الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنها: أنه لا حرج على الإنسان أن يدعو الله تعالى بحسنة الدنيا، والذي يضر الإنسان أن يؤثر الدنيا على الآخرة، أما أن يطلب الخير في الدنيا والآخرة فلا حرج عليه، ها هو النبي صلى الله عليه وسلم سيد الورعين والزاهدين يقول:"ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة"، ولاشك أن الله إذا منّ على الإنسان بحسنة الدنيا والآخرة فإن حسنة الدنيا ستكون عونًا له على حسنة الآخرة؛ لأنه يتفرغ ويعمل عملاً صالحًا.
ومن فوائد الحديث: إثبات الآخرة، وإثبات النار لقوله:"وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار".
ومن فوائد الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه لا يملك أن ينجي نفسه من النار، لقوله:"وقنا عذاب النار"، وهذا أمر لا يحتاج إلى تعمق أو تأمل لوضوحه، حتى إن الله تعالى أمره أن يقول معلنًا على الملأ:{إني لا أملك لكم ضرًا ولا رشدًا قل إني لن يجيرني من الله أحدٌ} يعني: لو أرادني بسوء لم يجيرني أحد، {ولن أجد من دونه ملتحدًا}؛ أي: لا أجد أحدًا ألجأ إليه دون الله.
من صيغ الاستغفار:
1497 -
وعن أبي موسي الأشعريَّ رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو: "اللهمَّ اغفر لي خطيئتي، وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به منَّي، اللهمَّ اغفر لي جدَّي، وهزلي، وخطئي، وعمدي، وكلُّ ذلك عندي، اللهمَّ اغفر لي ما قدَّمت وما أخَّرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به منَّي، أنت المقدَّم وأنت المؤخَّر، وأنت على كلَّ شيءٍ قديرٌ}. متفق عليه.
هذا دعاء مفصل وجامع وكله في دفع ما يضر الإنسان؛ أي: كل هذا السؤال سؤال الله تعالى أن يدفع ما يضر الإنسان، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"اللهم اغفر لي خطيئتي" وقد قال صلى الله عليه وسلم: "كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون"، وقوله:"وجهلي" هذا مقابل الخطيئة، فالخطيئة ما فعله عن عمدٍ، والجهل ما فعله عن خطأ، وفرق بين الخطيئة وبين الخطأ؛ لأنه سيأتي الخطأ في قوله "وخطئي وعمدي"، فالخطيئة أن يرتكب الإنسان الخطأ عن عمد.
فإن قال قائل: هل الرسول صلى الله عليه وسلم يتعمد الخطأ؟
نقول: لا يمكن أن يتعمده بقصد الخطأ، وإنما يتعمده لكونه يظن أن ذلك خير، ولكن يتبين أن الأمر بخلافه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر.
فإن قال قائل: كيف يقول: "اللهم غفر لي"، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فيمكن أن يجاب: بأن هذا قبل أن تنزل الآية، وهذا فيه شيء من الضعف؛ لأنه لا يمكن أن نجزم بذلك إلا بعد العلم بالتاريخ، وأبو موسي الأشعري من وفود الأشعريين المتأخرين، ولكن يقال: جواب أحسن من ذلك، وهو أن دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالمغفرة من جملة أسباب مغفرة الله عز وجل، فيكون الله تعالى وعده بأن يغفر ما تقدم من ذنبه وما تأخر لأسباب، ومنها: أن يستغفر الله عز وجل كما أن الله قال: {إنَّ الله وملائكته يصلُّون على النبي} ، ثم قال:{يا أيها الذين آمنوا صلُّوا عليه} [الأحزاب: 56].
قد يقول قائل: ما الفائدة من صلاتنا عليه وقد أخبرنا الله بأنه يصلي عليه؟
نقول: من أسباب صلاتنا عليه: أن ندعو له بذلك، وعلى هذا فلا منافاة.
