الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجملة وحده قدر جزؤها الآخر، كما في قوله تعالى:{من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} [16: 106]، إذا جعلت (من) مبتدأ في {من كفر} فلابد من تقدير الخبر، سواء كانت (من) موصولة أو شرطية، أي فعليهم غضب من الله، قال أبو حيان في البحر 5: 540: «والذي تقتضيه فصاحة الكلام جعل الجمل كلها مستقلة، لا ترتبط بما قبلها من حيث الإعراب، بل من حيث المعنى» .
وأجاز الزمخشري وأبو البقاء أن تكون (من) بدلا مما قبلها، الكشاف [2: 245]، العكبري [2: 40].
الاستثناء المفرغ
يرى النحويون أن الاستثناء المفرغ لا يأتي بعد الإيجاب، وإنما اشترطوا له تقدم نفي أو شبهه، وعللوا ذلك بأن وقوع المفرغ بعد الإيجاب يتضمن المحال أو الكذب، ونذكر طرفا من أحاديثهم.
في معاني القرآن للفراء 1: 433 «ولولا الجحد .. لم تجز دخول (إلا) كما أنك لا تقول: ضربت إلا أخاك، ولا ذهب إلا أخوك» .
وفي المقتضب 4: 389 «والاستثناء على وجهين:
أحدهما: أن يكون الكلام محمولا على ما كان عليه قبل دخول الاستثناء وذلك قولك: ما جاءني إلا زيد، وما ضربت إلا زيدا، وما مررت إلا بزيد فإنما يجري هذا على قولك؛ جاءني زيد، ورأيت زيدا، ومررت بزيد
…
وإنما احتجت إلى النفي والاستثناء؛ لأنك إذا قلت: جاءني زيد فقد يجوز أن يكون معه غيره، فإذا قلت: ما جاءني إلا زيد نفيت المجيء كله إلا مجيئه، وكذلك جميع ما ذكرنا». وانظر سيبويه 1:360.
وفي التسهيل لابن مالك ص 101: «وله بعد (إلا) من الإعراب إن ترك المستثنى منه وفرغ العامل له ما له مع عدمها، ولا يفعل ذلك دون نهي أو نفي
صريح أو مؤول ..».
وقال ابن الحاجب في كافيته ص 45 - 46: «وهو في غير الموجب ليفيد وقال في شرحها: «وهو في غير الموجب ليفيد، مثل ما ضربني إلا زيد، هذا هو الكثير في هذا الباب؛ لأن المستثنى منه محذوف، ولابد من تقديره معنى، وإنما يقدر عاما من جنس المستثنى، وهذا التقدير إنما يستقيم مع النفي، ألا ترى أنك إذا قلت: ما ضربني إلا زيد استقام تقدير: ما ضربني أحد ولو قلت: ضربني إلا زيد لم يستقم فيه مثل ذلك بوجه» .
وفي ابن يعيش 2: 82 «والذي يؤيد ذلك عندك أنك تقول: ما زيد إلا قائم، نفيت عنه القعود والاضطجاع، وأثبت له القيام، ولا تقول: زيد إلا قائم، فتوجب له كل حال إلا القيام، إذ من المحال اجتماع القعود والاضطجاع» .
وقال الرضي «في شرح الكافية» 1: 217: «قد تقدم أنك لو قلت: قام إلا زيد لكان المعنى: قام جميع الناس إلا زيد، وهو بعيد، وقرينة تخصيص جماعة من الناس من جملتهم زيد منتفية في الأغلب، فامتنع الاستثناء المفرغ في الإيجاب الموجب» . وانظر ص 215 من شرح الرضي أيضًا.
«وفي التصريح» 1: 358: «ولا يتأتى التفريغ في الإيجاب، لأنه يؤدي إلى الاستبعاد، لا تقول: رأيت إلا زيدا، لأنه يلزم منه أنك رأيت جميع الناس إلا زيدا، وذلك محال عادة» .
وفي الهمع 1: 223: «والجمهور على منعه، لأنه يلزم منه الكذب، إذ تقديره: ثبوت القيام والضرب والمرور بجميع الناس إلا زيدا، وهو غير جائز، بخلاف النفي فإنه جائز» .
* * *
خالف ابن الحاجب الجمهور فانفرد بالقول بجواز مجيء الاستثناء المفرغ بعد الإيجاب وذلك في الفضلات بشرط الإفادة، ومثل لذلك بقوله: قرأت إلا يوم
كذا، وبين الإفادة في هذا المثال بقوله في شرح الكافية ص 46.
وبين الإفادة العصام بقوله في شرح الكافية ص 145: «في مقام بيان أيام أسبوعك أو شهرك أو سنتك» .
