عطاء قال: النكاح بالشهود والطلاق بالشهود والمراجعة بالشهود.
ثمّ ذَكر قول ابن كثير رحمه الله المتقدّم عن عطاء (2) ثمَّ قال العلامة القاسمي رحمه الله: فقوله: لا يجوز، صريح في وجوب الإِشهاد على الطلاق عنده رضي الله عنه لمساواته له بالنكاح، ومعلوم ما اشتُرط فيه من
(1) تقدّم تخريجه.
(2)
انظر (ص 293).
البينة.
إِذا تبين لك أن وجوب الإِشهاد على الطلاق هو مذهب هؤلاء الصحابة والتابعين المذكورين، تعلم أن دعوى الإِجماع على ندبه المأثورة في بعض كتب الفقه مراد لها الإِجماع المذهبي لا الإِجماع الأصولي الذي حدُّه -كما في "المستصفى"- اتفاق أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم خاصَّة على أمرٍ من الأمور الدينية، لانتقاضه بخلاف كما ذكر كما الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المجتهدين".
وجاء في كتاب "الجامع في أحكام الطلاق"(ص 156): "وأما من قال بوجوب الإشهاد على الطلاق والرجعة من السلف فجماعة منهم:
عطاء بن أبي رباح -رحمه الله تعالى- فقال: الفرقة والرجعة بالشّهود (1).
وصح عنه أنه لم يجز طلاق من أشهد شهيدين متفرقين. فعند عبد الرزاق (6/ 374) عن ابن جريج، قال: سئل عطاء عن رجل طلّق عند رجل واحدة، وعند رجل واحدة، قال. ليستا بشىء، إِنما شهد رجل على واحدة.
وسنده صحيح أيضاً.
وأورده ابن كثير في "التفسير"(4/ 379) عن ابن جريج، قال: كان عطاء يقول: {وأشهدوا ذَوَي عدلٍ منكم} .
قال: لا يجوز في نكاح، ولا طلاق، ولا رجاع إلَاّ شاهدان كما قال الله عز وجل إِلا أن يكون من عذر [وتقدّم].
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 60) من طريق سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء به، وسنده صحيح.
وأخرج عبد الرزاق (6/ 327): عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: رجل طلّق امرأته تطليقة ولم يشهد، ولم يُعلمها، لم نرد على هذا. وسنده صحيح.
عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج رحمه الله تعالى- قال: لا يجوز نكاح، ولا طلاق، ولا ارتجاع إِلا بشاهدَيْن، فإن ارتجع وجهل أن يشهد وهو يدخل ويصيبها، فإِذا علم فليعد إِلى السنة إِلى أن يشهد شاهدين عدل (1) ". انتهى.
وفي "مصنف ابن أبي شيبة"(4/ 193) برقم (19184) عن الشعبي رحمه الله "أنّه سُئل عن رجل طلّق امرأته عند رجلين وامرأة فشهد أحد الرجلين والمرأة وغاب الآخر قال: تعزل عنه حتى يجيء الغائب".
ورأي شيخنا رحمه الله أن الطّلاق لا يقع إِلا بشاهدين، فقد قال لي مجيباً عن بعض أسئلتي:"أيّ طلاق لا يقع إِلا بشاهدَين".
وسألت شيخنا رحمه الله عن شخصٍ طلّق بلا إشهاد، ثمّ أخبرَ إخوانه، أنَّه قد طلّق؟
فأجاب رحمه الله: إِذا رأى أنه طلّق؛ فقد وقع الطلاق وإِذا أفتاه بعض العلماء بوقوع الطلاق؛ فإِنَّه يقع أيضاً.
والحاصل أن شيخنا رحمه الله يرى أن من استفتى في الطَّلاق، فقول من أفتاه من العلماء في الطَّلاق ماضٍ، وكذلك إِذا طلّق بلا إِشهاد؛ معتمداً على فتاوى أهل العِلم.
(1) أخرجه عبد الرزاق (6/ 135) عن ابن جريج به، وسنده صحيح.
وسألته رحمه الله: ماذا إِذا طلّق ولم يُشهد؟
فأجاب: يكون معلّقاً؛ فإِن شاء أمضاه، وإلا ترك".
قلت: وأمّا قول عمران بن حصين رضي الله عنه: طلّقت لغير سُنّة، وراجعْت لغير سُنّة، أشهد على طلاقها وعلى رجْعتها ولا تعُد.
فقد أفاد أنّ من السّنّة النبوية الإِشهاد على الطلاق فقول الصحابي: من السّنّة له حُكم الرفع كما تقدّم، وهذا يبيّن أن الإِشهاد في الآية الكريمة:{وأشهدوا ذَوَي عدل منكم} يتضمّن الطلاق والرجعة والله -تعالى- أعلم.