وقوله: "خطيئتي وجهلي" أي: ما فعلت عن جهل؛ لأن الرسول لا يعلم الغيب، وقد يفعل الشيء يظنه صوابًا فيكون خطأ، إلا أنه يفرق بينه وبين غيره بأنه لا يقر على الخطأ.
"وإسرافي في أمري"، الإسراف: مجاوزة الحد، والأمر هنا بمعنى الشأن؛ أي: إسرافي في كل شئوني، وهذا من كمال صفاته صلى الله عليه وسلم أنه يكره الإسراف ويسأل الله تعالى أن يغفر له ما أسرف، والإسراف كما سمعتم: مجاوزة الحد، والإنسان بشر قد يتجاوز الحد بمأكله أو مشربه أو ملبسه أو مسكنه أو مقاله أو فعاله، الإنسان معرض لهذا.
"وما أنت أعلم به مني"، كيف يمكن أن نقول: إن الله أعلم بك منك في أفعالك؟ نقول: نعم، الله أعلم؛ لأن علمه بما فعلت ثابت لا يتطرق إليه نسيان، وعلمي أنا بما فعلت أنسى، وإلا فمن المعلوم أن ما لم أفعله لا أؤاخذ به، لكن ما فعلته فقد أنساه، وحينئذٍ أكل علمه إلى الله، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"ما أنت أعلم به مني" ليس المراد الذنب في المستقبل؛ لأن الذنب ف المستقبل لا مؤاخذة فيه، المراد: الذنب الماضي الذي قد يكون الإنسان نسيه، فيسأل الله أن يغفر ما هو أعلم به منه.
"اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي"، هذا الذكر سيكون فيه إشكال أولاً: جدّي الجد ضد الهزل، وهو ما قصده الإنسان بلفظه أو بفعله؛ لأن الإنسان قد يلفظ لفظًا يكون مازحًا هازلاً، وقد يفعل فعلاً يكون هازلاً مازحًا، وقد يكون جادًا في ذلك، فالمراد بالجد هنا: ضد الهزل، بدليل أنه عطف عليه قوله:"وهزلي".
فإن قال قائل: وهل الهزل يؤاخذ به الإنسان؟
نعم يؤاخذ، أحيانًا يكون الهزل من كبائر الذنوب، وأحيانًا يكون الهزل مما يخرج الإنسان
من الإيمان، لو هزل بشيء من آيات الله أو بشيء من أحكام الله أو بشيء من صفات الله أو بالله عز وجل ماذا يكون؟ يكون كافرًا. يقول: "اللهم اغفر لي جدي وهزلي
…
الخ"، الجد ضد الهزل، يعني: ما يفعله الإنسان حقيقة، والهزل ما يفعله هزلاً ومزحًا وما أشبه ذلك، والإنسان تارة يكون قوله هزلاً وتارة يكون قوله جدًا، وتارة يكون فعله هزلاً وتارة يكون فعله جدًا لو أنك أشرت بشيء بعصا تريد أن تضرب بها شخصًا تمزح معه صار هذا هذلاً، ولو أنك ضربته صار جدًا، والإنسان يفعل هذا مرة وهذا مرة، وقد يزلّ في هذا وهذا، ولهذا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يغفر له الجد والهزل.
"وخطئي وعمدي"، الخطأ: يعني ما أخطأ فيه الإنسان، وهو كقوله تعالى:{ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة: 268].
