المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مبحث حديث الحلال والحرام من جامع العلوم والحكم: - فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية - جـ ٦

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب الأطعمة

-

- ‌تحريم كل ذي ناب من السباع:

- ‌تحريم كل ذي مخلب من الطير:

- ‌حكم أكل الحمر الأهلية والخيل:

- ‌حكم أكل الجراد:

- ‌حكم أكل الأرنب:

- ‌حكم النملة والنحلة والهدهد والصرد:

- ‌حكم أكل الضبع:

- ‌حكم أكل القنفذ:

- ‌النهي عن أكل الجلالة:

- ‌حل الحمار الوحشي والخيل:

- ‌حل أكل الضب:

- ‌حكم الضفدع:

- ‌خلاصة كتاب الأطعمة، وخلاصته تدور على أمور:

- ‌1 - باب الصيد والذبائح

- ‌اقتناء الكلب:

- ‌حل صيد الكلب المعلم:

- ‌فائدة: حكم التسمية عند الذبح:

- ‌حكم ما أكل منه كلب الصيد:

- ‌حكم اشتراك كلبين في الصيد:

- ‌صيد المعارض:

- ‌تنبيه:

- ‌الصيد بالسهم وحكمه:

- ‌التسمية على ما لم يسم عليه عند الذبح:

- ‌فائدة: حكم اللحوم المستوردة من بلاد الكفار:

- ‌النهي عن الحذف:

- ‌النهي عن اتخاذ ذي الروح غرضاً:

- ‌حكم ذبح الحجر وذبح المرأة الحائض:

- ‌فائدة في ذبح ملك الغير وحله:

- ‌شروط الذبح:

- ‌النهي عن قتل الدواب صبراً:

- ‌وجوب إحسان القتلة:

- ‌ذكاة الجنين ذكاة أمة:

- ‌حكم نسيان التسمية عند الذبح:

- ‌2 - باب الأضاحي

- ‌شروط الأضحية:

- ‌صفة ذبح النبي صلى الله عليه وسلم للأضحية:

- ‌حكم الأضحية:

- ‌وقت الأضحية

- ‌عيوب الأضحية:

- ‌حكم ذبح المسنة:

- ‌لا يعطي الجزار من الأضحية:

- ‌إجزاء البدنة والبقرة عن سبعة:

- ‌3 - باب العقيقة

- ‌العقيقة عن الغلام والجارية:

- ‌ارتهان الغلام بعقيقة:

- ‌وقت العقيقة والحلق:

- ‌مسألة السقط وأحكامه:

- ‌كتاب الأيمان والنذور

- ‌تعريف الأيمان:

- ‌كراهة الإكثار من اليمين:

- ‌فائدة: قرن اليمين بقول: «إن شاء الله»:

- ‌شروط وجوب الكفارة:

- ‌الحلف بغير الله:

- ‌شبهة والرد عليها:

- ‌اعتبارنية المستحلف في اليمين:

- ‌من حلف فرأى الحنث خيرا كفر عن يمينه:

- ‌الحنث في اليمين على خمسة أقسام:

- ‌الاستثناء في اليمين:

- ‌تحقيق القول في تعليق الحلف بالمشيئة:

- ‌نية الاستثناء لا تغني في اليمين إلا بالتلفظ به:

- ‌لفظ يمين الرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌حكم الحلف بصفة من صفاته تعالى:

- ‌اليمين الغموس من كبائر الذنوب:

- ‌لغو اليمين:

- ‌أسماء الله الحسنى:

- ‌الدعاء بخير لصانع المعروف:

- ‌حكم النذر:

- ‌كفارة النذر:

- ‌حكم نذر المعصية وما لا يطاق:

- ‌وفاء نذر الميت:

- ‌حكم نذر المكان المعين:

- ‌حكم الانتقال عن النذر إلى ما هو أفضل منه:

- ‌الوفاء بالنذر بعد الإسلام:

-

- ‌كتاب القضاء

- ‌معنى القضاء والفرق بين القاضي والمفتي:

- ‌تولي القضاء فرض كفاية:

- ‌صفة القاضي الصالح:

- ‌وجوب الحذر من تولي القضاء:

- ‌تبعات الإمارة:

- ‌حكم الحاكم أو القاضي أو المفتي المجتهد:

- ‌النهي عن الحكم حال الغضب:

- ‌لا يقضي القاضي حتى يسمع قول الخصمين:

- ‌حكم الحاكم لا يحل للمحكوم له إذا كان باطلاً:

- ‌حكم القاضي بعلمه وضوابطه:

- ‌الاهتمام بإقامة العدل:

- ‌خطر القضاء وكبر مسئوليته:

- ‌حكم ولاية المرأة أمور المسلمين العامة:

- ‌التحذير من احتجاب الوالي عن حاجة المسلمين:

- ‌الرشوة والهدية للقاضي:

- ‌تسوية القاضي بين الخصوم في المجلس:

- ‌1 - باب الشهادات

- ‌خير الشهود الذي يشهد قبل أن يسأل:

- ‌خير القرون الثلاثة الأولى:

- ‌حكم شهادة الخائن والعدو والقانع:

- ‌لا تقبل شهادة البدوي على صاحبه قرية:

- ‌العبرة في عدالة الشاهد بما يظهر:

- ‌شهادة الزور:

- ‌الشهادة على ما استيقن وبالاستفاضة:

- ‌القضاء باليمين والشاهد:

- ‌البينة على المدعي واليمين على من أنكر:

- ‌القرعة بين الخصوم في اليمين:

- ‌غضب الله على من أخذ مال غيره بغير حق:

- ‌الحكم بحسب البينة:

- ‌تغليظ اليمين بالزمان أو المكان:

- ‌الذين لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم:

- ‌اليد المرجحة للشهادة الموافقة لها:

- ‌رد اليمين على المدعي إذا لم يحلف المدعى عليه:

- ‌الاعتبار بالقيافة في ثبوت النسب:

- ‌كتاب العتق

- ‌تعريف العتق وبيان بعض أحكامه:

- ‌الترغيب في العتق:

- ‌عتق الأنثى:

- ‌عتق الأغلى أفضل من عتق الأدنى:

- ‌حكم من أعتق نصيبه من عبد:

- ‌السعاية:

- ‌حكم من ملك والديه أو ذا رحم محرم:

- ‌حكم التبرع في المرض:

- ‌تعليق العتق:

- ‌الولاء لمن أعتق:

- ‌بيع الولاء وهبته:

- ‌ باب المدبر، والمكاتب، وأم الولد

- ‌المكاتب عبد ما لم يفيا بما كُوتِبَ عليه:

- ‌ المكاتب كالحر إذا ملك ما كوتب عليه:

- ‌دية المكاتب:

- ‌تركة النبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌عتق أم الولد بوفاة سيدها:

- ‌كتاب الجامع

- ‌1 - باب الأدب

- ‌معنى الأدب الإسلامي وأنواعه:

- ‌أنواع الأدب:

- ‌اختلاف الأديب باختلاف الأمم:

- ‌حقوق المسلم على أخيه:

- ‌إلقاء السلام ورده:

- ‌حكم إجابة الدعوة والنصيحة للمسلم:

- ‌آداب العطاس والتشميت:

- ‌عيادة المريض:

- ‌آداب اتباع الجنائز:

- ‌وسيلة عدم ازدراء نعمة الله:

- ‌البر والإثم وضوابطهما:

- ‌لا يتناجى اثنان دون الثالث:

- ‌آداب المجلس وأحكامها:

- ‌لعق الأصابع والصحفة:

- ‌آداب السلام وأحكامه:

- ‌سلام الواحد على الجماعة والعكس:

- ‌حكم السلام على أهل الكتاب:

- ‌تشميت العاطس:

- ‌حكم الشرب قائمًا:

- ‌استحباب التيامن في التنعل:

- ‌النهي عن المشي في نعل واحد:

- ‌حكم إسبال الثياب:

- ‌النهي عن الأكل والشرب بالشمال:

- ‌النهي عن الإسراف في كل شيء:

- ‌2 - باب البر والصلة

- ‌البركة في العمر والرزق بصلة الرحم:

- ‌النهي عن قطع الرحم:

- ‌النهي عن عقوق الوالدين:

- ‌التشديد في إضاعة المال:

- ‌بر الوالدين وضوابطه:

- ‌حقوق الجار:

- ‌أعظم الذنوب عند الله:

- ‌من الكبائر سب الرجل أبا الرجل:

- ‌بماذا يزول التهاجر بين الأخوين

- ‌كل معروف صدقة:

- ‌الإحسان إلى الجار ولو بالقليل:

- ‌الترغيب في التفريج عن المسلم والتيسير عليه:

- ‌الدال على الخير كفاعله:

- ‌المكافأة على المعروف:

