الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاثنتين في مرتين، فمن أوقع الاثنتين في مرّة؛ فهو مخالف لحُكمها" (1)،
هل يقع طلاق الثلاث جملةً أم يُحسب طلقة
؟
قال الله -تعالى-: {الطلاق مرّتان} .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إِن الناس قد استعجلوا في أمرٍ قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم"(2).
وجاء في "الفتاوى"(33/ 7): "وإن طلَّقها ثلَاثاً في طُهر واحد بكلمة واحدة أو كلمات؛ مِثل أن يقول. أنتِ طالق فلاناً، أو أنتِ طالق وطالق وطالق، أو أنت طالق، ثمّ طالق، ثم طالق. أو يقول: أنت طالق، ثمّ يقول: أنت طالق، ثمّ يقول: أنت طالق، أو يقول: أنت طالق ثلاثاً، أو عشر طلقات أو مائة طلقة، أو ألف طلقة ونحو ذلك من العبارات: فهذا للعلماء من السلف والخلف فيه ثلاثة أقوال، سواء كانت مدخولاً بها أو غير مدخول بها، وكما السلف من فرّق ببن المدخول بها وغير المدخول بها، وفيه قول رابع محدث مبتدع.
أحدها: أنه طلاقٌ مباح لازم، وهو قول الشافعي، وأحمد في الرواية القديمة عنه: اختارها الخرقي.
(1) انظر "أحكام القرآن" وذكَره العلامة أحمد شاكر رحمه الله في "نظام الطلاق في الإِسلام"(ص 12).
(2)
أخرجه مسلم: 1472.
الثاني: أنه طلاقٌ مُحرَّم لازم وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وأحمد في الرواية المتأخرة عنه، اختارها أكثر أصحابه، وهذا القول منقول عن كثير من السلف من الصحابة والتابعين، والذي قبله منقول عن بعضهم.
الثالث: أنه مُحرَّم، ولا يلزم منه إِلا طلقة واحدة، وهذا القول منقول عن طائفة من السلف والخلف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مِثل الزبير بن العوَّام، وعبد الرحمن بن عوف، ويروى عن علي وابن مسعود وابن عباس القولان؛ وهو قول كثير من التابعين ومن بعدهم: مِثل طاوس وخلاس بن عمرو، ومحمد بن إِسحاق وهو قول داود وأكثر أصحابه؛ ويروى ذلك عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين وابنه جعفر بن محمد، ولهذا ذهب إِلى ذلك من ذهب من الشيعة، وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد بن حنبل.
وأمّا القول الرابع الذي قاله بعض المعتزلة والشيعة فلا يعرف عن أحد من السلف، وهو أنه لا يلزمه شيء.
والقول الثالث هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة؛ فإِنَّ كلَّ طلاق شرَعَه الله في القرآن في المدخول بها إِنما هو الطلاق الرجعي؛ لم يشرع الله لأحد أن يُطلِّق الثلاث جميعاً، ولم يشرع له أن يطلق المدخول بها طلاقاً بائناً، ولكن إِذا طلقها قبل الدخول بها بانت منه، فإِذا انقضت عدتها بانت منه".
وفيه (33/ 92): "وليس في الأدلة الشرعية: الكتاب والسنة والإِجماع والقياس ما يوجب لزوم الثلاث له، ونكاحه ثابت بيقين، وامرأته مُحرَّمة على الغير بيقين، وفي إِلزامه بالثلاث إِباحتها للغير مع تحريمها عليه وذريعة إِلى نكاح
التحليل الذي حرَّمه الله ورسوله.
و"نكاح التحليل" لم يكن ظاهراً على عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم وخلفائه. ولم يُنقل قط أنّ امرأة أُعيدت بعد الطلقة الثالثة على عهدهم إِلى زوجها بنكاح تحليل؛ بل "لعَن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له"(1).
وفيه (32/ 310): "
…
وكما قال طائفة من السلف فيمن طلّق ثلاثاً بكلمة: هو جاهلٌ بالسُّنة؛ فيُردّ إِلى السُّنة".
وفيه (32/ 312): "وذِكر كلام الناس على "الإِلزام بالثلاث": هل فعَله مَن فَعَلَه من الصحابة لأنه شرع لازم من النّبيّ صلى الله عليه وسلم؟ أو فعله عقوبة ظهور المنكر وكثرته؟ وإِذا قيل: هو عقوبة: فهل موجبها دائم لا يرتفع؟ أو يختلف باختلاف الأحوال؟ وبين أن هذا لا يجوز أن يكون شرعاً لازماً، ولا عقوبة اجتهادية لازمة؛ بل غايته أنه اجتهاد سايغ مرجوح، أو عقوبة عارضة شرعية، والعقوبة إِنما تكون لمن أقدم عليها عالماً بالتحريم. فأمّا من لم يعلم بالتحريم، ولمَّا علمَه تاب منه؛ فلا يستحق العقوبة، فلا يجوز إِلزام هذا بالثلاث المجموعة؛ بل إِنما يلزم واحدة، وهذا إِذا كان الطلاق بغير عِوَض فأمّا إذا كان بعوض فهو فدية".