فإن قال قائل: كيف يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يغفر خطأه مع أن الله تعالى قال: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} قال الله: قد فعلت، فما الجواب؟
قلنا: الجواب من وجهين: أولاً: قد يكون هذا الدعاء قبل نزول الآية؛ لأن الآية فيما تعلمون مدنية، وقد يكون هذا من أجل أن الإنسان قد يفعل الخطأ مع تقصير في معرفة الصواب، وهذا يقع كثيرًا؛ بمعنى: أن الإنسان يتهاون ولا يحتاط ولا يبحث بعمق عن معرفة الخطأ من الصواب، فيكون بذلك قاصدًا، "عمدي" ما فعلته عن عمد، وهنا نقول: كيف نقول "عمدي" يعني ما فعلته عن عمد مع أنا فسرنا "أغفر لي خطيئتي وجهلي" بأن الخطيئة: ما فعلته عن عمد؟ الجمع إما أن يقال: إن باب الدعاء لا بأس أن تكرر فيه الكلمات بمعنى واحد، وإما أن يقال: الخطأ الأول هو ترك الواجب، وفي الثاني فعل المحرم، الذي يخطئ فيه الإنسان كثيرًا.
"وكل ذلك عندي" هذا إقرار واعتراف من العبد بأن كل هذه الأشياء التي سأل الله أن يغفرها له كلها عنده، والإقرار بالذنب بالنسبة لله عز وجل هو دعاء؛ يعني: أنت إذا أقررت عند الله عز وجل فإنك إذا أقررت بذنبك فكأنك تتوب كقوله صلى الله عليه وسلم في الدعاء الذي علمه أبا بكر رضي الله عنه قال: "قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا"، هذا اعتراف بالذنب، وحقيقته: أنك تدعو الله عز وجل أن يعفو عنك ما ظلمت به نفسك.
"اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني""ما قدمت" أي: مما يحتاج إلى مغفرة من تفريط في واجب أو فعل محرم، وقد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بذلك على سبيل التذلل لله عز وجل، وإلا فإنه صلى الله عليه وسلم لا يقر على محرم، "وما أخرت" أي: ما
يأتي آخرًا؛ أي: بعد قولي هذا؛ لأن قول الإنسان محفوف بزمنين: زمن سابق، وزمن لاحق، فما فعله في الزمن السابق فهو ما قدم، وما يفعله في الزمن اللاحق فهو ما أخر، "وما أسررت وما أعلنت" أيضًا ما يفعله الإنسان إما أن يفعله سرًا، وإما أن يفعله علنًا، ولاشك أن ما يفعله جهرًا أشد عند الله تعالى مما يفعله سرًا، وهذا باعتبار الذنوب والمعاصي، فإن من أسر بالذنب ليس كمن أعلنه، الثاني أشد وأقبح، "وما أنت أعلم به مني" هذه مع الأول مكررة، لكن كما قلنا: الدعاء لا بأس فيه من التكرار، "وما أنت أعلم به مني" أي: مما فعلت.
"أنت المقدم وأنت المؤخر"، أنت المقدم للأشياء وأنت المؤخر للأشياء، كم من شيء يتوقع الإنسان أن يقع ثم يتأخر، وكم من شيء لا يتوقعه الإنسان ثم يأتي، فالمقدم هو الله، يقدم ما شاء، مثلاً: يقدم فوز إنسان ويؤخر فوز إنسان، يقدم حياة إنسان ويؤخر حياة إنسان، يقدم موت إنسان ويؤخر موت إنسان، فالأمر كله بيده عز وجل "وأنت على كل شيء قدير"، وضد القدرة العجز وهو قوي على كل شيء وضد القوة الضعف وبينا شواهد ذلك من القرآن.
في هذا الحديث فوائد: أولاً: فضيلة الدعاء بهذا لوجهين: الأول: ما يحصل به من فائدة للإنسان، والثاني: التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن فوائد الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يقع منه الخطأ؛ ولهذا طلب المغفرة.
فإن قال قائل: لعل النبي صلى الله عليه وسلم قصد بذلك التعليم، وأنه لم يقع منه الخطأ.
فالجواب: هذا خلاف الظاهر؛ لأنه لو قصد التعليم لقال: استغفروا الله تعالى من الخطايا، أو قولوا: اللهم اغفر لي خطيئتي، ويرد على هذا أيضًا بأن الله تعالى صرح بأن للرسول صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لذنبه وللمؤمنين، فقال:{فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} [محمد: 19].