- ‌3 - باب الزهد والورع

- ‌الحلال والحرام والمشتبهات:

- ‌مبحث حديث الحلال والحرام من جامع العلوم والحكم:

- ‌التحذير من حب الدنيا:

- ‌كن في الدنيا كالغريب:

- ‌الترغيب في المتشبه بالصالحين:

- ‌حفظ الله بحفظ حدوده:

- ‌كيف يكون العبد محبوباً عند الناس

- ‌كيف يكون العبد محبوباً من الله

- ‌من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه:

- ‌النهي عن الإسراف في الأكل:

- ‌التوبة فضلها وشروطها:

- ‌فضل الصمت وقلة الكلام:

- ‌4 - باب الترهيب من مساوئ الأخلاق

- ‌النهي عن الحسد:

- ‌تعريف الحسد وأقسامه:

- ‌ذم الغضب:

- ‌النهي عن الظلم والشح:

- ‌تعريف الظلم لغة وشرعاً:

- ‌الرياء:

- ‌تعريف الرياء لغة وشرعاً:

- ‌خصال النفاق:

- ‌النهي عن السباب:

- ‌التحذير من سوء الظن:

- ‌التحذير من الغش للرعية:

- ‌أمر الوالي بالرفق برعيته:

- ‌النهي عن الغضب:

- ‌مسألة مهمة:

- ‌النهي عن التخوض في أموال الناس بالباطل:

- ‌حرم الله الظلم على نفسه وعلى عباده:

- ‌الغيبة وتغليظ النهي عنها:

- ‌النهي عن أسباب البغض بين المسلمين:

- ‌استعاذة الرسول صلى الله عليه وسلم من سوء الأخلاق والأعمال والأهواء:

- ‌المزاح بين المسلمين وضوابطه:

- ‌الفرق بين المجادلة والمماراة:

- ‌ذم البخل وسوء الخلق:

- ‌النهي عن مضارة المسلم:

- ‌المسلم ليس بذيئاً ولا فاحشاً ولا لعاناً:

- ‌النهي عن سب الأموات:

- ‌النميمية:

- ‌كفُّ الغضب:

- ‌ذم الخداع والبخل:

- ‌تحريم التجسس:

- ‌التحذير من الكبر:

- ‌ذم العجلة:

- ‌الشؤم سوء الخلق:

- ‌التحذير من كثرة اللعن:

- ‌النهي أن يغير المسلم أخاه:

- ‌التحذير من الكذب لإضحاك الناس:

- ‌كفارة الغيبة:

- ‌5 - باب الترغيب في مكارم الأخلاق

- ‌الترغيب في الصدق:

- ‌حقوق الطريق:

- ‌الترغيب في الفقه:

- ‌الترغيب في حسن الخلق:

- ‌الترغيب في الحياء:

- ‌الترغيب في التواضع:

- ‌الترغيب في الصدقة:

- ‌من أسباب دخول الجنة:

- ‌النصيحة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولكل مسلم:

- ‌كيف تكون النصيحة لكتاب الله

- ‌النصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم كيف تكون

- ‌النصح للولاة وللعلماء:

- ‌أعظم نصيحة النصح للعلماء:

- ‌النصح للعامة كيف يكون

- ‌الترغيب في تقوى الله:

- ‌حسن الخلق:

- ‌المؤمن مرآة أخيه:

- ‌مخالطة الناس والصبر على أذاهم:

- ‌الدعاء بحسن الخلق:

- ‌6 - باب الذكر والدعاء

- ‌حقيقة الذكر وأنواعه:

- ‌حقيقة الدعاء وشروط الاستجابة:

- ‌آداب الدعاء:

- ‌فضل المداومة على ذكر الله:

- ‌فضل "لا إله إلا الله وحده لا شريك له" ومعناها:

- ‌الفرق بين القدرة والقوة:

- ‌فضل "سبحان الله وبحمده" ومعناها:

- ‌الباقيات الصالحات:

- ‌فضل لا حول ولا قوة إلا بالله:

- ‌الدعاء هو العبادة:

- ‌فضل الدعاء بعد الأذان:

- ‌استحباب رفع اليدين في الدعاء:

- ‌حكم مسح الوجه باليدين بعد الدعاء:

- ‌فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:

- ‌سيد الاستغفار ومعناه:

- ‌سؤال العافية في الدين والدنيا والأهل والمال:

- ‌الاستعاذة من سخط الله:

- ‌الاستعاذة من غلبة الدين والعدو وشماتة الأعداء:

- ‌معنى الصمد:

- ‌دعاء الصباح والمساء:

- ‌الدعاء بالحسنة في الدنيا والآخرة:

- ‌من صيغ الاستغفار:

- ‌الدعاء بخير الدارين:

- ‌ينبغي للمؤمن أن يسأل العلم النافع:

- ‌من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم:

الفصل: ‌مبحث حديث الحلال والحرام من جامع العلوم والحكم:

فإذا قال قائل: التصور الآن المعروف أن التصور يكون في الرأس يكاد الإنسان يلمسه لمساً. فيقال: نعم، سكرتير الملك يعمل المعاملات ويمحصها ويدققها، ثم يبعث بها إلى الملك من أجل التوقيع فيوقع، ومن ينفذ؟ الجنود، فالمسألة تصورها في المحسوس أمر ظاهر، ونحن وإن لم ندرك الشيء بتصويره في الأمر الظاهر المحسوس يكفينا قول الله ورسوله:{فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]. حدثنا شيخنا عبد الرحمن السعدي أنه في معركة الخلاف بين الناس كان يوجد أحد المعتزلة قال: إن العقل في القلب، وخصومه يقولون: العقل في الدماغ، المهم: أنه قضي عليه بالإعدام، فقال: إذا قصصتم رأسي إن كان عقلي في قلبي فأنا سأشير بأصبعي، وإن كان في رأسي فلا أستطيع أن أشير، فلما قطع رأسه أشار بأصبعه مما يدل على أن العقل في القلب.

‌مبحث حديث الحلال والحرام من جامع العلوم والحكم:

-عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: - وأهوى النعمان بأصبعيه إلى أذنيه-: «إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات؛ فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» . متفق عليه. هذا الحديث صحيح متفق على صحته من رواية الشعبي عن النعمان بن بشير، وفي ألفاظه بعض الزيادة والنقص، والمعنى واحد أو متقارب. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر، وعمار بن ياسر، وجابر، وابن مسعود، وابن عباس، وحديث النعمان أصح أحاديث الباب.

ص: 309

*تعليق الشيخ:

-قول العلماء أصح هذا الباب يريدون المسألة، وقد تكون جزءاً من باب، لكن لم يصح في هذا الباب شيء؛ يعني: في هذه المسألة.

*قال ابن رجب:

فقوله صلى الله عليه وسلم: «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس» معناه: أن الحلال المحض بين لا اشتباه فيه، وكذلك الحرام المحض، ولكن بين الأمرين أمور تشتبه على كثير من الناس، هل هي من الحلال أم من الحرام؟ وأما الراسخون في العلم، فلا يشتبه عليهم ذلك، ويعلمون من أي القسمين هي. فأما الحلال المحض: فمثل أكل الطيبات من الزروع، والثمار، وبهيمة الأنعام، وشرب الأشربة الطيبة، ولباس ما يحتاج إليه من القطن والكتان، أو الصوف أو الشعر، وكالنكاح، والتسري، وغير ذلك إذا كان اكتسابه بعقد صحيح كالبيع، أو بميراث، أو هبة، أو غنيمة. والحرام المحض: مثل أكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وشرب الخمر، ونكاح المحارم، ولباس الحرير للرجال، ومثل الأكساب المحرمة كالربا والميسر، وثمن ما لا يحل بيعه، وأخذ الأموال المغصوبة بسرقة أو غصب أو تدليس أو نحو ذلك. وأما المشتبه: فمثل أكل بعض ما اختلف في حله أو تحريمه، إما من الأعيان كالخيل، والبغال، والحمير، والضب.

*تعليق الشيخ:

-المؤلف (رحمة الله) قرن بين أشياء بعضها واضح وأن الخلاف فيه ضعيف، فمراده (رحمة الله) مجرد الاختلاف، الخيل الخلاف في حلها أو تحريمها ضعيف والصواب أنها حلال؛ لأنه ثبت في صحيح البخاري عن أسماء بنت أبي بكر أنهم نحروا في المدينة فرساً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأكلوا منه، وأما البغال فالخلاف في حلها ضعيف؛ أي: أنها حلال، أي: القول بأنها حلال ضعيف؛ لأنها متولدة من محرم، فإن البغل: ولد الحمار من الفرس، وأما الحمير فالخلاف في حلها أضعف؛ لأن القول بحلها شاذ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعلن أنه حرمها ولم تحل بعد ذلك، وأما الضب فالخلاف في تحريمه ضعيف، فقد ثبت أنه أكل بحضرته وسئل أحرام هو؟ قال:«لا، ولكنه ليس في أرض قومي فأجدني أعافه» ؛ إذن المؤلف (رحمة الله) لم يرد تساوي هذه الأشياء في الحل والحرمة، إنما أراد مجرد الاختلاف فيها.