وقال ابن القيّم رحمه الله في "إِعلام الموقعين"(3/ 47): "والمقصود أنّ هذا القول (2) قد دلّ عليه الكتاب والسّنة والقياس والإِجماع القديم، ولم يأت
(1) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه"(1570)، والترمذي وغيرهما، وانظر "الإِرواء"(1897)، وتقدّم.
(2)
يعني أنّ الثلاث تقع واحدة.
بعده إِجماع يبطله، ولكن رأى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنّ الناس قد استهانوا بأمر الطلاق، وكثُر منهم إِيقاعه جملة واحدة؛ فرأى من المصلحة عقوبتهم بإِمضائه عليهم؛ ليعلموا أنّ أحَدَهم إِذا أوقعه جملةً؛ بانت منه المرأة، وحرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره نكاح رغبة؛ يراد للدوام لا نكاح تحليل، فإِنه كان من أشد الناس فيه، فإِذا علموا ذلك كَفُّوا عن الطلاق المحرّم، فرأى عمر أنّ هذا مصلحة لهم في زمانه، ورأى أنّ ما كانوا عليه في عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعهد الصِّدِّيق وصدراً من خلافته كان الأليق بهم؛ لأنهم لم يتتابعوا فيه، وكانوا يتَّقون الله في الطلاق، وقد جعل الله لكل من اتقاه مخرجاً، فلما تركوا تقوى الله وتلاعبوا بكتاب الله وطلّقوا على غير ما شرعه الله ألزمهم بما التزموه عقوبةَ لهم؛ فإِنّ الله -تعالى- إِنّما شرع الطلاق مرة بعد مرة، ولم يشرعه كله مرة واحدة، فمن جمع الثلاث في مرة واحدة فقد تعدّى حدود الله، وظلم نفسه، ولعب بكتاب الله، فهو حقيق أن يُعاقب، ويُلْزَمَ بما التزمه، ولا يُقرّ على رخصهّ الله وسعَتِه، وقد صعَّبها على نفسه، ولم يتق الله ولم يُطلِّق كما أمَره الله وشرع له، بل استعجل فيما جعل الله له الأناة فيه رحمة منه وإحساناً، ولبّس على نفسه، واختار الأغلظ والأشد؛ فهذا مما تغيرت به الفتوى لتغير الزمان، وعلم الصحابة رضي الله عنهم حُسن سياسة عمر وتأديبه لرعيته في ذلك فوافقوه على ما ألزم به، وصرحوا لمن استفتاهم بذلك
…
" (1).
وأما فتاوى بعض الصَّحابة رضي الله عنهم التي نصّت على إِيقاع من طلّق ثلاثاً في مجلسٍ واحد ووقوعه ثلاثاً؛ ففيها آثار ثابتة.
(1) وانظر ما قاله العلامة ابن القيّم رحمه الله كذلك في "زاد المعاد"(5/ 241).
فعن مجاهد قال: "جلست عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إِنه طلق امرأته ثلاثاً فسكت حتى ظننت أنه رادّها إليه ثمّ قال: ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة ثمّ يقول: يا ابن عباس، وإنَّ الله قال: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً} (1) وإِنك لم تتق الله، فلم أجد لك مخرجاً؛ عصيت ربك فبانت منك امرأتك".
وفي زيادة: "وإِنّ الله قال: {يا أيها النّبيّ إِذا طلقتم النساء فطلقوهنّ} في قبل عدتهن"(2).
وعن مجاهد أيضاً: "أنّ ابن عباس سُئِلَ عن رجل طلق امرأته مائة، فقال: عصيت ربك وفارقْتَ امرأتك".
وفي زيادة: "لم تتق الله فيجعل لك مخرجاً"(3).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما " أنّ رجلاً طلَّق امرأته ألفاً قال: يكفيك من ذلك ثلاث".
وفي زيادة: "وتدَع تسعمائة وسبعاً وتسعين"(4).
(1) الطلاق: 2.
(2)
أخرجه أبو داود ومن طريقه البيهقي والزيادة له، وصححه شيخنا رحمه الله في "الإرواء"(2055).
