الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البينة على المدعي واليمين على من أنكر:
1349 -
عن ابن عباس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى ناس ردماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» . متفق عليه.
قال: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم» ، يعني: لو أن الإنسان كلما ادعى شيئا أعطي ما ادعاه لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، دماء رجال بأن يقول: فلان قتل ابني من أجل أن يقتل، وأموالهم بأن يقول: فلان سرق مني كذا وكذا أو استعار مني كذا وجحدها، وكذلك الحقوق، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدماء والأموال؛ لأنها الأصل، والحقوق تابعة.
قوله: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم"، قال:"ولكن اليمين على المدعى عليه"، والمدعي بينه في الحديث الذي بعده.
1350 -
وللبيهقي بإسناد صحيح: "البينة على المدعي، واليمين على من أنكره".
وقوله: "لو يعطى الناس بدعواهم"، اعلم أن الدعوى تنقسم إلى قسمين: دعوى مستحيل، يعني: دعوى شيء مستحيل، وهذه لا تسمع أصلا، ولا يلتفت لها القاضي ويصرف المدعي فورا دون أن يطالبه ببينة وغيرها، وهو أن يدعي شيئا مستحيلا مثل أن يدعي أن هذا ابنه والمدعي له عشرون والمدعى به له خمس عشرة سنة، فهنا لا تسمع الدعوى ولا يشكل القاضي لها جلسة ولا يلتفت إليها.
والقسم الثاني: دعوى شيء ممكن لكن الأصل عدمه هذا هو الذي أراد النبي صلى الله عليه وسلم، فإن ادعى شخص على آخر دما أو مالا أو حقا من الحقوق، فإننا نقول للمدعى عليه أولا: هل تقر بهذا؟ إن قال: نعم قال إشكال، وإن قال: لا، قلنا للمدعي: ألك بينة؟ إن قال: نعم، قلنا: أحضرها، وإن قال: لا، قلنا للمدعى عليه: احلف، فإذا حلف انتهت القضية، ولكن ليس معنى هذا الحلف أنه لو تبين فيما بعد أن هناك بينة، فإنه لا يحلف المدعى عليه، بل إن اليمين لقطع الخصومة الحاضرة فقط، فلا يكون للمدعي دعوى على من أنكر إذا حلف، لكن لو تبين فيما بعد أن الحق مع المدعي ببينة أو غير ذلك، فإن اليمين لا تكون مزيلة للحق إذا ترتب الدعوى.
حضر رجلان إلى القاضي، فقال أحدهما: إنني أطالب هذا الرجل بألف ريال، هذا مدع ماذا يعمل القاضي؟ يسأل المدعى عليه ويقول: أتقر بهذا؟ إن قال: نعم، انتهت القضية وحكم بإقراره، لكن هذا في الغالب لا يكون إلا حيلة لشيء ما، مثل أن يكون للمدعى عليه ديون لبعض الناس، فيريد أن يتفق مع صاحب له ويقول: أنا سأدعي عليك بدين وأقر به لأجل أن يزاحم الغرماء الآخرين، وإلا ليس من المعقول أن يحضر مدع ومدعى عليه ثم بمجرد ما يقول: أطالبه مائة درهم يقول: نعم، تفضل، هذا بعيد جدا، لكن ربما تكون حيلة، لكن على كل حال إذا أقر انتهت القضية، وحكم بالإقرار، وإن قال: لا، ليس بصادق، ولا حق له عندي، رجعنا للمدعي وقلنا: ألك بينة؟ إن قال: لا، رددنا إلى المدعى عليه، وقلنا: احلف أن فلانا ليس له حق عليك، فإذا حلف برئ وخلى سبيله، وإن أقام المدعي بينة بعد ذلك فهل تقبل؟ نقول: إن كان قد قال: لا أعلم لي بينة ثم أقامها فإنها تقبل؛ لأنه من الجائز أن تكون البينة شهدت وهو لا يعلم أو شهدت بإقرار المدعى عليه وهو لا يعلم بذلك أو كان نسيها.
المهم: أنه إذا نسي العلم بالبينة ثم أقامها بعد تقبل، لأنه لا منافاة بين نفي العلم وبين إقامة البينة، وأما إذا قال: ليس لي بينة ثم أقام بعد ذلك بينة فإنها لا تقبل، وعلل الفقهاء ذلك بأن إقامتها بعد نفيها تناقض فيكون كلامه الثاني مكذبا لكلامه الأول فلا يقبل، ولكن هذا القول متوجه فيما إذا كان المدعي يعرف الفرق بين قوله: لا أعلم، وقوله: ليس لي بينة، وغالب العامة لا يفرقون بين قولهم: لا أعلم لي بينة، وقولهم: ليس لي بينة، وكونه له بينة لا يعلمها يرد كثيرا إما أن يكون البينة تسمع لإقرار في عدم حضور المدعي أو ما أشبه ذلك.