ص: 310

*قال ابن رجب:

وشرب ما اختلف في تحريمه من الأنبذة التي يسكر كثيرها، ولبس ما اختلف في إباحة لبسه من جلود السباع ونحوها، وإما من المكاسب المختلف فيها كمسائل العينة.

*تعليق الشيخ:

-مسائل العينة ليست مسألة واحدة، حدها بعضهم بأنها كل ما يتوصل به إلى الربا عن طريق الحيلة، وعلى هذا فالتورق من العينة، وقد نص على ذلك الإمام أحمد، مسألة العينة المسألة المشهورة أن يبيع شيئاً بثمن مؤجل ويشتريه بأقل منه نقداً، مثاله: باع علي سيارة بخمسين ألفاً إلى سنة ثم اشتراها منه بأربعين ألفاً نقداً، وأخذ السيارة وأعطاه أربعين ألفاً، حقيقة الأمر أنه أعطاه أربعين ألفاً بخمسين ألفاً إلى سنة، ولهذا قال ابن عباس: إنها دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة.

*قال ابن رجب:

والتورق ونحو ذلك، وبنحو هذا المعنى فسر المشتبهات أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة.

*تعليق الشيخ:

مسألة التورق أن يبيع عليه سلعة بثمن مؤجل أكثر من ثمنها نقداً، وقصد المشتري الدراهم ليس قصده السلعة، وسميت بذلك؛ لأن الإنسان احتاج فيها إلى الورق وليس عنده ورق، فاحتال إلى التوصل للورق بهذه الحيلة، وهي عند شيخ الإسلام محرمة مقطوع بتحريمها عنده، حتى نقل عنه ابن القيم في «إعلام الموقعين» أنه كان يسأل فيها مراراً فيأبى إلا أن تكون حراماً، وهي الآن شائعة بين الناس بكثرة، وأما إذا اشتراها بثمن أكثر لقصده عين السيارة لا يقصد قيمتها فهذا لا بأس به بالإجماع، وكذلك لو اشتراها يريد بها التكسب مثل: أن اشتراها بخمسين ألفاً مؤجلة إلى سنة يريد أن يبيعها في بلد آخر نقداً لا من أجل الدراهم لكن من أجل التجارة؛ هذا أيضا لا بأس به، وهل من ذلك أن يقول: أبيعها عليك بعشرة نقداً وعشرين نسيئة؟ لا، هذه جائزة ولا إشكال فيها، فليس هذا من باب بيعتين في بيعة كما توهمه بعض العلماء. قوله:«والمشتبهات» .

ص: 311

-قاعدة المشتبه هي ما اختلف العلماء فيه هذا تفسير الإمام أحمد، فما كان بينا في حله أو تحريمه وما اختلف فيه العلماء فهو من المشتبه، لكنكم تعلمون أن الخلاف يكون ضعيفاً فيكون الاشتباه ضعيفاً، وقد يكون قوياً فيكون الاشتباه قوياً.

*قال ابن رجب:

وحاصل الأمر: أن الله تعالى أنزل على نبيه الكتاب، وبين فيه للأمة ما يحتاج إليه من حلال وحرام، كما قال تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89].

*تعليق الشيخ:

-هذا هو الصحيح: أي: أن القرآن ما ترك شيئاً إلا بينه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} . {تِبْيَاناً} إما أن تكون مفعولاً لأجله وعاملها {وَنَزَّلْنَا} ، وإما أن تكون مصدراً في موضع الحال من {الْكِتَابَ} أي: ميناً، وأيا كان فهذا هو الاستدلال على أن القرآن فيه بيان كل شيء، أما ما يستدل به كثير من الناس وهو قوله تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]. فهذا خطأ وتنزيل للآية على غير مراد الله، قال الله تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38]. فالمراد بالكتاب هنا: اللوح المحفوظ وليس الكتاب العزيز.

*قال ابن رجب: قال مجاهد وغيره: لكل شيء أمروا به أو نهوا عنه.

*قال الشيخ:

-وعلى هذا يكون من باب العام الذي أريد به الخاص على رأي مجاهد وغيره، والصواب من العام الذي مر على عمومه، لكن بيان القرآن إما أن يكون الشيء عينه، وإما أن يكون بجنسه، وإما أن يكون بقاعدة عامة يدخل فيها ما لا يحصى من المسائل، وإما أن يكون بالإشارة والدلائل، حتى ذكر أن بعض النصارى كان جالساً مع أحد العلماء المشهورين المذكورين العقلاء، فأتى إليه قال: أيها الشيخ، إن كتابكم تبيان لكل شيء، وبين أيدينا الآن خبز ولحم وما شاء الله، أين في القرآن كلمة سندوتش واللحم وغير ذلك، أين هو؟ كأن هذا النصراني يريد أن يكون القرآن دليل مطبخ! فقال له الرجل: هذا موجود في القرآن، قال: كيف موجود أين هو؟ فنادى صاحب المطعم فقال: تعال كيف تصنع هذا؟ قال: بكذا وكذا وبين، قال: هكذا جاء في القرآن، فاندهش الرجل كيف جاء أين هو؟ قال: إن الله يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]. فأرشدنا أن نسأل عن كل شيء يعلمه غيرنا إذا كنا لا نعلمه، فذلك كيف تصل إلى العلم، فالذي نرى أن الآية عامة:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} وليست خاصة فيما أمرنا به أو نهينا عنه.

ص: 312

*قال ابن رجب:

وقال تعالى في آخر سورة النساء التي بين الله فيها كثيراً من أحكام الأموال والأبضاع: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176].

*تعليق الشيخ:

-سورة النساء كما قال المؤلف بين الله فيها كثيرا من أحكام الأموال والأبضاع فيه آية التحريم والتحليل لما يحل من الأبضاع: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23]، والأموال حدث ولا حرج: أموال الأحياء، وأموال الأموات، وأموال العقلاء، وأموال السفهاء كلها موجودة في النساء، وهذا من فقه التفسير الذي لا يعلمه كثير من الناس، كثير من الناس يفسر السورة ولا يعرف مغزى السورة ومعناها ومجمعها وما الذي جمع فيها، وهذا فقه عظيم في التفسير ينبغي للإنسان ألا يهمله.

*قال ابن رجب:

وقال تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119]. وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التوبة: 115]. ووكل بيان ما أشكل من التنزيل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]. وما قبض صلى الله عليه وسلم حتى أكمل له ولأمته الدين، ولهذا أنزل عليه بعرفة قبل موته بمدة يسيرة:{لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3]. وقال صلى الله عليه وسلم: «تركتكم على البيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك» . وقال أبو ذر: توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يحرك جناحيه في السماء إلا وقد ذكر لنا منه علماً.

*تعليق الشيخ:

- «ذكر منه علماً» هل هو حلال أو حرام الذي يهمنا هو هذا، أما نوعه ما الذي قاله لنا؟ قال:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]. ونهى عن كل ذي مخلب من الطير، ونهى عن قتل النملة والنحلة والهدهد والصرد، فأنت تجد أن الحلال بين والحرام بين.

ص: 313

*قال ابن رجب:

ولما شك الناس في موته صلى الله عليه وسلم، قال عمه العباس رضي الله عنه: والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ترك السبيل نهجاً واضحاً، وأحل الحلال وحرم الحرام، ونكح وطلق، وحارب وسالم، وما كان راعي غنم يتبع بها رؤوس الجبال يخبط عليها العضاة بمخطبه، ويندر حوضها بيده بأنصب ولا أدأب من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيكم. وفي الجملة فما ترك الله ورسوله حلالاً إلا مبيناً، لكن بعضه كان أظهر بياناً من بعض، فما ظهر بياه، واشتهر وعلم من الدين بالضرورة من ذلك لم يبق فيه شك، ولا يعذر أحد بجهله في بلد يظهر فيه الإسلام، وما كان بيانه دون ذلك، فمنه ما اشتهر بين حملة الشريعة خاصة، فأجمع العلماء على حله أو حرمته، وقد يخفى على بعض من ليس منهم، ومنه ما لم يشتهر بين حملة الشريعة أيضا، فاختلفوا في تحليله وتحريمه وذلك لأسباب.