(3)
أخرجه الدارقطني والطحاوي والبيهقى والزيادة له، وصححه شيخنا رحمه الله في "الإِرواء"(2056).
(4)
أخرجه الدارقطني والبيهقي والزيادة له، وصححه شيخنا رحمه الله في "الإِرواء"(2057).
وعن سعيد بن جبير قال: "جاء رجل إِلى ابن عباس فقال: إِني طلقت امرأتي ألفاً؟ قال: أمّا ثلاث فتحرم عليك امرأتك، وبقيتهن وزر. اتَّخذْتَ آيات الله هزواً"(1). انتهى.
قلت: وهذه الآثار في إِيقاع بعض الصحابة رضي الله عنهم الطَّلاق جملة واحدة؛ إِنما كانت اجتهاداً في إِمضاء العقوبة، كيلا تفشو وتشيع في النّاس، فإِيقاعها على عدد قليل تأديباً وتربية يعيد واقع الناس إِلى ما كان عليه النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وأوَّل خلافة: عمر رضي الله عنهما.
وحديث النّبيّ صلى الله عليه وسلم هو المقدَّم. فلا تقع هذه الألفاظ، ومع ذلك فقد ثبتَ عن ابن عباس رضي الله عنهما:"أن الرجل إِذا قال: أنت طالقٌ ثلاثاً بفم واحد فهي واحدة".
جاء في "الإِرواء"(7/ 121): "قال أبو داود: وروى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس: "إِذا قال: أنت طالق ثلاثاً بفم واحد، فهي واحدة".
ورواه إِسماعيل بن إِبراهيم عن أيوب عن عكرمة هذا قوله، لم يذكر ابن عباس، وجعله قول عكرمة".
ثمّ قال أبو داود:
"وقول ابن عباس هو أن الطلاق الثلاث تبين من زوجها مدخولاً بها وغير مدخول بها، لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، هذا مثل خبر الصرف قال فيه،
(1) أخرجه الطحاوي والدارقطني وابن أبي شيبة، وصححه شيخنا رحمه الله في "الإرواء"(7/ 123).
ثمّ إِنه رجع عنه. يعني ابن عباس".
ثمّ ساق أبو داود بإِسناده الصحيح عن طاوس:
"أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم أنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وثلاثاً من إِمارة عمر؟ قال ابن عباس: نعم".
وأخرجه مسلم في "صحيحه" والنسائي وأحمد وغيرهم.
قال شيخنا رحمه الله: "وخلاصة كلام أبي داود أنّ ابن عباس رضي الله عنه كان له في هذه المسألة وهي الطلاق بلفظ ثلاث قولان:
أحدهما: وقوع الطلاق بلفظ ثلاث، وعليه أكثر الروايات عنه.
والآخر: عدم وقوعه كما في رواية عكرمة عنه، وهي صحيحة.
وهي وإنْ كان أكثر الطرق عنه بخلافها، فإِنَّ حديث طاوس عنه المرفوع يشهد لها. فالأخذ بها هو الواجب عندنا، لهذا الحديث الصحيح الثابت عنه من غير طريق، وإنْ خالفه الجماهير، فقد انتصر له شيخ الإِسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيّم وغيرهما، فمن شاء تفصيل القول في ذلك، فليرجع إِلى كتبهما، ففيها الشفاء والكفاية -إِن شاء الله تعالى-". انتهى.
قال العلامة أحمد شاكر رحمه الله عقب حديث ابن عباس رضي الله عنهما بحذف وتصرّف يسير-: "وهذا الحديث أصل جليل من أصول التشريع في الطلاق والبحث فيه من مزالق الأقدام، فإِنه يصادم كثيراً مما يذهب إِليه جمهور العلماء وعامة الدّهماء في الطلاق. وقديماً كان موضع نزاع وخلاف واضطراب، ولشيخ الإِسلام ابن تيمية ثمّ تلميذه الإِمام ابن القيّم الباعُ
الطويل في شرحه والكلام عليه، ونصرة القول بوقوع الطلاق الثلاث طلقة واحدة فقط، كما هو معروف مشهور.
وأول ما نبحث فيه أن نحدد موضع الخلاف بين القائلين بوقوع الطلقات الثلاث مجموعة وبين القائلين وقوعها طلقة واحدة.
فالذي يظنه كل الناس، والذي يفهم من أقوال جمهور من تعرضوا لهذا البحث من العلماء: أنهم يريدون بالطلاق الثلاث لفظ (طالق ثلاثاً) وما في معناه، أي: لفظ الطلاق موصوفاً بعدد لفظاً أو إِشارة أو نحو ذلك. ويعتبرون أنَّ الخلاف بين المتقدمين في وقوع الطلاق الثلاث أو عدم وقوعه؛ إِنما هو في هذه الكلمة وما في معناها، بل ويحملون كل ما ورد في الأحاديث والأخبار من التعبير عن إِيقاع طلقات ثلاث على أنه قول المطلِّق:(طالق ثلاثاً).