* * *
أحصيت آيات الاستثناء في القرآن الكريم، وكان من ثمرة هذا الاستقراء أن وجدت آيات كثيرة جاء فيها الاستثناء المفرغ بعد الإيجاب، وبعض هذه الآيات جاء الإثبات فيها مؤكدا مما يبعد تأويل هذا الإثبات بنفي، مثل قوله تعالى:
1 -
{وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} [2: 45].
2 -
{وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله} [2: 143].
3 -
{لتأتنني به إلا أن يحاط بكم} [12: 66].
فهذا الإثبات المؤكد بإن واللام، أو بالقسم ونون التوكيد لا يسوغ حمله على معنى النفي، فإننا لو سلكنا هذا الطريق وسوغنا هذا التأويل ما وجدنا في لغة العرب إثباتا يستعصى على تأويله بالنفي؛ لذلك لا استسيغ تأويل ابن هشام في المغني 2: 189، والزركشي في البرهان 4: 240 تأولا قوله تعالى: {وإنها لكبيرة} بقولهما: إنها لا تسهل وكذلك تأويل الزمخشري قوله تعالى: {لتأتنني به} بقوله: لا تمتنعون من الإتيان.
وخير ما يرد به مثل هذا التأويل ما قاله أبو حيان في البحر 1: 287 في الرد على من أول قوله تعالى: {توليتم} بقوله: لم يفوا، قال:
وقال الرضي في شرح الكافية [1: 213]: «وتأويل النفي في غير الألفاظ المذكورة (أبي، قل، أقل) نادر
…
ولا يجوز: مات الناس إلا زيد، لم يعش الناس إلا زيد».
* * *
ومما يتصل بهذا النحويين منعوا أن يجئ الاستثناء المفرغ بعد (ما زال وأخواتها) لأن نفيها إيجاب.
وفي الموشح للمرزباني: «عن المازني: قال: حدثنا الأصمعي: قال: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: أخطأ ذو الرمة في قوله:
حراجيج ما تنفك إلا مناخة على الخسف أو ترمى بها بلدا قفرا
في إدخال (إلا) بعد قوله: (ما تنفعك) قال الفضل بن الحباب: لا يقال: ما زال زيد إلا قائما».
قال الصولي: وسمعت أحمد بن يحي يقول: لا تدخل مع (ما ينفك، وما يزال)(إلا)، لأن (ما) مع هذه الحروف خبر وليست بجحد» ص 182 يريد أن (ما) نافية، و (أنفك، زال) بمعنى النفي، ونفي النفي إثبات.
وقال الرضي في شرح الكافية 1: 217: 218: «أي ومن جهة أن المفرغ إنما يجئ في غير الموجب امتنع: ما زال زيد إلا عالما، لأن (ما زال) موجب، إذ النفي إذا دخل على النفي أفاد الإيجاب الدائم .. فيكون المعنى دام زيد على جميع
الصفات إلا على صفة العلم، وهو محال».
وأقول: إن هذا المحال في نظر ابن الحاجب والرضي قد جاء في القرآن الكريم في قوله تعالى: {لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم} [9: 110]. ويؤسفني أن أقول: إن المفسرين والمعربين لاذوا بالصمت هنا فلم يتكلم أحد منهم على هذا الاستثناء الكشاف، العكبري، وأبو حيان البيان، وإنما تكلم أبو السعود والجمل بما لا غناء فيه.
* * *
كان يجمل بابن الحاجب الذي أجاز وقوع الاستثناء المفرغ بعد الإيجاب في الفضلات وشرط له الإفادة أن يحتكم إلى أسلوب القرآن الكريم ويستشهد بما جاء به، فلا يمثل بهذا المثال الهزيل: قرأت إلا يوم كذا، ومن أين جاءت الفائدة إلى هذا المثال؟ وهل من المستطاع أن يقرأ الإنسان في جميع أيامه حتى وهو طفل رضيع؟ أليس هذا من الكذب الذي منعوا وقوع المفرغ بعد الإيجاب بسببه؟
وتخصيص العصام الأيام بأسبوع أو شهر أو سنة ليس عليه دليل في الكلام.
ولو اعتبرنا مثل هذا التخصيص مسوغا لجاز نحو: ضربني إلا زيد وتريد بالضاربين جماعة معينة (أخوتك، أبناءك) وهو ما منعه ابن الحاجب.
قال الرضي: 1: 217: «وقرينة تخصص جماعة من الناس من جملتهم زيد منتفية في الأغلب» .
وشتان ما بين الإفادة في مثال ابن الحاجب وبين الإفادة في قوله تعالى:
1 -
{وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} [2: 45].
2 -
{وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله} [2: 143].
3 -
{فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون} [2: 237].
4 -
{ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله} [3: 112].
5 -
{ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا} [4: 92].