إذن لو قال قائل: إذا قررت هذا فما الفرق بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين غيره من البشر؟
فالجواب: الفرق من عدة أمور، أولاً: النبي لا يمكن أن يقع منه الشين إطلاقًا، ثانيًا: لا يمكن أن يقع منه التكذيب، ثالثًا: لا يمكن أن يقع منه ما يخل بالشرف والأخلاق الفاضلة، رابعًا: أنه لا يقع منه شيء من الكبائر إلا عن اجتهاد، ثم يمنّ الله عليه بالتوبة، خامسًا: أنه لو قدر أنه حصل منه صغيرة من الصغائر فإنه لا يقرّ عليه لابد أن ينبَّه لها وأن يقلع عنها، أما غيره فكل هذا يمكن في حقه وكفى بذلك شرفًا- عليهم الصلاة والسلام- أن يكونوا منزهين عن مثل هذه الأمور.
ومن فوائد الحديث: أن الإسراف عرضة للعقوبة لقوله: "وإسرافي في أمري"، ويدل لذلك
أن الله تعالى قال: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} [الأعراف: 31]. فأمر بحفظ النفس والإبقاء عليها، ونهى عن الإسراف، والإسراف- كما شرحناه- هو مجاوزة الحد.
ومن فوائد الحديث: إثبات أن الله تعالى أعلم بالإنسان من نفسه لقوله: "وما أنت أعلم به مني"، والإنسان إذا علم بذلك فسوف يستحي من الله تعالى أن يجده في محل نهاه عنه أو يفقده في محل أمره به، مادامت تعلم أن الله يعرف حالك السرية والجهرية، فإنك لابد أن تستحي من الله عز وجل.
ومن فوائد الحديث: إثبات صيغة أفضل في علم الله لقوله: "أعلم"، وهذا واقع كثيرًا في القرآن، قال الله تعالى:{إن ربك هو أعلم بمن ضلَّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} [القلم: 7]. والعجب الذي لا ينقضي أن بعض العلماء- عفا الله عنا وعنهم- قالوا: أعلم بمعنى عالم؛ لأن اسم التفضيل يستلزم المشاركة أو الاشتراك بين المفضل والمفضل عليه في أصل المعنى، وإذا أثبت ذلك صار هذا نوعًا من الشرك، ولهذا يفسرون "أعلم" في القرآن بعالم وهذا من الخطأ المحض من جهتين: الجهة الأولى: أن هذا إبطال لما دل عليه القرآن، والقرآن نزل باللغة العربية، واللغة العربية تفرق بين أعلم وعالم، ثانيًا: أنك إذا جاءت آية بمعنى عالم فقد أثبت العلم لله ولغيره على حد سواء؛ لأن الله عالم، ونحن أيضًا عالمون، قال الله تعالى:{وتلك الأمثال نضربها للنَّاس وما يعقلها إلَاّ العالمون} [العنكبوت: 43]. لكن إذا قلت: الله أعلم، حينئذ نميز الخالق من المخلوق وهذا هو الأكمل، قال الله تعالى:{ولله المثل الأعلى} [النحل: 60]. ولهذا نقول: الله أعلم وأقدر وأبصر وأقوى
…
الخ، الصفات التي يشترك في أصلها الخالق والمخلوق فله منها أكملها وأعلاها، هذه قاعدة معروفة عند الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته.
ومن فوائد الحديث: أن الإنسان قد يؤاخذ على هزله كما يؤاخذ على جده لقوله: "اللهم اغفر لي جدي وهزلي"، وحينئذٍ يجب على الإنسان أن يحترز ويحترس من المزح، ولاسيما المزح الكثير، فإن المزح الكثير يوقع دائمًا في الخطأ، ولهذا يقال: المزح في الكلام كالملح في الطعام إن خلا منه الطعام فقد جزءًا كبيرًا من الطعم اللذيذ، وإن كثر أيضًا فسد، ولهذا اجعل المزح موزونًا في محله لا تمزح في موضع الجد، ولا تجد في موضع المزح، والإنسان الحكيم العاقل ينزل كل حال منزلتها.