وكل هذا خطأ صرف، وانتقال نظر غريب، وقلبٌ للأوضاع العربية في الكلام، وعدول عن استعمالٍ صحيحٍ مفهومٍ إِلى استعمال باطل غير مفهوم.
ثمّ تغالوا في ذلك حتى قال قائلهم: إِذا خاطب أمرأته بلفظ من ألفاظ الطلاق، كقوله: أنت طالق أو بائن أو بَتّةٌ أو ما أشبهها ونوى طلقتين أو ثلاثاً وقع، فجعلوا النية تقوم مقام العدد اللفظي.
ووجه الخطأ في ذلك: أن العقود كالبيع والنكاح، والفسوخ كالإِقالة والطلاق: حقائق معنوية، لا وجود لها في الخارج إِلا بإِيجادها بالدلالة عليها بالألفاظ التي وُضِعت لها، في العرف اللغوي في الجاهلية، ثمّ العرف الشرعي
في الإِسلام، كقوله: بعت ونكحت وأقَلْت وطلّقْت.
فهذه الحقائق توجد عند النطق بالألفاظ الموضوعة لها بشروطها، فقول القائل. أنت طالق يوجد به حين القول حقيقة معنوية (واقعيَّة: هي الطَّلاق، أو هي فسخٌ وإنْهاءٌ لعقد الزَّواج الذي بينهما) بصفة خاصة لها أحكام معينة، ووصفُهُ بعد ذلك هذا الفعل بالعدد (مرتين) أو (ثلاثاً) وصْفٌ باطل غير صحيح، وهو لغو من القول، إِذ إنَّ قوله:(ثلاثاً) -مثلاً- صفة لمفعول مطلق محذوف، هو مصدر الفعل، وهو (طلاقاً) وهذا المصدر هو الذي تحققت به الحقيقة المعنوية عند النطق بقوله:(أنت طالق)، وتحقُّقُها بهذا المصدر إِنما يكون مرة واحدة ضرورة، ولا تتحقق مرة أخرى إِلا بِنُطق آخر مثل سابقه، أي يقصد به الإِنشاء والإِيجاد (1).
وأمَّا وصف المصدر بأنه مرتان أو ثلاث لا تتحقق به حقيقة جديدة، لأن الإِنشاء إِنما يكون في الحال -أعني حال النُّطق- ولا يكون ماضياً ولا مستقبلاً، والتكرار يستدعي زمناً آخر للثاني ثمّ الثالث، فلا يكون زمنها كلها حالاً، إِذ أنه محال عقلاً.
وهكدا الشأن في نظائره، فلا يسوغ لك أن تقول:(بعت ثلاثاً) على معنى القصد إِلى إِيجاد عقد البيع وإنشائه، وكذلك في الجمل الإِنشائية الصرفة، لا يسوغ أن تقول:(سبحان الله ثلاثاً) -أعني هذه الجملة كما هي
(1) وقال رحمه الله في التعليق: ولذلك قالوا: لو قال لزوجته: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، فإِن نوى إِنشاء الطلاق بكل واحدة كان ثلاث طلقات -عندهم- وإن نوى التأكيد بالجملتين الأخريين وقع واحدة فقط.
لأنك تقصد بها إِلى تسبيح الله -تعالى- فاللفظ بها تنزيه وتسبيح مرة واحدة، فصار قولك:(ثلاثاً) لغواً لا يتسق مع صواب القول في الوجه العربي.
وأمّا قول القائل: (اضرب ثلاثاً) فإِنه نوع آخر، وذلك أنه إِنشاء للأمر -بالضرب- مرة واحدة أيضاً، وهو المعنى الوضعي لفعل الأمر، وكلمة (ثلاثاً) وصف أيضاً للمصدر المضمر في الفعل، أعني (ضرباً)، وهو الذي قد يحصل في المستقبل طاعة لمدلول صيغة الإِنشاء، وقد لا يحصل عند العصيان، وليس هو -أي المصدر- مدلول الصيغة؛ لأنه قد لا يحصل إِذا خالف المأمور الأمر فلم يفعل ما أمَره به، مع أن مدلول الصيغة قد تم وتحقق، وهو حصول الأمر من الأمر بخلاف أنواع الإِنشاء -اللفظي أو المعنوي- التي يكون مدلولها حقيقة لا تتحقق ولا توجد إِلا بنفس النطق بها وحده، فلا يمكن تكرار المدلول إِلا بتكرار اللفظ الدال عليه.