وانقدح في نفسي أنه لو لم يقع طلاق ذاك الرجل بلا إِشهاد؛ لما قال له عمران رضي الله عنه: أشهد على طلاقها، ولا سيّما أنه راجع امرأته بل ينبغي أن يقول له: طلاقُك لم يقع لأنه بلا إِشهاد، ثمّ بدا لي أن قول عمران رضي الله عنه من باب التعليم وبيان القاعدة.
وهذه الصورة تختلف عن صورة عدم الإِشهاد على النكاح. فلو أنّ رجلاً حصل نكاحُه بلا شهود ثمّ طلّقها، فهذا يُقال له: ما بُني على فاسد فهو فاسد؛ وأصل النكاح لم يقع أصْلاً؛ لأن شروطه المطلوبة لم تتحقّق أو تكتمل.
وهل صورة الطلاق بلا إِشهاد؛ كرجل أعطى رجُلاً ديناً ولم يُشهد عليه، فهو عاصٍ دعاؤه لا يستجاب كما ثبت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم (1)، لكن لا يعني عدم الإِشهاد إِسقاط حقّه من مالٍ على الآخرين؟؟
(1) إِشارة إِلى قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة يدعون الله فلا يُستجاب لهم
…
ورجلٌ كان له على رجلٍ مالٌ فلم يُشهد عليه". أخرجه الحاكم والطحاوى في "مُشكل الآثار" وغيرهما وهو في "الصّحيحة" (1805).
أم أنّ الطلاق لا يتمّ إِلا بالإِشهاد؛ كما هو في حدّ القذف الذي لا يثبت إِلا بأربعة شهود؛ فإِن شهد شاهدان أو ثلاثة، فإِنّه يمضي فيهم قوله -تعالى-:{فإِذْ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون} (1) فأولئك عند الله هم الكاذبون ولو كانوا في أنفسهم صادقين فيما رأوا.
وجاء في كتاب "الجامع لأحكام الطلاق"(ص 161): "وعلى تقدير أن الأمر في الآية يقتضي الوجوب، فمخالفته لا تبطل أثر الطلاق ولا المراجعة، والدليل على ذلك: أن الله سبحانه وتعالى قد أمرنا في الطلاق باستقبال النساء في عدتهن في طهر لم يجامعها فيها زوجها، فلمّا خالف ابن عمر رضي الله عنهما هذا الأمر، وطلّق امرأته وهي حائض، أجازه النّبيّ صلى الله عليه وسلم عليه، فهو قد خالف الأمر الوارد في آية الطلاق، ولم يمنع هذا من أن تُحسب عليه طلقة، فكذلك هو الحال بالنسبة لمن خالف الأمر في الإِشهاد، والله أعلم.
قلت: ويؤيد هذا ما تقدّم من قول الإِمام البخاري رحمه الله في كتاب الطلاق: (باب قول الله -تعالى-: {يا أيّها النّبي إِذا طلَّقتم النّساء
…
}
…
وطلاق السّنّة أن يطلِّقها طاهراً من غير جماع، ويشهد شاهدَين).
ثمّ ذَكَر حديث ابن عمر رضي الله عنهما في قصة تطليقه امرأته وهي حائض.
فإِيقاع طلاق الحائض على بدعيته، إِيقاع للطلاق بلا إِشهاد على مخالفته للسّنّة، وإيرادهما تحت بابٍ واحد يُفهم هذا، لكن سيأتي عمّا قريب -إن شاء
(1) النور: 13.
الله تعالى- الإِجابة عن هذه المسألة.
وبعد أنْ أخذَت المسألة من تفكيري مأخَذَها، وبعد انهماك شديد في غالب وقتي، رأيتُ ما يأتي:
1 -
أنَّ استحلال الفُروج وتحريمها لا بدّ أنْ يخضع إِلى نُصوصٍ ثابتة، وكيفيَّةٍ شرعيَّة، وبِذا؛ فإِنّنا نُطالب بالدَّليل على إِيقاع الطَّلاق لِمَنْ لم يُشهِد.
وتحرير هذا؛ أنَّ أساس الخلاف هو: هل للإِنسان أنْ يُطلِّق كيفما اتَّفق أمْ أنَّ للطَّلاق أُصولاً وقواعد؟ وهل الأصل إِيقاع الطَّلاق بلا إِشهاد والمراد من الإِشهاد التوثيق ودفع التهمة والالتباس فحسب؟ أم الأصل إِيقاع الطَّلاق بالإِشهاد ولا يتمّ إِلا بذلك؟ وما الدَّليل على هذا وذاك؟ وما هو الأقرب للصواب؟
والذي بدا لي؛ أنَّ إِيقاع الطَّلاق يحتاج إِلى نصٍّ؛ فلا يكون إِلا بالإِشهاد، فالأصل عدم إِيقاع الطلاق إِلا على وجهٍ شرعيٍّ منصوصٍ عليه، وهذا إِنَّما يكون بنصٍّ من كتابٍ أو سنّة وما كان إِلى هذا أقرب؛ فهو أمثل.