وقوله: "اليمين على المدعى عليه" ظاهر الحديث أن ذلك في كل دعوى، بمعنى: أننا نوجه اليمين في كل مدعى عليه، سواء كان الذي ادعي به عليه من الأمور المالية أو التي يقصد بها المال أو من الأمور الدموية أو من الحقوق، فإن اليمين على المدعى عليه، إذا أبى وقال: لا أحلف، إما أن يأتي ببينة وإلا قضي عليه؛ لأنه قد يكون هذا الرجل يغير على الناس ويدعي عليهم ويحضرهم إلى القاضي ويهدم شرفهم ثم يقول الرجل: لا أحلف، قال العلماء: إذا لم يحلف قضي عليه، لأننا نقول له: لماذا تمتنع من اليمين أحلف إن كنت صادقا فإن اليمين لا يضرك وإن كنت كاذبا فعليك الإثم، وكونك تمتنع عن اليمين يدل على أن المدعي صادق وإلا فما يضرك؟ لا يضرك شيء.
لكن الفقهاء رحمهم الله خصصوا هذا العموم بما إذا كان الأمر مما يقضى فيه النكول، وأما إذا كان لا يقضى فيه بالنكول، فإنه لا يلزم المدعى عليه الحلف، مثاله: لو أن رجلا ادعى على امرأة أنها زوجته وقال: هذه زوجتي فقالت: لا، لست بزوجة له، فعلى ظاهر الحديث نقول للمدعي: هات البينة؛ لأن المرأة أنكرت، فإذا قال: ليس عندي بينة أو قال: عندي بينة وفقدت أو جنت أو ما أشبه ذلك، ماذا نعمل؟ نوجه -على ظاهر الحديث- الدعوى إلى المرأة ونقول: احلفي أنه ليس زوجك، إذا أبت وقالت: لا أحلف هل يقضى عليها بالنكول؟ لا، لكن ظاهر الحديث أنه يقضى عليها بالنكول؛ لأن الرسول جعل اليمين هي التي نتفي الدعوى، وهذا فيه نظر -أعني: أن نجعل الحديث عاما - لأن في هذا مفاسد كثيرة.
فقد يكون بعض الناس تتحرج أو تتورع أن تحلف وإن كانت صادقة فيحصل بذلك شر كثير؛ ولهذا خصها الفقهاء رحمهم الله بما إذا كان الدعوى لا يقضى فيها بالنكول، فإذا كان لا يقضى فيها بالنكول، فإنه إذا نكل المدعى عليه لم يحكم عليه بمقتضى دعوى المدعي.
البينة ذكرنا أنها كل ما بان به الحق سواء كانت بينة منفصلة كالشاهدين مثلا أو بينة بالقرائن والأحوال، وهو كذلك، وقد مر علينا مثال من هذا وهو القضاء بالشاهد واليمين قلنا: الشاهد وحده لا يكفي، لكنه عزز باليمين لما رجح جانب المدعي بالشاهد صار اليمين مقررا لدعواه.
وهذا الحديث يستفاد منه فوائد: أولا: سد باب الفساد لقوله: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى أناس دماء قوم وأموالهم"، وهذه هي قواعد الشريعة العامة، لأن الشريعة إنما جاءت باستجلاب المصالح ودفع المفاسد وتأمل هذا في جميع مشروعاتها.
ثانيا: ظاهر الحديث أن الدعوى مقبولة بأي حال كان، وقد ذكرنا أن ذلك مشروط فيما إذا كانت الدعوى ممكنة، فأما دعوى المستحيل فإنها لا [تقبل]، وضربنا لذلك مثلا.
ولكن هل من المستحيل ما يستحيل عادة بحسب مقام المدعى عليه؟ إذا فرضنا أن رجلا من الناس قال: إن الملك اشترى مني حزمة علف هل يمكن هذا عادة؟ لا، جاء بالملك عند القاضي قال: هذا اشترى مني حزمة علف بربع ريال، يعني: فرضا، هل نقول: إن المستحيل ما استحال عادة وواقعا؟ يرى الإمام مالك رحمه الله أن الدعوى على مثل هؤلاء بمثل هذا الشيء الصغير لا تقيل، لكن لو ادعى أن يستولي الأمير أو الوزير على مثل هذا، وما ذهب إليه الإمام مالك هو الصواب؛ لأننا لو قبلنا سماع الدعوى على مثل هؤلاء بمثل هذه الأشياء الزهيدة لحصل في ذلك مضرة، كل إنسان ادعى على إنسان ذي شرف وجاه، ويريد أن يحطم شرفه