ونظائر ذلك في الشريعة كثير. فإِنّ الملاعِن أُمِر بأن يقول أربع مرات: (أشهد بالله إِني لمن الصادقين) فلا بد لطاعة الأمر من أن يقول هذه الجملة مراراً أربعة مكررة في اللفظ.
أمّا إِذا قال: (أشهد بالله أربع مرات إِني لمن الصادقين) لكان قوله معدوداً مرة واحدة، وبقي عليه ثلاث. لا أقول: إِن هذا إِجماع -وهو إِجماع فعلاً-؛ ولكن أقول: إِنه بالبداهة التي لا يقبل في العقل غيرها، ولا يتصور أحد سواها.
قال ابن القيّم -رحمه الله تعالى- في "إِعلام الموقعين"(3/ 27) -بعد أنْ ذكَر أن الله -تعالى- جعل الطلاق مرة بعد مرة-: وما كان مرة بعد مرّة لم يملك
المكلف إِيقاع مرَّاته جملة واحدة، كاللعان [وذكر الكلام السابق] ولو حَلَف في القسامة وقال: أقسم بالله خمسين يميناً أنّ هذا قاتِلُه؛ كان ذلك يميناً واحدة. ولو قال المقِرُّ بالزنى: أنا أقر أربع مرات أني زنيت؛ كان مرة واحدة، فمن يعتبر الأربع لا يجعل ذلك إِلا إِقراراً واحداً (1).
وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: "من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرّة حُطّت عنه خطاياه وإن كانت مِثل زبد البحر (2) ". فلو قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة؛ لم يحصل له هذا الثواب حتى يقولها مرة بعد مرة
…
وكذلك قوله: "من قال: لا إِله إِلا الله وحده لا شريك له؛ له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير في يوم مائة مرة
…
وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي (3)". لا يحصل هذا إِلا مرة بعد مرة. وهكذا قوله: {يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحُلُمَ منكم ثلاث مرات} (4) وهكذا قوله في الحديث: "الاستئذان ثلاث مرّات فإِن أُذن لك وإلا فارجع" لو قال الرجل ثلاث مرات هكذا؛ كانت مرة واحدة، حتى يستأذن مرة بعد مرة (5).
…
[إِنَّ] قول القائل: "أنت طالق ثلاثاً" ونحوه -أعني إِيقاع الطلاق
(1) وتقدّم هذا في الطلاق السنّي والبدعي.
(2)
أخرجه البخاري: 6405، ومسلم:2691.
(3)
أخرجه البخاري: 3293، ومسلم:2691.
(4)
النور: 58.
(5)
وانظر ما قاله العلامة ابن القيّم رحمه الله في "الزاد"(5/ 244) وذكرته في "الطلاق السني والبدعي".
وإنشاءه بلفظ واحد موصوف بعدد- لا يكون في دلالة الألفاظ على المعاني لغة وفي بديهة العقل إلَاّ طلقة واحدة، وأن قوله:(ثلاثاً) في الإِنشاء والإِيقاع، قول محال عقلاً، باطل لغة، فصار لغواً من الكلام، لا دلالة له على شيء في تركيب الجملة التي وضع فيها، وإنْ دلّ في نفسه على معناه الوضعي دلالة الألفاظ المفردة على معانيها. كما إِذا ألحق المتكلم بأية جملة صحيحة كلمة لا تعلُّق لها بالكلام، فلا تزيد على أن تكون لغواً باطلاً.
[وكذلك] الخلاف بين التابعين فمن بعدهم في الطلاق الثلاث ونحوه، إِنما هو في تكرار الطلاق. أعني: أن يطلق الرجل امرأته مرّة ثمّ يطلقها مرة أخرى ثمّ ثالثة؛ وأعني أيضاً: أن موضوع الخلاف هو: هل المعتدة يلحقها الطلاق؟ أي: إِذا طلقها المرة الأولى فصارت معتدة، ثمّ طلقها طلقةً ثانية في العدة؛ هل تكون طلقة واقعة ويكون قد طلقها طلقتين؛ فإِذا ألحق بهما الثالثة وهي معتدة من الأولى؛ هل تكون طلقة واقعة أيضاً ويكون قد أوقع جميع الطلقات التي له عليها وأبانها وبتّ طلاقها؟ أو أنّ المعتدة لا يلحقها الطلاق؟ فإِذا طلَّقها الطلقة الأولى كانت مطلقة منه، وهي في عدته، لا يملك عليها إلَاّ ما أَذِنه به الله:{فإِمساك بمعروف أو تسريح بإِحسان} (1) إِن ندم على الفراق راجعها فأمسكها، وإِنْ أصرّ على الطلاق فليدعْها حتى تنقضي عدتها، ثمّ يسرِّحها بإِحسان من غير مُضارّة، ثمّ هو بالنسبة إليها بعد ذلك إِنْ رغب في عودتها كغيره من الرجال: خاطِبٌ من الخٌطَّاب؟
هذا هو موضع الخلاف على التحقيق، وأمّا كلمة (أنت طالق ثلاثاً)
(1) البقرة: 229.