2 -
وأنَّ أقرب شيءٍ إِلى الدّليل والنَّصّ الذي سَبق ذِكْرُه بما يتَّصِل بمسألتنا السَّابقة هو:
أوَّلاً: قوله -تعالى-: {فإِذا بَلَغْنَ أجَلَهُنَّ فأمْسِكوهُنَّ بِمعروف أو فارِقوهُنَّ بِمعروفٍ وأشْهِدوا ذَوَيْ عَدْلِ منكُم} ، وقد سبق قول ابن عباس رضي الله عنهما في تأويلها:"عند الطَّلاق وعند والمراجعة" وكذا قول عطاء في تأويلها: "لا يجوز في نكاحٍ ولا طلاق ولا إِرجاعٍ إِلا شاهدا عدلٍ، كما قال الله عز وجل؛ إلَاّ أنْ يكون من عُذرٍ". وقوله: "النِّكاح بالشُّهود، والطَّلاق بالشُّهود، والمراجعة بالشُّهود". وغير ذلك من الآثار المتقدِّمة.
وتقدّم قول العلَاّمة أحمد شاكر رحمه الله: "والظَّاهر من سياق الآيتين أنَّ قوله: {وأشهِدوا} راجِعٌ إِلى الطلاق وإلى الرّجعة معاً، والأمر للوجوب".
ثانياً: وأقرب شيء إِلى الدَّليل والنّص كذلك حديث عمران بن الحصين رضي الله عنه: "طلَّقتَ لغير سنّة، وراجعتَ لغير سنّة، أشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعُد" فقوله. طلَّقتَ لغير سنّة؛ دل على أنّ السنّة هو الإِشهاد، والبدعة عدم الإِشهاد، وقولُه: من السنّة في حُكْم المرفوع كما تقدّم، ولنا أنْ نقول بقول النّبي صلى الله عليه وسلم:"من عمِل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو ردٌّ"(1)، بمعنى: رُدَّ هذا الطلاق (2).
لكنّ إِمضاء طلاق ورجعة هذا الذي سُئل عنه عمران بن الحصين رضي الله عنه فهو من باب قول المفتي: "قُضِيَ الأمر" فحين يأتي شخصٌ يستفتي في الطَّلقة الثّالثة مثلاً، فيُفتي له عالمٌ بإِيقاعها وبينونة زوجته بينونْةً كُبرى، ثُمّ بعد مُدَّة تزوّجت من آخر، فليس للزَّوج المُطلِّق أن يطلُب إِلغاء النِّكاح الآخر؛ لتعود إِليه زوجته، لسببٍ يتعلَّق في الفتوى السَّابقة؛ ولِقَناعةٍ شرعيّةٍ ما تستند على نُصوص أخَذ بها عُلماء؛ لأنّ هذا يُفضي إِلى التّلاعب في النِّكاح والطلاق، بل في كثيرٍ من مسائل الدّين.
وهذا ما كان يقوله شيخنا رحمه الله كما تقدّم.
ومن هذا الباب ما رواه ابن أبي شيبة في "المصنّف"(4/ 196) برقم (19208): "وساق إِسناده إِلى الشعبي رحمه الله أنه سئل عن رجلٍ شهد
(1) تقدّم تخريجه.
(2)
وسيأتي -إِن شاء الله تعالى- ما يتعلَّق بإِيقاع طلاق الحائض مع بِدْعيَّته.
عليه رجلان بطلاق امرأته، ففرّق القاضي بينهما فرجع أحد الشاهدين وتزوجها الآخر قال: فقال الشعبي: مضى القضاء ولا يلتفت إِلى رجوع الذي رجع".
وبذا فمن رأى أنّه قد طلَّق، أو أُفْتيَ بالطلاق فقد وقع طلاقه لأنّ له قولاً من أهل العلم.
فأصل القاعدة التي يُستفاد منها من حديث عمران بن الحصين أنّ السنّة هو الإِشهاد وهذا من باب التّأصيل وبيان القاعدة؛ ولا بُدّ لنا أن نتأمّل قول عمران ابن الحصين رضي الله عنه فإِنه لم يقل: "طلقتَ لغير سُنّة وراجعت لغير سُنّة" وسكت، ولكنه قال:"أشهِد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعُد". فدلّ على عدم الجواز -والله أعلم-.
3 -
لقد عَهِدنا في الأبحاث الفقهية ذكر المشروعيّة مع الدليل على ذلك، فيقولون مثلاً: مشروعيّة الوضوء، مشروعيَّة الأذان، مشروعيّة الصيام
…
إِلخ.