*تعليق الشيخ:

-الآن بين (رحمة الله) أن ما علم بالضرورة من دين الإسلام، فهذا لا يعذر أحد بجهله، لابد أن يكون عالماً به في بلد يظهر فيه أحكام الإسلام، والثاني ما اشتهر بين حملة الشرع، ولكنه يخفى على غيرهم إلا أنه واضح عندهم، وهذا أيضا مما أجمعوا عليه، والثالث: ما كان خفياً على بعض حملة الشرع وهو الذي وقع فيه الخلاف فصارت الأحوال ثلاثة.

*قال ابن رجب:

منها: أنه قد يكون النص عليه خفياً لم ينقله إلا قليل من الناس، فلم يبلغ جميع حملة العلم.

*قال الشيخ:

-هذا نقص في العلم، لأن الذي يخفى عليه هذا معناه أن علمه قاصر لم يحط علماً بنصوص الشريعة.

*قال ابن رجب:

ومنها: أنه قد ينقل فيه نصان: أحدهما بالتحليل، والآخر بالتحريم، فيبلغ طائفة أحد النصين دون الآخرين، فيتمسكون بما بلغهم، أو يبلغ النصان معاً من لم يبلغه التاريخ، فيقف لعدم معرفته بالناسخ.

*قال الشيخ:

وهذا أيضا مثل الأول سببه نقص العلم.

ص: 314

*قال ابن رجب:

ومنها: ما ليس فيه نص صريح، وإنما يؤخذ من عموم أو مفهوم أو قياس، فتختلف أفهام العلماء في هذا كثيراً.

*قال الشيخ:

وهذا لقصور في الفهم.

*قال ابن رجب:

ومنها: ما يكون فيه أمر، أو نهي، فيختلف العلماء في حمل الأمر على الوجوب أو الندب، وفي حمل النهي على التحريم أو التنزيه، وأسباب الاختلاف أكثر مما ذكرنا.

*تعليق الشيخ:

-هذا الاختلاف في المنهج هل كلنا يريد التحريم، هل كل أمر للوجوب؟ اختلف العلماء والأسباب كثيرة، وقد ذكر شيخ الإسلام (رحمة الله) في كتابه «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» أسباباً كثيرة لاختلاف العلماء رحمهم الله ولخصناه في رسالة، فمن راجع الأصل والملخص يكون ذلك طيباً.

*قال ابن رجب:

ومع هذا فلابد في الأمة من عالم يوافق قوله الحق، فيكون هو العالم بهذا الحكم، وغيره يكون الأمر مشتبهاً عليه ولا يكون عالماً بهذا، فإن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولا يظهر أهل باطلها على أهل حقها، فلا يكون الحق مهجوراً غير معمول به في جميع الأمصار والأعصار، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المشتبهات:«لا يعلمهن كثير من الناس» ، فدل على أن من الناس من يعلمها، وإنما هي مشتبهة على من لم يعلمها، وليست مشتبهة في نفس الأمر، فهذا هو السبب المقتضى لاشتباه بعض الأشياء على كثير من العلماء.

*تعليق الشيخ:

-ملخص كلامه هنا انه لا يمكن أن يكون الحق مشتبهاً على جميع الأمة، بل لابد أن يكون في الأمة من هو عالم بالحق ولو واحداً، أما أن يشتبه الحق على جميع الأمة فهذا مستحيل؛ لأن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولو اشتبه الحق على جميع الأمة لم يكن القرآن بياناً ولا السنة بياناً.

*قال ابن رجب:

وقد يقع الاشتباه في الحلال والحرام بالنسبة إلى العلماء وغيرهم من وجه آخر، وهو أن من الأشياء ما يعلم سبب حله وهو الملك المتيقن، ومنها: ما يعلم سبب تحريمه وهو ثبوت

ص: 315

ملك الغير عليه، فالأول لا تزول إباحته إلا بيقين زوال الملك عنه، اللهم إلا في الأبضاع عند من يوقع الطلاق بالشك فيه كمالك، أو إذا غلب على الظن وقوعه كإسحاق بن راهويه. والثاني: لا يزول تحريمه إلا بيقين العلم بانتقال الملك فيه.

*تعليق الشيخ:

-والصحيح في هذه المسألة: أن نلزم الأصل، فإذا شككنا في وقوع الطلاق فمن العلماء من قال: نوقعه؛ لأنه أحوط وأورع، ومنهم من قال: لا، لا نوقعه؛ لأن الأورع أن ينفى النكاح؛ إذ إننا لو أوقعناه في ورطتين: الأولى: تحريمها على الزوج، والثانية: إباحتها لغيره، فإذا قلنا: الأصل بقاء النكاح بنينا على أصل ولم نتورط إن قدر أن هناك تورطا إلا في الإحلال لزوجها التي لا تحل له على التقدير، فالصواب في هذا: أنه لا يزول الشك ولو بغلبة الظن، فمثلا: لو قال لزوجته: إن كان هذا الطائر حماما فأنت طالق، وذهب الطير ولم ندر ما هو هل تطلق؟ الصحيح: أنها لا تطلق، هناك احتمال أن يكون حماماً ولكن الأصل بقاء النكاح حتى لو غلب على ظنه أن هذا الطائر حمام فإنه لا يقع على القول الراجح.

*قال ابن رجب:

وأما ما لا يعلم له أصل ملك كما يجده الإنسان في بيته ولا يدري: هل هو له أو لغيره فهذا مشتبه، ولا يحرم عليه تناوله؛ لأن الظاهر أن ما في بيته ملكه لثبوت يده عليه، والورع اجتنابه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها، ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها» خرجاه في الصحيحين. فإن كان هناك من جنس المحظور، وشك هل هو منه أم لا؟ قويت الشبهة. وفي حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم أصابه أرق من الليل، فقال له بعض نسائه: يا رسول الله! أرقت الليلة. فقال: «إني كنت أصبت تمرة تحت جنبي، فأكلتها وكان عندنا تمر من تمر الصدقة، فخشيت أن تكون منه» .

*قال الشيخ:

-هذا من تمام الورع ولاشك فيه، الإنسان يبتعد عن المشتبهات خصوصاً في الأكل والشرب.

*قال ابن رجب:

ومن هذا أيضاً ما أصله الإباحة كطهارة الماء والثوب والأرض، إذا لم يتيقن زوال أصله فيجوز استعماله.

ص: 316

*قال الشيخ:

-حتى لو غلب على ظنه النجاسة؛ لأن الأصل الطهارة، لكن إذا قوي الظن في النجاسة فالورع تركه، وعلى هذا فإذا تعارض ورع وواجب، مثل ألا يكون عندهم إلا هذا الماء المشتبه الذي يغلب على ظنه أنه تغير بنجاسة، فنقول: لدينا الآن اجتناب تورعاً، ولدينا استعمال وجوباً فأيهما نقدم؟ الثاني: أي: الاستعمال وجوباً، أما مع وجود غيره فلاشك أن الورع تجنبه، وعليه أن يتوضأ من الماء الذي لا إشكال فيه.

*قال ابن رجب:

وما أصله الحظر كالأبضاع ولحوم الحيوان، فلا يحل إلا بيقين حله من التذكية والعقد.

*تعليق الشيخ:

-ما أصله الحظر في الأبضاع؟ مثلا هذا الرجل إذا شك في المرأة هل عقد عليها عقداً صحيحاً أو لا فما الأصل؟ المنع حتى نتيقن أنه استباح هذا الفرج بعقد صحيح، كذلك اللحم، الأصل فيه التحريم ليس الحيوان، الحيوان الأصل فيه الحل، لكن اللحم الأصل فيه التحريم حتى نعلم أنه ذكي على وجه شرعي، لكن إذا علمنا أنه ذكي فهل الأصل أن المذكي سمى أو لا؟ نقول: الأصل أنه سمي؛ لما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن قوماً أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله: إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال: «سموا أنتم وكلوا» قالت وكانوا حديث عهد بكفر؛ لأن الأصل أن الفعل إذا صدر من أهله فهو صحيح حتى يقوم دليل الفساد.

*قال ابن رجب:

فإن تردد في شيء من ذلك لظهور سبب آخر رجع إلى الأصل فبني عليه، فيبني فيما أصله الحرمة على التحريم، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل الصيد الذي يجد فيه الصائد أثر سهم غير سهمه، أو كلب غير كلبه، أو يجده قد وقع في ماء، وعلل بأنه لا يدري: هل مات من السبب المبيح له أو من غيره؟

*تعليق الشيخ:

-فإن علم أنه مات من السبب المبيح حل يعني: مثلا لو أن هذا الطائر رماه وهو على غصن شجرة تحتها ماء فسقط الطائر، وقد تمزق بدنه من الرصاص ثم أدركه ميتاً فهنا يحل أو لا؟ يحل، لأنني أدري أنه مات بالرمي، أما لو كان بالرصاصة في جانب من بدنه ثم وجدته ميتاً، فهذا لا يحل، لأني لا أدري أمات بالرمي أو مات بالماء؟

ص: 317

*قال ابن رجب:

ويرجع فيما أصله الحل إلى الحل، فلا ينجس الماء والأرض والثوب بمجرد ظن النجاسة، وكذلك البدن إذا تحقق طهارته وشك: هل انتقضت بالحدث عند جمهور العلماء، خلافاً لمالك (رحمة الله)، إذا لم يكن قد دخل في الصلاة.

