الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حدث بعد القرون الثلاثة في آخر القرن الثالث، بدأوا يتكلمون عن الحقيقة والمجاز ويشققون الكلام، لو أن أحدًا قال في مدح إنسان: إنه كثير الرماد، طويل النجاد، رفيع العماد، هذا كناية عن الكرم والشجاعة، لو قال: إنه كثير الرماد يعني: إنه يحرق الحطب حتى يصير رمادًا هل أحد يوافق على هذا؟ لا، إذن نعلم أن كثير الرماد بأنه كريم، فهو حقيقة في معناه حسب الحال، طويل النجاد يعني: علاقة السيف ويدل على طوله، لكن هذا لا يمنع حقيقة أنه طويل النجاد، أي: علاقة السيف في الواقع، رفيع العماد يعني: أن خيمته عمودها مرتفع ليتبين أنه سيد قومه، على كل حال القول بأنه لا مجاز في اللغة لاشك أنه أقرب إلى الصواب بناء على أننا نقول: إنّ المعنى المراد باللفظ هو السياق وقرائن الأحوال.
حكم نذر المكان المعين:
1323 -
وعن ثابت بن الضَّحَّاك رضي الله عنه قال: "نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحر إبلاً ببوانة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال: هل كان فيها وثن يعبد؟ قال: لا. قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ فقال: لا. فقال: أوف بنذرك؛ فإنَّه لا وفاء لنذرٍ في معصية الله، ولا في قطيعة رحمٍ، ولا فيما لا يملك ابن آدم". رواه أبو داود، والطَّبرانيُّ واللَّفظ له، وهو صحيح الإسناد.
- وله شاهد: من حديث كردمٍ عند أحمد.
يقول ثابت بن الضحاك "نذر رجل
…
الخ" "بوانة" اسم مكان، والرجل مبهم، وكما قررنا كثيرًا بأن إبهام صاحب القصة لا يضر، "ينحر إبلاً ببوانة" لكن لماذا خص هذا المكان: هل هو لفضل المكان أو لحاجة أهله أو لأن فيه أقارب لهذا الرجل؟ نقول: أعلم لكن ليس أفضل المكان قطعًا؛ لأن هذا المكان ليس له فضيلة في حد ذاته، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم خاف أن يكون هذا الرجل الذي عيَّن هذا المكان أنه لحظ كونه فيه أوثان أو أنه عيد من أعياد الكفار؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وقع في ذهنه كيف يخصص هذا المكان لأي شيء؟ فسأل عن المحذور دون السبب الموجب فقال: "هل كان فيها وثن يعبد" قال: لا. والوثن: كل ما عبد من دون الله من قبر أو صنم أو شجر أو حجر أو غير ذلك، قال: لا، قال قوله: "وثن يعبد"، هل هذا قيد لبيان الواقع أو قيد احترازي؟ الظاهر أنه لبيان الواقع؛ إذ لا نعلم أن أوثانًا تنصب، ولكنها لا تعبد، قال: "فهل كان فيها عيد من أعيادهم"، بحيث يترددون إلى هذا المكان ويحيونه كل سنة على وجه
معتاد؟ قال: "لا"، قال:"فأوف بنذرك" الأمر هنا الظاهر أنه للإباحة إذا قصد بذلك المكان المعين، أما إذا قصد مطلق النذر فهو للوجوب، فقال:"أوف بنذرك" ثم علَّل فقال: "إنه لا وفاء لنذر في معصية الله" ولو كان هذا المكان فيه الوثن أو فيه عيد من أعياد المشركين لكان النذر نذر معصية. ولا في قطيعة رحم بأن يقول: لله علىّ نذر إن لم يأت قريبي بكذا وكذا ألا أكلمه هذا حرام؛ لأنه في قطيعة رحم، ومن هم الرحم الذين تجب صلتهم؟ هم قرابة الإنسان من الجد الرابع فأنزل كما ذكر العلماء هذا في كتاب الوقف أنه لو وقف على قرابته، فإنه يكون من الجد الرابع وما نزل، "ولا فيما لا يملك ابن آدم" يعني: من الأمور التي لا يملكها شرعًا أو لا يملكها قدرًا، فلو نذر شيئًا مستحيلاً قلنا: لا نذر في المستحيل، ولكن هل يجب عليه الكفارة، سبق الكلام عليه.
في هذا الحديث فوائد: منها: جواز تعيين المكان للنذر إذا كان هذا لغرض صحيح، فلو نذر أن يتصدق بالمدينة ثم أراد أن ينقله إلى بيت المقدس فلا يصح؛ لأنه انتقل إلى مفضول.
ومن فوائد هذا الحديث: أنه لا يجوز الذبح لله حول الأصنام والأوثان، وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم رتب الإباحة على انتفاء الوثن، فدل هذا على أنه لو وجد الوثن، فإنه لا يجوز أن تذبحه ولو كان الذبح لله، لئلا يغتر أحد بفعله، حيث يظن أنه ذبح لغير الله، وهذا يتفرع عليه فائدة أخرى أكبر، وهو: سد ذرائع الشرك ولو كانت بعيدة.
ومن فوائد الحديث: أنه لا يجوز أن نخص المكان إذا كان مخصوصًا لأعياد المشركين، دليله:"هل كان فيه عيد من أعيادهم؟ " لأنه لا يجوز موافقة المشركين في أعيادهم، وهو لو نذر وقضى النذر في الوقت الذي هو يوم عيد الكفار كان مشابهًا لهم، وعلى هذا يتبين أنه لا يجوز مشاركة الكفار في أعيادهم، وهذا- أعني مشاركتهم في أعيادهم- أن لم يكن كفرًا فهو حرام؛ لأن مشاركتهم في أعيادهم الدينية رضًا بدينهم، ومن رضي بدين يدان به لله عز وجل غير الإسلام فإنه كافر؛ لأنه مكذب للقرآن لأن الله يقول:{ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه} [آل عمران: 85]. ولهذا لا يجوز لنا نحن المسلمين أن نشارك الكفار في أعيادهم الدينية؛ لأن هذا رضا بشعائر الكفر- والعياذ بالله-.
ومن فوائد الحديث: أنه إذا قوي الاحتمال وجب على المفتي الاستئصال وهنا الاحتمال قوي، إذ إنه يقال لماذا خصَّ هذا المكان؟ فلذلك استفصل النبي صلى الله عليه وسلم من هذا السائل، أما إذا