ونحوها فإِنما هي مُحال، وإِنما هي تلاعب بالألفاظ، بل هي تلاعُب بالعقول والأفهام!! ولا يعقل أن تكون موضع خلاف بين الأئمة من التابعين فمن بعدهم.
وقال رحمه الله (ص 37) في التعليق: "وأما الأحاديث التي تجد فيها أن فلاناً أو رجلاً طلّق زوجته ثلاثاً: فإنما هي إخبار، أي أن الراوى يحكي عن المطلق ويخبر عنه أنه طلق ثلاثاً، فهذا إِخبار صادق، لأنه يحكي عن غيره أو عن نفسه أنه أوقع ثلاث تطليقات إِنشاءً لكل واحدة منها، كما تحكي عن نفسك أو عن غيرك، فتقول: صلى أربع ركعات، وسبح مائة تسبيحة، وهكذا
…
(1) انتهى.
وبعد: فإِذ قد تحققنا أن التطليق بلفظ: (أنت طالق ثلاثاً) ونحوه إِنما هو تطليق واحد قطعاً، وأنه ليس مما اختلف في وقوعه ثلاثاً أو واحدة: فلنرجع إِلى الخلاف في وقوع الطلاق الثلاث، أو بتعبير أدق: هل يقع طلاق آخر على المعتدة؟
ثمّ ذكَر حديث ابن عباس رضي الله عنه في تطليق ركانة بن عبد يزيد -أخي بني مطلب- امرأته ثلاثاً في مجلس واحد. وقد اختلف فى إِسناده ولفظه، وللعلماء فيه أقوال (2).
(1) يريد العلامة أحمد شاكر رحمه الله أنه طلّق زوجته ثلاثاً بالشروط المعروفة؛ لا أنه طلّق الثلاث مجموعة مرّة واحدة.
(2)
انظر "الفتاوى"(32/ 311) وتفصيل العلَاّمة أحمد شاكر رحمه الله في كتابه المشار إِليه (ص 27 - 38) وتخريج شيخنا رحمه الله في "الإرواء"(2063).
[وبعد إِفاضة وتفصيل من شيخنا رحمه الله ونقولات كثيرة للعلماء في "الإِرواء" تحت الحديث (2063) ذكَر حديث ابن عباس رضي الله عنهما وقال: "
…
هذا الإِسناد صححه الإِمام أحمد والحاكم والذهبي وحسنه الترمذي في متن آخر تقدّم برقم (1921)، وذكرنا هناك اختلاف العلماء في داود بن الحصين وأنه حجة في غير عكرمة، ولولا ذلك لكان إسناد الحديث لذاته قوياً، ولكن ذلك لا يمنع من الاعتبار بحديثه والاستشهاد بمتابعته لبعض بني رافع، فلا أقل من أن يكون الحديث حسناً بمجموع الطريقين عن عكرمة، ومالَ ابن القيّم إِلى تصحيحه وذكر أن الحاكم رواه في "مستدركه" وقال: إِسناده صحيح، ولم أره في "المستدرك" لا في "الطلاق" منه، ولا في "الفضائل" والله أعلم، وقال ابن تيمية في "الفتاوى" (3/ 18):"وهذا إِسناد جيد". وكلام الحافظ ابن حجر في "الفتح"(9/ 316) يشعر بإِنه يرجح صحته أيضاً
…
"].
وفي "صحيح سنن أبي داود"(1922): عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: "طلّق عبد يزيد -أبو ركانة وإِخوته- أم ركانة، ونكح امرأة من مزينة، فجاءت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت: ما يُغني عني، إِلا كما تغني هذه الشعرة -لشعرة أخذتها من رأسها- ففرّق بيني وبينه، فأخذت النّبي صلى الله عليه وسلم حَمِيَّةٌ، فدعا بِركانة وإِخوته، ثمّ قال لجلسائه: أترون فلاناً يشبه منه كذا وكذا -من عبد يزيد-، وفلاناً يشبه منه كذا وكذا؟ قالوا: نعم! قال النّبي صلى الله عليه وسلم لعبد يزيد: طلقها ففعل، ثمّ قال: راجع امرأتك أم ركانة وإخوته، قال: إِني طلقتها ثلاثاً يا رسول الله، قال: قد علمت، راجعها وتلا: {يا أيها النّبيّ إِذا طلقتم النساء فطلقوهنّ لعدتهنّ} ".