*تعليق الشيخ:

-مالك (رحمة الله) يفرق بين ما إذا شككت هل أحدثت وأنت تصلى، أو إذا شككت هل أحدثت وأنت لا تصلي، والصواب أنه لا فرق بين الحالين لأننا إذا أعملنا هذا الشك فلا فرق بين أن تكون في الصلاة أو خارج الصلاة؛ لأننا لو قلنا: إن هذا الشك يوجب الوضوء فلا فرق بين أن تكون في صلاة أو في غير صلاة فالصواب مع الجمهور، بمعنى: أن الإنسان إذا شك هل أحدث أم لا فبنى على الأصل وهو الطهارة حتى ولو حس بدبيب في ذكره، أو بريح في دبره مثلاً، ولم يتيقن فالأصل الطهارة.

*قال ابن رجب:

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه شكي إليه الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال:«لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً» وفي بعض الروايات: «في المسجد» بدل الصلاة. وهذا يعم حال الصلاة وغيرها، فإن وجد سبب قوي يغلب معه على الظن نجاسة ما أصله الطهارة مثل: أن يكون الثوب يلبسه كافر لا يتحرز من النجاسات، فهذا محل اشتباه، فمن العلماء من رخص فيه أخذا بالأصل، ومنهم من كرهه تنزيها، ومنهم من حرمه إذا قوى ظن النجاسة مثل: أن يكون الكافر ممن لا تباح ذبيحته أو يكون ملاقياً لعورته كالسراويل والقميص، وترجع هذه المسائل وشبهها إلى قاعدة تعارض الأصل والظاهر، فإن الأصل الطهارة والظاهر النجاسة. وقد تعارضت الأدلة في ذلك. فالقائلون بالطهارة يستدلون بأن الله أحل طعام أهل الكتاب، وطعامهم إنما يصنعونه بأيديهم في أوانيهم، وقد أجاب النبي صلى الله عليه وسلم دعوة يهودي، وكان هو وأصحابه يلبسون ويستعملون ما يجلب إليهم مما نسجه الكفار من الثياب والأواني، وكانوا في المغازي يقتسمون ما وقع لهم من الأوعية والثياب، ويستعملونها، وصح عنهم أنهم استعملوا الماء من مزادة مشركة.

ص: 318

والقائلون بالنجاسة يستدلون بأنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن آنية أهل الكتاب الذين يأكلون الخنزير، ويشربون الخمر، فقال: إن لم تجدوا غيرها، فاغسلوها بالماء ثم كلوا فيها. وقد فسر الإمام أحمد الشبهة بأنها منزلة بين الحلال والحرام: يعني الحلال المحض والحرام المحض، وقال: من اتقاها، فقد استبرأ لدينه، وفسرها تارة باختلاط الحلال والحرام. ويتفرع على هذا معاملة من في ماله حلال وحرام مختلط، فإن كان أكثر ماله الحرام، فقال أحمد: ينبغي أن يجتنبه إلا أن يكون شيئا يسيرا، أو شيئا لا يعرف، واختلف أصحابنا: هل هو مكروه أو محرم؟ على وجهين. وإن كان أكثر ماله الحلال، جازت معاملته والأكل من ماله. وقد روى الحارث عن علي أنه قال في جوائز السلطان: لا بأس بها، ما يعطيكم من الحلال أكثر مما يعطيكم من الحرام.

*تعليق الشيخ:

-بمعنى: إذا أعطاكم عشرة مثلاً وكان أكثر ماله الحلال كم أعطاكم من الحلال؟ ثمانية، ومن الحرام اثنان وأربعة أو ستة.

*قال ابن رجب:

وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعاملون المشركين وأهل الكتاب مع علمهم بأنهم لا يجتنبون الحرام كله. وإن اشتبه الأمر فهو شبهة، والورع تركه. قال سفيان: لا يعجبني ذلك، وتركه أعجب إلي. وقال الزهري ومكحول: لا بأس أن يؤكل منه ما لم يعرف أنه حرام بعينه، فإن لم يعلم في ماله حرام بعينه، ولكنه علم أن فيه شبهة، فلا بأس بالأكل منه، نص عليه أحمد في رواية حنبل. وذهب إسحاق بن راهويه إلى ما روي عن ابن مسعود وسلمان وغيرهما من الرخصة، وإلى ما روي عن الحسن وابن سيرين في إباحة الأخذ مما يقضي من الربا والقمار، نقله عنه ابن منصور. وقال الإمام أحمد في المال المشتبه حلاله بحرامه: إن كان المال كثيراً، أخرج منه قدر الحرام، وتصرف في الباقي، وإن كان المال قليلاً، اجتنبه كله. وهذا لأن القليل إذا تناول منه شيئاً، فإنه تبعد معه السلامة من الحرام بخلاف الكثير، ومن أصحابنا من حمل ذلك على الورع دون التحريم، وأباح التصرف في القليل والكثير بعد إخراج قدر الحرام منه، وهو قول الحنفية وغيرهم، وأخذ به قوم من أهل الورع منهم بشر الحافي.

ص: 319

ورخص قوم من السلف في الأكل ممن يعلم في ماله حرام ما لم يعلم أنه من الحرام بعينه، كما تقدم عن مكحول والزهري، وروي مثله عن الفضيل بن عياض. وروي في ذلك آثار عن السلف، فصح عن ابن مسعود أنه سئل عمن له جار يأكل الربا علانية ولا يتحرج من مال خبيث يأخذه ويدعوه إلى طعامه، قال: أجيبوه، فإنما المهنأ لكم والوزر عليه. وفي رواية أنه قال: لا أعلم له شيئاً إلا خبيثاً أو حراماً، فقال: أجيبوه. وقد صحح الإمام أحمد هذا عن ابن مسعود، ولكنه عارضه بما روي عنه أنه قال: الإثم حواز القلوب.

*تعليق الشيخ:

-فصار فيها لابن مسعود روايتان: الأولى: كل منه ولا نبالي مادمت أخذته بطريق مباح، وإن كان هو بنفسه كسبه عن طريق محرم، وهذا هو الذي لا يسع الناس غيره الآن؛ إذ إن الناس كثر فيهم الربا والعينة وكثر فيهم التحيل على الربا، فلو قلنا: إنك تتجنب دعواهم أو لا تجيبهم حصل في ذلك ضرر، وربما يحصل عداوة وبغضاء، فالناس الآن لا يسعهم العمل إلا بهذا القول الذي روي عن ابن مسعود بل صح عنه رضي الله عنه.

*قال ابن رجب:

وروي عن سلمان مثل قول ابن مسعود الأول، وعن سعيد بن جبير، والحسن البصري، ومورق العجلي، وإبراهيم النخعي، وابن سيرين وغيرهم، والآثار بذلك موجودة في كتاب «الأدب» لحميد بن زنجويه، وبعضها في كتاب «الجامع» للخلال، وفي مصنفي عبد الرزاق وابن أبي شيبة وغيرهم. ومتى علم أن عين الشيء حرام، أخذ بوجه محرم، فإنه يحرم تناوله، وقد حكي الإجماع على ذلك ابن عبد البر وغيره، وقد روي عن ابن سيرين في الرجل يقضي من الربا، قال: لا بأس به، وعن الرجل يقضي من القمار، قال: لا بأس به، خرجه الخلال بإسناد صحيح، وروي عن الحسن خلاف هذا، وأنه قال: إن هذه المكاسب قد فسدت، فخذوا منها شبه المضطر. وعارض المروي عن ابن مسعود وسلما، ما روي عن أبي بكر الصديق أنه أكل طعاماً ثم أخبر أنه من حرام، فاستقاءه.

ص: 320

وقد يقع الاشتباه في الحكم، لكون الفرع متردداً بين أصول تجتذبه، كتحريم الرجل زوجته، فإن هذا متردد بين تحريم الظهار الذي ترفعه الكفارة الكبرى، وبين تحريم الطلقة الواحدة بانقضاء عدتها الذي تباح معه الزوجة بعقد جديد، وبين تحريم الطلاق الثلاث الذي لا تباح معه الزوجة بدون زوج وإصابة، وبين تحريم الرجل عليه ما أحله الله له من الطعام والشراب الذي لا يحرمه، وإنما يوجب الكفارة الصغرى، أولاً: يوجب شيئاً على الاختلاف في ذلك فمن هاهنا كثر الاختلاف في هذه المسألة من زمن الصحابة فمن بعدهم.

