الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاعتبار بالقيافة في ثبوت النسب:
1359 -
وعن عائشة رضي الله عنه قالت: «دخل على رسول صلى الله عليه وسلم ذات يوم مسرورا، تبرق أسارير وجهه، فقال: ألم تري إلى مجزز المدلجي؟ نظر آنفا إلى زيد بن حارثة، وأسامة بن زيد، فقال: هذه الأقدام بعضها من بعض» . متفق عليه.
كلمة "ذات" ترد في اللغة العربية على عدة أوجه، منها: الزيادة للتوكيد مثل هذا اللفظ: "ذات يوم" فهنا كلمة "ذات" زائدة؛ إذ إنك لو حذفتها فقلت: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم يوما صح [الكلام]، إذن هي زائدة للتوكيد، وأيضا فيها زيادة على التوكيد زيادة الإبهام؛ لأن "ذات يوم" مبهم، وقولها:"مسرورا" هذه حال من النبي صلى الله عليه وسلم، "تبرق أسارير وجهه" حال أخرى، و"تبرق" أي: تلمع، وأسارير الوجه هي مغابنه التي تكون في الجبهة، وإنما تبرق إذا دخل السرور على الإنسان، وأيضا الوجه -بإذن الله- مع السرور يستنير ويتوسع ويحس به الإنسان.
فقال: "ألم ترى
…
إلخ"، أي: ألم تعلمي، والاستفهام هنا للتقرير، والمغنى: أعلمت، وهو لتقرير الحكم الواقع، وقوله: "مجزز" اسم فاعل من جزز المزيدة، وأصلها غير مزيدة من جز، وهذا الرجل وصف بذلك؛ لأنه إذا كان عنده أسرى جز رءوسهم وأطلقهم ومن عليهم بالإطلاق.
"والمدلجي" من بني مدلج، "نظر آنفا" أي: قريبا، "إلى زيد بن حارثة" وزيد بن حارثة مولى الرسول صلى الله عليه وسلم، وهبته له خديجة رضي الله عنه فأعتقه فصار مولى له، "وأسامة بن زيد" ابنه، وكان لونهما مختلفا: أسامة أسود؛ لأن أمه حبشية، وزيد أبيض.
هذا الذي نعرفه، لكن عندي في الحاشية يقول: وكان أسامة أبيض، لكن المعروف أن أسامة هو الأسود؛ لأن أمه حبشية فصار على لون أمه، وأبوه زيد أبيض، فكان المشركون ينالون من عرضه، لأنه له صلة بالنبي صلى الله عليه وسلم، لو كان مولى واحد من قريش ما همهم الأمر، لكن لأنه مولى للنبي صلى الله عليه وسلم أرادوا أن يطعنوا فيه، فكانوا يتكلمون كيف يكون الابن أسود والأب أبيض، والنبي صلى الله عليه وسلم -كما تعلمون- مغنم من ذلك أن يقال هذا في مولاه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه ويحب ابنه، حتى إنه يلقب -أعني: أسامة- بجب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه، فكان هذا يحزن الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما مر هذا المجزز وكان قائفا نظر إلى أسامة وأبيه وكان فوقهما كساء لم يخرج منها إلا الأقدام فقط ولعله لا يعرفهما فقال:"إن هذه الأقدام بعضها من بعض"؛ لأنه قائف، فسر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم أن شهد هذا القائف بأن هذه الأقدام بعضها من بعض، ولا يكون بعضها من بعض إلا أن أحدهما ابن الآخر؛ لأن الولد بضعة من أبيه، فسر ذلك.
ففي هذا الحديث فوائد: منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر يلحقه البشر من السرور والحزن لقولها: "دخل علي مسرورا".
ومنها أيضا: أنه ينبغي للإنسان أن يسر بمثل هذه الأمور التي يظهر بها الحق وينجلي بها، وتزول بها التهم عمن ليس من أهلها؛ لأن القلب الحجر لا يبالي، لا يسر بما يسر ولا يحزن بما يحزن، تجد قلبه حجريا لا يتأثر، والإنسان الرقيق اللين هو الذي يتأثر بمثل هذه الأمور سرورا أو حزنا.
ومنها: حرص النبي صلى الله عليه على حماية الأعراض، وكما أن الله عز وجل يحمي الأعراض بحد القذف ثمانين جلدة وألا تقيل له شهادة -أي: القاذف- وأن يكون فاسقا، فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم يحب حماية الأعراض.
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم من خير الناس لأهله، بل هو خير الناس لأهله؛ حيث دخل على أصغر نسائه عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأخبرها الخبر مما يدل على ينبغي للإنسان أن يكون مع أهله ممتزجا مختلطا لا يخفي عليهم شيئا، كما أنه لا ينبغي أن يخفوا عليه شيئا.