قال أبو داود: وحديث نافع بن عجير، وعبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده: أن ركانة طلق امرأته البتة فردها إِليه النّبيّ صلى الله عليه وسلم: أصح؛ لأن ولد الرجل وأهله أعلم به: إِنّ ركانة إِنما طلق امرأته البتة فجعلها النّبيّ صلى الله عليه وسلم واحدة". انتهى.
واستأنف العلامة أحمد شاكر رحمه الله كلامه قائلاً: "وقال ابن عباس أيضاً: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إِنّ النّاس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم؟ فأمضاه عليهم"(1).
وفي رواية في "صحيح مسلم"(1472) عن طاوس: "أنّ أبا الصّهباء قال لابن عباس: هات من هَناتِك (2)، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر واحدة؟ فقال: قد كان ذلك، فلمّا كان في عهد عمر تتايع (3) النّاس في الطلاق فأجازه عليهم".
وفي رواية "لمسلم"(1472) أيضاً عن طاوس: أنّ أبا الصهباء قال لابن عباس: "أتعلم أنما كانت الثلاث تُجعل واحدة على عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وثلاثاً من إِمارة عمر؟ فقال ابن عباس: نعم".
(1) أخرجه مسلم: 1472. وتقدَّم.
(2)
هَناتِك أي: أخبارك وأمورك المستغربة. "نووي".
(3)
بالياء المثناة التحتية قبل العين، كما نص عليه النووي في "شرح مسلم"، وهو بمعنى "تتابع" بالباء الموحدة، ولكنه بالمثناة إنما يستعمل في الشر فقط، قال النووي:(وهو بالمثناة أجود).
وفي رواية في "المستدرك" للحاكم (2/ 196) عن ابن أبي مليكة أن أبا الجوزاء أتى ابن عباس فقال: أتعلم أن ثلاثاً كن يُرْدَدْنَ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى واحدة؟ قال: نعم. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإِسناد. وفي إِسناده عبد الله بن المؤمل، تَكلَّم فيه بعضهم، والحق أنه ثقة.
وفي رواية عند الطحاوي في "معاني الآثار"(2/ 32) بإِسناد صحيح من طريق طاوس، قال ابن عباس:"فلما كان زمان عمر رضي الله عنه قال: أيها الناس، قد كانت لكم في الطلاق أناة، وإنه من تعجّل أناة الله في الطلاق ألزمناه إِياه".
فهذه الأحاديث تدل على أن إِيقاع طلقات ثلاث في مجلس واحد أو مجالس متعددة كان يُرَدُّ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى طلقة واحدة
…
وهي موافقة لنظم القرآن ورسْمه في الطلاق. لأن الله سبحانه وتعالى شرع في طلاق غير المدخول بها أنها تبين بنفس الطلاق وليس للمطلق عليها عدة تعتدها، فبمجرد أن نطق بالطلاق وأنشأه بانت منه، فلا يمكنه أن يكرر طلاقها مرة أخرى إِلا أن يتزوجها بعقد جديد.
وشرع في طلاق المدخول بها أنها تطلق مرتين، وفي كل مرة إما إِمساك بمعروف وإِمّا تسريح بإِحسان، ثمّ تبين منه في الثالثة، وعليها العدة، ولا يجوز له أن يراجعها فيتزوجها إِلا بعد زوج آخر.
وقد قال حُجّة الإِسلام الجصاص في "أحكام القرآن"(1/ 380): "إِن الله -تعالى- لم يُبحِ الطلاق ابتداءً لمن تجب عليها العدة إِلا مقروناً بِذكر الرجعة. منها قوله -تعالى-: {الطلاق مرتان فإِمساك بمعروف} (1) وقوله -تعالى-:
(1) البقرة: 229.
{والمُطلقات يتربصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء} (1)، وقال -تعالى-:{وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهنّ فأمسكوهنّ بمعروف أو سرّحوهنّ بمعروف} (2) أي: فارقوهن بمعروف.
فلم يبح الطلاق المبتدأ لذوات العدد إِلا مقروناً بذكر الرجعة.
وليس المقصود من الطلاق اللعب واللهو، حتى يزعم الرجل لنفسه أنه يملك الطلاق كما شاء، وكيف شاء، ومتى شاء، وأنه إِن شاء أبان المرأة بتة، وإنْ شاء جعلها معتدة يملك عليها الرجعة.