ومن فوائد الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل الله أن يغفر له ما قدم وما أخر، وهنا يوجد إشكال، كيف يسأل الرسول أن يغفر ما قدم له وما أخر، وقد قال الله له: {ليغفر لك الله ما تقدَّم من
ذنبك وما تأخر} [الفتح: 2]. والصحابة يقولون له: إن الله غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويقرهم على ذلك؟ الجواب أن يقال: إن هذا الدعاء من باب التوكيد، وقد يكون من أسباب أن الله غفر له مات قدم من ذنبه وما تأخر هو الدعاء، ولهذا أخبرنا الله عز وجل أنه يصلي هو وملائكته على النبي، وقال لنا:{صلوا عليه} ، يعني اسألوا الله أن يصلي عليه، فكيف يصح؟ نقول: نعم، هو يصلي عليه عز وجل، لكن لعل من أسباب الصلاة عليه أيضًا أن ندعوا له، وهذا كثير أن تكون الأسباب للشيء الواحدة متعددة.
ومن فوائد الحديث: أن الإنسان قد يسر، وقد يعلن في الذنوب، أما المعلن- والعياذ بالله- فهذا أسوة سيئة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، فهو آثم من جهتين: من جهة أنه فعل معصية، ومن جهة أنه جهر بها، وحينئذٍ يتأسى الناس به من جهة وتهون المعصية في نفوس الناس؛ لأن الشيء إذا انتشر هان عند الناس؛ ولهذا يقول العامة كلاماً مضبوطاً يقولون: بكثرة الإمساك يقل الإحداث، وهذا مشاهد الإنسان إذا سمع المنكر أول ما يسمعه تجده يستنكر منك ويشوش به، لكن إذا فعل مرة بعد أخرى هان، فالمجاهرة بالمعاصي هو قد أساء إلى نفسه أولاً وأساء إلى غيره ثانياً، وأساء إلى الشريعة ثالثاً، أما من أسر فهو أهون يكون الأمر بينه وبين الله، وقد يتوب إلى الله، لكن من الناس من ير ثم يعلن، وهذا هو الذي فقد العافية كما جاء في الحديث:«كل أمتي معافى إلا المجاهرون» وهم الذين يفعلون المعاصي سراً ثم يصبحون يتحدثون بها.
ومن فوائد الحديث: وصف الله تعالى بهذين الوصفين المقدم والمؤخر، وهل هما اسمان من أسماء لله أو وصفان من أوصافه؟ يحتمل هذا وهذا، يحتمل أنهما اسمان من أسماء الله؛ لأنهما جاءا معرفا باللام، يحتمل أنهما وصفان، ولكن على الاحتمال الأول يقال فيهما: هما اسمان مزدوجان مقترنان؛ بمعنى: أنه لا يصح إفراد أحدهما عن الآخر، لأنك إذا قلت: أنت المقدم فقد عرفنا أنه مقدم، لكن بقي شيء آخر وهو التأخير ضد التقديم، فلابد أن نقول وأنت المؤخر مثل هو الأول والآخر والظاهر والباطن، فلابد أن نقول: ما يقابل ذلك حتى تكون الإحاطة في الزمن السابق وفي الزمن اللاحق.
ومن فوئد الحديث: إثبات اسم الله تعالى القدير، وسبق لنا البحث في هذه المسألة، وبيان أن قول بعض الناس:«إنه على ما يشاء قدير» غير سديد ولا ينبغي، وأنه يوهم معنى فاسداً وهو مذهب أهل الاعتزال، الذين يقولون: أن الله لا يشاء أفعال العباد، وإذا لم يشأها فليس قادراً إلا على ما يشاء، وحينئذٍ لا يكون قادراً على أفعال العباد فلا يقدر أن يهدي ضالاً ولا أن يضل مهتدياً.