فهل لقائلٍ أن يقول: مشروعيّة عدم الإِشهاد على الطلاق؟! علماً بأن المشروعيّة تمضي على الرّكن والواجب والمستحبّ.
4 -
أنّ الطلاق لا يقع إِلا بنيَّة وعَزْمٍ، وقد قال الله -تعالى-:{فإِنْ عَزَمُوا الطَّلاق} فما من شخصٍ طلب الإِشهاد على الطّلاق، إِلا ظهر إِنْ كان له عزمٌ في ذلك أم لا، إِذ هو بلا إِشهادٍ يُمضيه فيندم، ويقول: لا، والله ما أردته! ولا أدري كيف كان ذلك! أمَّا حين ينتظر وصول شاهدي عدلٍ، فتسكن نفسُه ويهدأُ فؤاده، وتذهب عنه الوساوس، وقد يُسهم الشَّاهدان في الإِصلاح، فلا يُطلِّق إِلا من أراد الطَّلاق حقَّاً وقل: لا يُطلِّق إِلا من عزم ذلك.
والعزم هو القوَّة والصَّبر على الأمر، والجدّ والقطعُ فيه؛ وقال القرطبي رحمه الله في قوله تعالى:{ولم نجد له عزماً} (1): قال ابن عباس وقتادة: لم نجد له صبراً عن أكل الشّجرة، ومواظبة على التزام الأمر، قال النّحاس: وكذلك هو في اللغة، يقال: لفلان عزمٌ أي: صبرٌ وثباتٌ على التّحفُّظ من المعاصي
…
وقال ابن كيسان: {ولم نجد له عزماً} : إِصراراً. وقال رحمه الله في قوله تعالى-: {وإِنْ عزموا الطَّلاق} (2) العزيمة: تتميم العقد على شيء
…
وعزمتُ عليكَ لتفعلنَّ: أي أقسمت عليك. قال شَمِر: العزيمة والعزم: ما عقدت عليه نفسك من أمرٍ أنّك فاعله. والطَّلاق: حلُّ عُقدة النِّكاح.
فتأمَّل -رحمني الله وإياك- معنى العزم وهل يتحقَّقُ في كثيرٍ ممن يُطلِقون كلمة "الطَّلاق" ولعلَّ هذا الإِشكالَ يزول بِشاهِدَيْ عدل.
5 -
وأمّا من قاس إِيقاع طلاق من لم يُشهد على إِيقاع طلاق الحائض -مع الخلاف المعروف فيه- فالجواب عليه؛ أنّ قياس الإِشهاد على الطلاق على إِشهاد النِّكاح أولى؛ لأنَّ موضوع الإِشهاد في النِّكاح والطلاق ألصق بالموضوع من بدعيَّة عدم الإِشهاد وطلاق الحائض، وجامع الإِشهاد في الموضوعَين أولى من جامع البدعيَّة فيهما، فتأمّل.
والأقرب إِلى الصَّواب في هذا الحال أن يُقال: كما أنّ النِّكاح لا يقع إِلا بشاهدي عدل، فالطَّلاق لا يقع إِلا كذلك، ولا سيَّما مع ورود نصوص في الإِشهاد -مع اختلاف الفهم فيها-.
(1) طه: 105.
(2)
البقرة: 227.
ومهما كان من خلاف في مسألة الإِشهاد على الطلاق، وسواءٌ قيل بِإِيقاعه أو عدمه، فإِنّ أقلَّ ما يُقال فيه الإِيجاب، وتأثيم من لم يُشهد؛ لقول عمران بن حُصَيْن رضي الله عنه: "طلَّقتَ لغير سُنَّة
…
أَشهد على طلاقها
…
" وكذلك أقوال السَّلف المتقدِّمة في تأويل الآية: {وأَشهِدوا ذَوَيْ عدلٍ منكم} .
وعليه: فلا يجوز لمن أراد الطلاق أنْ يُسارع به، اِلا بعد إِحضار شاهِدَي عدل (1)؛ وإلا فإِنّه يَحمِلُ يوم القيامة وِزْراً.
وختاماً: فمع ترجيحي عدم وقوع الطلاق إِلا بشاهدي عدل؛ فإِنّني أُحيلُ كُلَّ حالةٍ من هذه الحالات إِلى حكم القاضي العادل الذي لا تأخُذه في الله لومة لائم؛ ليحكم بما يلهمه الله في هذا الأمر.
وهذا ما بدا لي في هذه المسألة، فإِن أصبتُ فمن الله -تعالى-، وإن أخطأتُ فمنِّي ومن الشّيطان، والله -تعالى- أعلم بالصّواب.
(1) بِالإضافة إِلى الشُّروط المتقدمة في الطَّلاق السُّنِّي.