كلا ثمّ كلا، بل هو تشريع منظم دقيق من لدنْ حكيم عليم شرَعَه الله لعباده ترفيهاً لهم ورحمة بهم، وعلاجاً شافياً لما يكون في الأسرة بين الزوجين من شقاق وضِرار، ورسَم قواعده وحدَّ حدوده بميزان العدالة الصحيحة التامّة ونهى عن تجاوُزِها، وتَوعّد على ذلك. ولهذا تجد في آيات الطلاق تكرار ذِكر حدود الله، والنهي عن تعدِّيها وعن المضارة:
{تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعدّ حدود الله فأولئك هم الظالمون} (3){وتلك حدود الله يبيّنها لقوم يعلمون} (4) {ولا تمسكوهنّ ضراراً لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله
(1) البقرة: 228.
(2)
البقرة: 231.
(3)
البقرة: 229.
(4)
البقرة: 230.
هُزُواً} (1){واعلموا أنّ الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه} (2)
…
". انتهى (3).
وسألت شيخنا رحمه الله عمَّن طلَّق أكثر من طلقة في عدَّة واحدة فأجاب: إِذا جمع الثَّلاث في عدَّة واحدة فإِنَّها تحسب طلقة واحدة، ثمَّ قال رحمه الله: لا يجوز جمع الثَّلاث في عدَّة واحدة.
وقال شيخنا رحمه الله في "السلسلة الضعيفة"(3/ 272 - 273) تحت الحديث (1134) بعد أن ساق حديث مسلم: "كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر ابن الخطاب: إِنّ الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم".
وهو نص لا يقبل الجدل على أن هذا الطلاق حُكْم مُحكَمٌ ثابت غير منسوخ لجريان العمل عليه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر، وأول خلافة عمر، ولأن عمر رضي الله عنه لم يخالفه بنص آخر عنده بل باجتهاد منه ولذلك تردَّد قليلاً أوّل الأمر في مخالفته كما يشعر بذلك قوله: "إِن الناس قد استعجلوا
…
فلو أمضيناه عليهم .. "، فهل يجوز للحاكم مثل هذا التساؤل
(1) البقرة: 231.
(2)
البقرة: 235.
(3)
وانظر للمزيد -إِن شئت- "الروضة الندية"(أقوال العلماء في وقوع الطلاق الثلاث في مجلس واحد) ففيه كلام قويّ وكتاب "الاستئناس"(ص 39) للعلامة القاسمي رحمه الله بعنوان (من ذهب إِلى أنّ جمْع الثلاث جملةً يحسب طلقة).
والتردد لو كان عنده نص بذلك؟!
وأيضاً، فإِن قوله:"قد استعجلوا" يدل على أن الاستعجال حدث بعد أن لم يكن، فرأى الخليفة الراشد أن يمضيه عليهم ثلاثاً من باب التعزير لهم والتأديب، فهل يجوز مع هذا كله أن يترك الحكم المحكم الذي أجمع عليه المسلمون في خلافة أبي بكر وأول خلافة عمر، من أجل رأيٍ بدا لعمر واجتهد فيه، فيؤخذ باجتهاده، ويترك حكمه الذي حكم هو به أول خلافته تبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر؟!
اللهم إِن هذا لمن عجائب ما وقع في الفقه الإِسلامي، فرجوعاً إِلى السنة المحكمة أيها العلماء، لا سيما وقد كثرت حوادث الطلاق في هذا الزمن كثرة مدهشة تنذر بِشرٍّ مستطير تصاب به مئات العائلات.
وأنَا حين أكتب هذا أعلم أن بعض البلاد الإِسلامية كمصر وسوريا قد أدخَلت هذا الحكم في محاكمها الشرعية، ولكن من المؤسف أن أقول: إِن الذين أدخلوا ذلك من الفقهاء القانونيين لم يكن ذلك منهم بدافع إِحياء السنة، وإِنما تقليداً منهم لرأي ابن تيميَّة رحمه الله الموافق لهذا الحديث، أي إِنهم أخذوا برأيه لا لأنه مدعم بالحديث، بل لأن المصلحة اقتضت الأخذ به زعموا، ولذلك فإِنَّ جلّ هؤلاء الفقهاء لا يُدَعِّمون أقوالهم واختياراتهم التي يختارونها اليوم بالسنة، لأنهم لا عِلم لهم بها، بل قد استغنوا عن ذلك بالاعتماد على آرائهم، التي بها يحكمون، وإليها يرجعون في تقدير المصلحة التي بها يستجيزون لأنفسهم أن يغيروا الحكم الذي كانوا بالأمس القريب به يدينون الله -تعالى- كمسألة الطلاق هذه.