*تعليق الشيخ:

-ذكر فيها أكثر من عشرة أقوال هذه المسألة إذا حرم الرجل زوجته، هل هو ظهار هل هو طلاق بائن، هل هو طلاق رجعي، هل هو يمين هل هو لغو؟ هذا فيه خلاف عن العلماء، والصواب أن الأصل أنه يمين إذا حرم زوجته فقال: زوجتي على حرام أو قال: أنت علي حرام فالأصل أنه يمين، لقوله الله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم: 2، 1]. ولاشك أن الزوجة مما أحل الله له، فتدخل في العموم فإن أراد الطلاق صار طلاقاً وإن أراد أنها حرام في حكم الله وشرعه كان كاذباً؛ لأن الله ما حرمها، فعلى كل حال نأخذ بالأصل، والأصل أن قول الرجل لزوجته: أنت على حرام، الأصل أنه يمين ودليله ما سمعتم [آية التحريم].

*قال ابن رجب:

وبكل حال، فالأمور المشتبهة التي لا يتبين أنها حلال ولا حرام لكثير من الناس، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، قد يتبين لبعض الناس أنها حلال أو حرام، لما عنده من ذلك من مزيد علم.

*قال الشيخ:

ونضيف أيضا أو نزيد فهماً.

*قال ابن رجب:

وكلام النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن هذه المشتبهات من الناس من يعلمها، وكثير منهم لا يعلمها، فدخل فيمن لا يعلمها نوعان: أحدهما: من يتوقف فيها، لاشتباهها عليه.

الثاني: من يعتقدها على غير ما هي عليه، ودل كلامه على أن غير هؤلاء يعلمها، ومراده أنه يعلمها على ما هي عليه في نفس الأمر من تحليل أو تحريم، وهذا من أظهر الأدلة على أن المصيب عند الله في مسائل الحلال والحرام المشتبهة المختلف فيها واحد عند الله عز وجل، وغيره ليس بعالم بها، بمعنى: أنه غير مصيب لحكم الله فيها في نفس الأمر، وإن كان يعتقد فيها اعتقاداً يستند فيه إلى شبهة يظنها دليلاً، ويكون مأجوراً على اجتهاده، ومغفوراً له خطؤه لعدم تعمده.

ص: 321

*تعليق الشيخ:

-اعتماده بمعنى: تعمده وهذا لاشك فيه أن المصيب واحد، ولا يمكن أن يكون المصيب اثنين أبداً، والدليل على هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قسم المجتهد إلى مخطئ ومصيب، وكيف يمكن أن يكون أحدهما يقول: هذا حرام باجتهاده، والثاني يقول: حلال باجتهاده، نقول: كلاهما مصيب! لأن هذا جمع بين النقيضين، وأما من قال: المجتهد مصيب ولو أخطأ في مسائل الفروع ومخطئ إذا أخطأ في مسائل الأصول، فهذا لا دليل عليه، فالمجتهد مصيب في اجتهاده، وقد يصيب حكم الله وقد لا يصيبه.

*قال ابن رجب:

وقوله صلى الله عليه وسلم: «فمن اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات، وقع في الحرام» ، قسم الناس في الأمور المشتبهة إلى قسمين، وهذا إنما هو بالنسبة إلى من هي مشتبهة عليه، وهو من لا يعلمها، فأما من كان عالماً بها، واتبع ما دله علمه عليها، فذلك قسم ثالث، لم يذكره لظهور حكمه، فإن هذا القسم أفضل الأقسام الثلاثة؛ لأنه علم حكم الله في هذه الأمور المشتبهة على الناس، واتبع علمه في ذلك. وأما من لم يعلم حكم الله فيه، فهم قسمان: أحدهما من يتقي هذه الشبهات، لاشتباهها عليه، فهذا قد استبرأ لدينه وعرضه. ومعنى «استبرأ»: طلب البراءة لدينه وعرضه من النقص والشين، والعرض: هو موضع المدح والذم من الإنسان، وما يحصل له بذكره بالجميل مدح، وبذكره بالقبيح قدح، وقد يكون ذلك تارة في نفس الإنسان، وتارة في سلفه، أو في أهله، فمن اتقى الأمور المشتبهة واجتنبها، فقد حصن عرضه من القدح والشين الداخل على من لا يجتنبها، وفي هذا دليل على أن من ارتكب الشبهات، فقد عرض نفسه للقدح فيه والطعن، كما قال بعض السلف: من عرض نفسه للتهم، فلا يلو منَّ من أساء به الظن. وفي روية للترمذي في هذا الحديث:«» . والمعنى: أنه يتركها بهذا القصد وهو براءة دينه وعرضه من النقص، لا لغرض آخر فاسد من رياء ونحوه. وفيه دليل على أن طلب البراءة للعرض ممدوح كطلب البراءة للدين، ولهذا ورد:«أن ما وقى به المرء عرضه، فهو صدقة» .

ص: 322

وفي رواية في الصحيحين في هذا الحديث: «فمن ترك ما يشتبه عليه من الإثم، كان لما استبان أترك» يعني: أن من ترك الإثم مع اشتباهه عليه، وعدم تحققه، فهو أولى بتركه إذا استبان له أنه إثم، وهذا إذا كان تركه تحرزاً من الإثم، فأما من يقصد التصنع للناس، فإنه لا يترك إلا ما يظن أنه ممدوح عندهم تركه. القسم الثاني: من يقع في الشبهات مع كونها مشتبهة عنده، فأما من أتى شيئاً مما يظنه الناس شبهة، لعلمه بأنه حلال في نفس الأمر، فلا حرج عليه من الله في ذلك، لكن إذا خشي من طعن الناس عليه بذلك، كان تركها حينئذ لستبراء لعرضه، فيكون حسناً، وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن رأياه واقفاً مع صفية:«إنها صفية بنت حيي» . وخرج أنس إلى الجمعة، فرأى الناس قد وصلوا ورجعوا، فاستحيى، ودخل موضعاً لا يراه الناس فيه، وقال:«من لا يستحيي من الناس، لا يستحيي من الله» . وخرجه الطبراني مرفوعاً، ولا يصح. وإن أتى ذلك لاعتقاده أنه حلال، إما باجتهاد سائغ، أو تقليد سائغ، وكان مخطئاً في اعتقاده، فحكمه حكم الذي قبله، فإن كان الاجتهاد ضعيفاً، أو التقليد غير سائغ، وإنما حمل عليه مجرد إتباع الهوى، فحكمه حكم من أتاه مع اشتباهه عليه، والذي يأتي الشبهات مع اشتباهها عليه، فقد أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقع في الحرام.

*تعليق الشيخ:

-القسم الأول من يأتي مسألة مشتبهة عند الناس، لكنه يعلم أنها حلال فهذا جائز عند الله عز وجل ولا حرج عليه في ذلك، لكن إذا خاف من ألسن الناس فينبغي تجنب ذلك، والثاني من يعتقد أنه حلال لكن لا يعلم ذلك، فهو يعتقد أنه حلال إما باجتهاد سائغ وإما بتقليد عالم والمجتهد -كما تعلمون- يمكن أن يخطئ أو يصيب، بخلاف الذي يعلم أنها حلال، فهذا حكمه حكم الذي قبله بمعنى: أنه يجوز له عند الله عز وجل ولا إثم عليه لكن إذا خاف من ألسن الناس فالأولى تجنب ذلك أو يختفي وأما إذا كان الاجتهاد ضعيفاً أو التقليد غير سائغ، ولكن قلد إتباعه لهواه؛ لأنه وجد أن هذا القول أهون فهذا لا يحل له ذلك، لأنه يقع في الحرام؛ لقوله:«من وقع في الشبهات وقع في الحرام» وما أكثر الذين يسلكون هذا المسلك اليوم تجده إذا استفتى عالماً ولم تعجبه فتواه ذهب إلى عالم آخر وهو كان يعتقد أن العالم الأول هو عمدته

ص: 323

وهذا حرام عليه، ولهذا قال العلماء رحمهم الله: من استفتى عالماً ملتزماً بفتواه لاعتقاده صحتها فإنه يحرم عليه أن يستفتي عالماً آخر لكن في هذه الحال لو أنه صادف مجلساً لعالم آخر تكلم في المسألة وبين أنها على خلاف ما أفتى به هذا المستفتي وذكر الأدلة واقتنع فهذا لا بأس أن يعدل عما أفتاه به الأول إلى ما سمع من الثاني، لكن في هذه الحال ينبغي أن يتكلم أو يناقش العالم الثاني إذا كان العالم الأول قد ذكر له الدليل فيقول له: أنت قلت أنه حلال فما تقول في هذا الدليل لأجل أن يكون على طمأنينة.