ومنها: أن اختلاف اللون بين الأب وابنه أو بين الأم وابنها لا يستلزم التهمة، ويدل لذلك أيضا: ما ثبت في الصحيحين أن رجلا قال: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلاما أسود -وكان الرجل وزوجته غير أسودين -وكأنه إما أنه يعرض بامرأته، وإما أنه يسأل الرسول كيف كان ذلك؟ الكلام محتمل، يعني: كيف يولد غلام أسود من بين أبوين أبيضين؟ ! وكان الرجل أعرابيا صاحب إبل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«هل لك من إبل» ، قال: نعم، قال:«ما ألوانها؟ » ، قال: حمر، قال:«هل فيها من أورق؟ » قال: نعم، والأورق هو الذي لونه أبيض وفيه شيء من السواد كلون الفضة التي تسمى الورق، قال:«من أين أتاها ذلك؟ » ، قال: لعله نزعه عرق -عرق من آبائه أو أجداده أو أمهاته - فقال: «فابنك هذا لعله نزعه عرق» ، انظر للتعليم، ذكر الدليل قبل الحكم حتى يأتي الحكم والإنسان مقتنع تماما، فاللون لا ينبغي أن يكون سببا للتهمة، فقد يكون هناك عرق سابق، مع أن قضية أسامة وأبيه قريبة المسألة، من الذين يدعون بهذا؟ الأم قريبة أمه حبشية.
ومن فوائد الحديث: العمل بالقيافة، وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرها وسر بها، أي: بالحكم بها، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقر على باطل، ولا يسر بالباطل، فالقيامة حكم شرعي، دلت السنة عليه مبنية على الشبه.
ولهذا نقول: القافة هم قوم يعرفون الأنساب بالشبه، والقائف: هو الذي يعرف الإنسان بالشبه، ولهذا قال العلماء رحمهم الله: إذا تنازع رجلان في غلام ولا بينة لأحدهما فإنه يعرض على القافة، فمن ألحقته به لحقه، لكن لو ألحقته بالاثنين جميعا هل يلحق؟
الفقهاء يقولون: نعم، يمكن أن يلحق الأبوين جميعا، لكن الأطباء يقولون: لا، لا يمكن أن يلحق بأبوين، فهل نرجع إلى كلام الفقهاء المبني على النظر أو نرجع إلى كلام الأطباء المبني على المحسوس؟
هذه ما لنا بها دخل، المهم: العمل بالقيافة، وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرها وسر بها، ولا يقر على باطل، ولا يسر بباطل.
فإذا قال لنا قائل: عن شخص مشتبه بنسبه قال: هذا ولد فلام ولم يدعيه أحد فهل يحكم له به؟ الجواب: نعم، يحكم له به ما لم يكذبه الحس، فإن كذبه الحس فإنه لا يحكم له به، مثل أن يقول: هذا ولد فلان، وللغلام خمس سنوات وللآخر ثماني سنوات هذا لا يمكن، وهل يلحق بالنسب غيره؛ بمعنى: لو أن القائف حكم بشيء من الأموال أو من الحقوق فهل يلحق بالنسب؟
في هذا خلاف بين العلماء، منهم من قال: إنه يلحق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما حكم بالقيافة لأنها دليل ليس لأنها حكمت بنسبه، والدليل يكون في كل شيء.
ومنهم من قال: إنه لا يكون إلا في النسب؛ وذلك لأن الشارع له تشوف لثبوت الأنساب، لكن العمل الآن على الأول أنه يعمل بالقيافة، لكنه يؤخذ الإنسان ويقرر حتى يقر، فلو قال القائف: هذا الأثر قدم فلان فإنه يحكم بذلك، ويؤتى بالرجل ويقرر، ولا يقال: إننا لا نلفت لقول القائف إطلاقا.
ولقد حدثني بعض القافة أنه إذا رأى قدم إنسان فكأنما رأى وجهه وإن لم يوجد التباس حتى إنه يقول: وإن لم أكن أعرفه، وهذه غريبة، والقافة أيضا يعرفون أثر البعير إذا كانت كبيرة أو صغيرة أو حاملا أو غير حامل، بل إنهم يصلون إلى اللون، يعرفون اللون وهذا شيء غريب، لولا أنهم يستفيدون بالأمور المحسوسة لقلنا: إنهم يدعون الغيب وليس كذلك.
وكان في هذا البيت قائف يجيد القيافة تماما فتسلق رجل سارق الجدار وسرق وكان من أقارب أهل البيت، بمعنى: أنه تبعد تهمته، فجاء هذا القائف فرأى إبهامه في الجدار -لما أراد أن يتسلق أثر إبهام رجله في الجدار -فقال لمن معه- وكان الذي معه خدم الأمير-: انصرفوا عرفنا الرجل، بماذا؟ بإبهام رجله، فذهب القائف إلى صاحبه وقال: يا فلان، لماذا تسرق من أقاربك -أرحامك وأنسابك- يعني: بالقرابة وليس بالمصاهرة؟ قال: لم أسرق قط! من قال لك أني سرقت؟ ! ما سرقت، قال: على كل حال أنا علمتك، أعطني السرقة لأردها وهذا المطلوب، وإلا ما عندي في أنك أنت السارق، فلما تبين الأمر أعطاه المسروق.
فالصحيح: أنه يعمل بالقيافة حتى في الأموال، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رجمه الله، وربما يستدل لذلك بقصة داود وسليمان:{وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين} [الأنبياء: 78]. فإنه لا يدري أنها نفشت إلا بالأثر.
* * *
كتاب العتق
ويشتمل على:
1 -
باب المدبر والمكاتب وأم الولد