*قال ابن رجب:

وهذا يفسر بمعنيين: أحدهما: أنه يكون ارتكابه للشبهة مع اعتقاده أنها شبهة ذريعة إلى ارتكابه الحرام الذي يعتقد أنه حرام بالتدريج والتسامح. وفي رواية في الصحيحين لهذا الحديث: «ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم، أوشك أن يواقع ما استبان» . وفي رواية: «ومن يخالط الريبة، يوشك أن يجسر» ؛ أي: يقرب أن يقدم على الحرام المحض، والجسور: المقدام الذي لا يهاب شيئاً، ولا يراقب أحداً، ورواه بعضهم:«يجشر» بالشين المعجمة، أي: يرتع، والجشر: الرعي، وجشرت الدابة: إذا رعيتها. وفي مراسيل أبي المتوكل الناجي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرعى بجنبات الحرام، يوشك أن يخالطه، ومن تهاون بالمحقرات، يوشك أن يخالط الكبائر» . والمعنى الثاني: أن من أقدم على ما هو مشتبه عنده، لا يدري: أهو حلال أو حرام، فإنه لا يأمن أن يكون حراماً في نفس الأمر، فيصادف الحرام وهو لا يدري أنه حرام. وقد روي من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات، فمن اتقاها، كان أنزه لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات أوشك أن يقع في الحرام، كالمرتع حول الحمى، يوشك أن يواقع الحمى وهو لا يشعر» . خرجه الطبراني وغيره. واختلف العلماء: هل يطيع والديه في الدول في شيء من الشبهة أم لا يطيعهما؟ فروي عن بشر بن الحارث، قال: لا طاعة لهما في الشبهة، وعن محمد بن مقاتل العباداني قال: يطيعهما، وتوقف أحمد في هذه المسألة، وقال: يداريهما، وأبي أن يجيب فيها.

ص: 324

وقال أحمد: لا يشبع الرجل من الشبهة، ولا يشتري الثوب للتجمل من الشبهة.

*قال الشيخ:

لا يشبع بمعنى: أنه يقتصر على أدنى شيء في المال المشتبه فيه.

*قال ابن رجب:

وتوقف في حد ما يؤكل وما يلبس منها، وقال: في التمرة.

*تعليق الشيخ:

-هل خوفاً من أن يكون الطير أخذها بغير إذن صاحبها؟ أرى إن كان محتاجاً للأكل أخذها، وكذلك إذا سقطت في طريق تسلكه الأقدام فإنه يأخذها يأكلها أو يضعها.

*قال ابن رجب:

وقال الثوري في الرجل يجد في بيته الأفلس أو الدراهم: أحب إلى أن يتنزه عنها. يعني: إذا لم يدر من أين هي؟ وكان بعض السلف لا يأكل إلا شيئاً يعلم من أين هو، ويسأل عنه حتى يقف على أصله. وقد روي في ذلك حديث مرفوع، إلا أن فيه ضعفاً.

*تعليق الشيخ:

-الحمد لله أنه ضعيف فإن الناي لو كلفوا أن يبحثوا في هذا لشق عليهم كثيراً لكن تقول: مثلا هذا الذي باعه عليك من أين أتى به هل هو مغصوب، هل هو مسروق، هل هو مبيع على وجه الجهالة؟ فلو بحثنا في ذلك فسنجد أن فيه مشقة عظيمة، بل لو قيل: إن هذا من باب التنطع في دين الله الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبر بهلاك أهله لو قيل بذلك لم يكن بعيداً، وما علمنا أن أحداً من الصحابة يفعل بل الأصل أن ما بيد الإنسان فهو ملكه اللهم إلا من علم بسرقات أو غصب، فهذا قد يتوقف الإنسان فيه، وأما عامة الناس فالأصل أن ما في أيديهم ملكهم، ولا يحتاج إلى بحث.

*قال ابن رجب:

وقوله صلى الله عليه وسلم: «كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، وإن حمى الله محارمه» : هذا مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لمن وقع في الشبهات، وأنه يقرب وقوعه في الحرام المحض، وفي بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«وسأضرب لذلك مثلاً» ، ثم ذكر هذا الكلام، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم مثل المحرمات كالحمى الذي تحميه الملوك، ويمنعون غيرهم من قربانه،

ص: 325

وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم حول مدينته اثنى عشر ميلاً حمى محرماً لا يقطع شجره ولا يصاد صيده، وحمى عمر وعثمان أماكن ينبت فيها الكلأ؛ لأجل إبل الصدقة. والله عز وجل حمى هذه المحرمات، ومنع عبادة من قربانها وسماها حدوده، فقال:{تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ُ} [البقرة: 187]. وهذا فيه بيان أنه حد لهم ما أحل لهم وما حرم عليهم، فلا يقربوا الحرام، ولا يتعدوا الحلال، ولذلك قال في آية أخرى:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229].

*تعليق الشيخ:

-وإذا قال الله عز وجل: فلا تقربوها، فيعني: بالحدود المحرمات، وإذا قال: لا تعتدوها فيعني بها الواجبات، لأن الواجبات لا تتعدى ولا تتخطى، أما المحرمات فلا تقرب، وهذا ضابط جيد.

*قال ابن رجب:

حول الحمى وقريبا منه جديراً بأن يدخل الحمى ويرتع فيه، فكذلك من تعدى الحلال، ووقع في الشبهات، فإنه قد قارب الحرام غاية المقاربة، فما أخلقه بأن يخالط الحرام المحض، ويقع فيه، وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي التباعد عن المحرمات، وأن يجعل الإنسان بينه وبينها حاجزاً. وقد خرج الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الله بن يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس» . وقال أبو الدرداء: تمام التقوى أن يتقي الله العبد، حتى يتقيه من مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال، خشية أن يكون حراماً، حجاباً بينه وبين الحرام. وقال الحسن: مازالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام. وقال الثوري: إنما سموا المتقين لأنهم اتقوا ما لا يتقى. وروي عن ابن عمر قال: إني لأحب أن أدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال لا أخرقها. وقال ميمون بن مهران: لا يسلم للرجل الحلال حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزاً من الحلال.

ص: 326

وقال سفيان بن عيينة: لا يصيب عبد حقيقة الإيمان حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزاً من الحلال، وحتى يدع الإثم وما تشابه منه.

*تعليق الشيخ:

-هذا يريد بذلك المشتبهات وأن الحلال مبين فلاشك أن الإنسان يبلغ أن يكون من المتقين، وإن لم يدعه، ولكن يريد بذلك المشتبهات، وما روي من آثار السلف فهذا من باب الزهد، وهو تارك مالا ينفع في الآخرة.

*قال ابن رجب:

ويستدل بهذا الحديث من يذهب إلى سد الذرائع إلى المحرمات وتحريم الوسائل إليها، ويدل على ذلك أيضا من قواعد الشريعة تحريم قليل ما يسكر كثيرة، وتحريم الخلوة بالأجنبية، وتحريم الصلاة بعد الصبح وبعد العصر سداً لذريعة الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، ومنع الصائم من المباشرة إذا كانت تحرك شهوته، ومنع كثير من العلماء مباشرة الحائض فيما بين سرتها وركبتيها إلا من وراء حائل، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر امرأته إذا كانت حائضاً أن تتزر، فيباشرها من فوق الإزار.

*تعليق الشيخ:

-وسد الذرائع لابد أنه ثابت بالقاعدة الشرعية لأن الوسائل لها أحكام المقاصد ويدل لذلك قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]. فنهى عن سب آلهة المشركين لأنها ذريعة لسب الله عز وجل فدل ذلك على أن سد الذرائع أمر معتبر شرعاً.

*قال ابن رجب:

ومن أمثلة ذلك وهو شبيه بالمثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم: «من سيب دابته ترعى بقرب زرع غيره، فإنه ضامن لما أفسدته من الزرع، ولو كان ذلك نهاراً» ، هذا هو الصحيح، لأنه مفرط بإرسالها في هذه الحال. وكذا الخلاف لو أرسل كلب الصيد قريباً من الحرم، فدخل الحرم فصاد فيه، ففي ضمانه روايتان عن أحمد، وقيل: يضمنه بكل حال.

ص: 327

*تعليق الشيخ:

-ما ذكره من ضمان الزروع إذا أتلفته البهائم صحيح يعني: إذا أرسل بهيمته بقرب الزرع فإنه ضامن، لأنه أرسلها بقربه، ومعروف أن البهيمة إذا أرسلت بقرب الزرع سوف ترعى وتذهب إليه، سواء في الليل أو في النهار، لكن لو أرسلها بعيداً عن المزارع ثم هي مشت إلى المزارع وأكلت في النهار، فإنه ليس على صاحبها ضمان؛ لأن المزارع بالنهار على أصحابها أن يحفظوها ويحموها، والليل بالعكس، ووجه ذلك ظاهر؛ لأن الناس يطلقون مواشيهم في النهار توعى وتجول يميناً وشمالاً وأهل المزارع أيضا يقظون يشتغلون في مزارعهم يحمونها، أما في الليل فالأمر بالعكس ما أتلفت البهيمة من الزرع في الليل فهو على صاحبها ولو كان أرسلها بعيداً عن الزرع وذلك لأن أهل المزارع نائمون لا يستطيعون حمايتها، وأهل المواشي جرت العادة أنهم في الليل يحفظون مواشيهم.

*قال ابن رجب:

وقوله صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» ، فيه إشارة إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه، واجتنابه للمحرمات واتقاء للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه. فإن كان قلبه سليماً، ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يحبه الله، وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه، صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها، وتوقى الشبهات حذراً من الوقوع في المحرمات. وإن كان القلب فاسداً، قد استولى عليه إتباع هواه، وطلب ما يحبه، ولو كرهه الله، فسدت حركات الجوارح كلها، وانبعثت إلى كل المعاصي والمشتبهات بحسب إتباع هوى القلب. ولهذا يقال: القلب ملك الأعضاء، وبقية الأعضاء جنوده، وهم مع هذا جنود طائعون له، منبعثون في طاعته، وتنفيذ أوامره، لا يخالفونه في شيء من ذلك، فإن كان الملك صالحاً كانت هذه الجنود صالحة، وإن كان فاسداً كانت جنوده بهذه المثابة فاسدة، ولا ينفع عند الله إلا القلب السليم، كما قال تعالى:{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (89) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89، 88]. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: «أسألك قلباً سليماً» . فالقلب السليم: هو السالم من الآفات والمكروهات كلها، وهو القلب الذي ليس فيه سوى محبة الله وما يحبه الله، وخشية الله، وخشية ما يباعد منه.

ص: 328

وفي «مسند» الإمام أحمد، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه» . والمراد باستقامته إيمانه: استقامة أعمال جوارحه، فإن أعمال الجوارح لا تستقيم إلا باستقامة القلب، ومعنى استقامة القلب: أن يكون ممتلئاً من محبة الله، ومحبة طاعته، وكراهة معصيته. قال الحسن لرجل: داو قلبك؛ فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم. يعني: أن مراده منهم ومطلوبه صلاح قلوبهم، فلا صلاح للقلوب حتى تستقر فيها معرفة الله وعظمته ومحبته وخشيته ومهابته ورجاؤه والتوكل عليه، وتمتلئ من ذلك، وهذا هو حقيقة التوحيد، وهو معنى «لا إله إلا الله» ، فلا صلاح للقلوب حتى يكون إلهها الذي تألهه وتعرفه وتحبه وتخشاه هو الله وحده لا شريك له، ولو كان في السماوات والأرض إله يؤله سوى الله، لفسدت بذلك السماوات والأرض، كما قال الله تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]. فعلم بذلك أنه لا صلاح للعالم العلوي والسفلي معاً حتى تكون حركات أهلها كلها لله، وحركات الجسد تابعة لحركة القلب وإرادته، فإن كانت حركته، وإرادته لله وحده، فقد صلح وصلحت حركات الجسد كله، وإن كانت حركة القلب وإرادته لغير الله تعالى، فسد وفسدت حركات الجسد بحسب حركة القلب. وروى الليث عن مجاهد في قوله تعالى:{لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام: 151]. قال: لا تحبوا غيري.

*تعليق الشيخ:

-ومعلوم أن الإرادة والحركة تتبع المحبة، حتى إن ابن القيم في كتابه «روضة المحبين» قال: إن كل شيء يدل على المحبة لا يمكن للإنسان أن يفعل ما يؤمر ولا يجتنب ما ينهى إلا بمحبة الله عز وجل، فكل الإرادات تابعة للمحبة، وإذا كانت كذلك فإننا نقول: إذا حرك القلب نحو الله وأحب الله فلابد أن تصلح إرادته، ولو صلحت إرادته، صلحت جوارحه، وأما تمثيل المؤلف بأن القلب كالملك، فقد سبق لنا في شرح الحديث أن هذا أنقص مما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:«إذا صلحت، صلح الجسد» وصلاح الملك قد لا يستلزم صلاح الرعية.

ص: 329

*قال ابن رجب:

وفي صحيح الحاكم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء، وأدناه أن تحب على شيء من الجور، وأن تبغض على شيء من العدل، وهل الدين إلا الحب والبغض؟ قال الله عز وجل:{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]. فهذا يدل على أن محبة ما يكرهه الله، وبغض ما يحبه متابعة للهوى، والمولاة على ذلك والمعاداة عليه من الشرك الخفي، ويدل على ذلك قوله:{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} فجعل الله علامة الصدق في محبته إتباع رسوله، فدل على أن المحبة لا تتم بدون الطاعة والموافقة. قال الحسن: قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إنا نحب ربنا حباً شديداً. فأحب الله أن يجعل لحبه علما، فأنزل الله هذه الآية:{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]. ومن هنا قال الحسن: اعلم أنك لن تحب الله حتى تحب طاعته. وسئل ذو النون: متى أحب ربي؟ قال: إذا كان ما يبغضه عندك أمر من الصبر. وقال بشر بن السري: ليس من أعلام الحب أن تحب ما يبغضه حبيبك.

*تعليق الشيخ:

-ولذلك قال ابن القيم (رحمة الله):

(أتحب أعداء الحبيب وتدعي

حبا له ما ذاك في الإمكان)

فلا يمكن أن يدعي الإنسان حب الله وهو يحب أعداء الله هذا مستحيل.

*قال ابن رجب:

وقال أبو يعقوب النهر جوري: كل من ادعى محبة الله عز وجل، ولم يوافق الله، في أمره، فدعواه باطلة. وقال رويم: المحبة: الموافقة في كل الأحوال، وقال يحيى بن معاذ: ليس بصادق من ادعى محبة الله ولم يحفظ حدوده، وعن بعض السلف قال: قرأت في بعض الكتب السالفة: من أحب الله لم يكن عنده شيء آثر من رضاه، ومن أحب الدنيا لم يكن عنده شيء آثر من هوى نفسه.

ص: 330

وفي «السنن» عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أعطى لله، ومنع لله، وأحب لله، وأبغض لله، فقد استكمل الإيمان» . ومعنى هذا أن حركات القلب والجوارح إذا كانت لله فقد كمل إيمان العبد بذلك، ظاهراً وباطناً، ويلزم من صلاح حركات القلب صلاح حركات الجوارح، فإذا كان القلب صالحاً ليس فيه إلا إرادة الله وإرادة ما يريده لم تنبعث الجوارح إلا فيما يريده الله، فسارعت إلى ما فيه رضاه، وكفت عما يكرهه، وعما يخشى أن يكون مما يكرهه وإن لم يتيقن ذلك. قال الحسن: ما نظرت ببصري، ولا نطقت بلساني، ولا بطشت بيدي، ولا نهضت على قدمي حتى أنظر على طاعة أو على معصية؟ فإن كانت طاعة تقدمت، وإن كانت معصية تأخرت. وقال محمد بن الفضل البلخي: ما خطوت منذ أربعين سنة خطوة لغير الله عز وجل.

*تعليق الشيخ:

-مثل هؤلاء يقولون عن أنفسهم ذلك قد يقول قائل: أليس في هذا تزكية للنفس؟ فيقال: الأعمال بالنيات، والقوم لم يريدوا أن يزكوا أنفسهم عند الناس أهم شيء أن تكون أنفسهم زكية عند الله، لكن يقولون مثل هذا ليقتدي الناس بهم هذا قصدهم وليس قصدهم أن يمتدحوا عند الناس وأن يزكوا أنفسهم، لأن هذا لا يمكن أن يقع من مثل هؤلاء الأتقياء.

*قال ابن رجب:

وقيل لدواد الطائي: لو تنحيت من الظل إلى الشمس، فقال: هذه خطأ لا أدري كيف تكتب؟ !

*تعليق الشيخ:

-نقول: إنه لو تنحى من الظل إلى الشمس في أيام الشتاء لعلم أنها تكتب ماذا تكتب؟ تكتب حسنة؛ لأنه أراد بذلك الرفق بنفسه، والرفق بالنفس لاشك أنه خير وأنه جاءت به الشريعة، إن لنفسك عليك حقاً فهو -يرحمه الله- لا يفعل حتى الشيء المعلوم حسنة لا يفعله حتى يعرف كيف يكتب؟ !

*قال ابن رجب:

فهولاء القوم لما صلحت قلوبهم، فلم يبق فيها إرادة لغير الله عز وجل صلحت جوارحهم، فلم تتحرك إلا لله عز وجل وبما فيه رضاه والله تعالى أعلم.

ص: 331