الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن فوائد الحديث: جواز المساهمة في الحقوق، لأن هذا مساهمة أيهم أحق باليمين وهو أيضا ثابت كما كان النبي إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، وإذا جاز في الأموال ففي الحقوق من باب أولى.
بالنسبة للقرعة كيف تكون؟ تكون القرعة بطرق كثيرة معروفة، منها: ما كنا نستعمله سابقا في المبايعات بأن يجعل أحدنا في يده نواة تمر وفي اليد الأخرى حصاة فيقول: من وقع اختياره على النواة فهو الغارم، ومن وقع على الحصاة فهو المغروم، أو أن يجعل ذلك بالأوراق بأن يكتب مثلا (مستحقا)، غير مستحق، أو أن يكتب (مستحقا)، ويترك بقية الأوراق بيضاء، المهم: ليس لها طريق معين.
غضب الله على من أخذ مال غيره بغير حق:
1352 -
وعن أبي أمامة الحارثي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة، فقال له رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال: وإن كان قضيبا من أراك» . رواه مسلم.
"من اقتطع" جملة شرطية، فعل الشرط هو:"اقتطع"، وجوابه:"فقد أوجب الله"، وإنما اقترن جواب الشرط بالفاء؛ لأنه مقرون بـ"قد"، و"قد" إذا كانت في جواب الشرط فإنه يجب أن يؤتى قبلها بالفاء كصاحبتها وهن المجموعات في قول الناظم.
(اسمية طلبية وبجامد
…
وبما وقد وبلن وبالتنفيس)
وقوله: "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه" أي: يحلف، وهذا له صورتان:
الصورة الأولى: أن يدعي شيئا ويأتي بشاهد ويحلف معه وهو يعلم أنه كاذب، فهنا اقتطع حقا؛ لأنه استباح ماله بيمين كاذبة.
والصورة الثانية: في مقام الدفاع بأن يكون على شخص حق ثم ينكره وليس للمدعي بينة، فهنا سوف يحلف المدعى عليه ويخلى سبيله، فيكون قد اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق، إذا لها صورتان الصورة الأولى في دعوى ما ليس له، والصورة الثانية في إنكار ما يجب عليه، وكلاهما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عنهما:«فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة» ، أوجبها له؛ أي: جعله مستحقا لها؛ لأنه لما فعل هذا الأمر العظيم فكان بذلك انتهك حرمتين:
الحرمة الأولى: حرمة الرب عز وجل حيث حلف به كاذبا، والحرمة الثانية حرمة صاحب الحق، ومن أجل ذلك صار وعيده هذا الوعيد الشديد، "وحرم عليه الجنة" أي: حرم عليه دخولها، "فقال له رجل: وإن كان شيئا يسيرا؟ "، أي: وإن كان الحق الذي اقتطعه شيئا يسيرا، قال: و"وإن كان قضيبا من أراك"، الأراك: هو شجر السواك، وقوله: "قضيبا" يعني: ما يقضب باليد، وظاهره: ولو كان عودا واحدا، وإنما قال الرسول: «وإن كان قضيبا من أراك" مبالغة في القلة وعدم المبالاة به؛ لأن أكثر الناس لا يبالون بالسواك وما أشبه ذلك، فالمعنى: اقتطع مال امرئ مسلم ولو كان يسيرا
…
فهذا جزاؤه.
في هذا الحديث فوائد: منها: ما ساقه المؤلف من أجله، وهو أن الإنسان قد يستحق بدعواه شيئا بيمينه، ولو صورتان: دعوى ما ليس له، أو إنكار ما يجب عليه.
ومن فوائد الحديث: أن هذا النوع من الدعوى واليمين من كبائر الذنوب، وجه الدلالة: أنه رتبت عليه هذه العقوبة العظيمة، وكل ذنب رتبت عليه عقوبة دينية أو دنيوية، فإنه من كبائر الذنوب، وتعظم هذه الكبيرة بحسب ما فيها أو بحسب ما رتب عليها من العقوبة، فكل ما كانت عقوبته أعظم كان أكبر وأكبر.
ومن فوائد الحديث: أن فاعل الكبيرة لا يدخل الجنة بل هو مخلد في النار لقوله: "أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة"، وبهذا استدلت المعتزلة والخوارج -فقد استدلوا بهذا الحديث وما أشبهه من النصوص -على أن فاعل الكبيرة مخلد في النار، أخذا بظاهر النص وإعراضا عن بقية النصوص، وهكذا كل إنسان مبطل يأخذ من النصوص بجانب ويدع الجانب الآخر فينظر إلى النصوص بأعين عوراء لا يرى إلا من جانب واحد.
على كل حال: لو سألنا سائل: ما ظاهر هذا الحديث، أيوافق ما استدل به المعتزلة والخوارج أم لا؟ لقلنا: يوافق، كلام الرسول صلى الله عليه وسلم محكم وهو خبر لا يحتمل الكذب، "فأوجب الله له النار وحرم عليه الجنة"، ولكن يجب أن نعلم أن الشريعة كلها دليل واحد لابد أن يقيد بعضه بعضا، وأن يخصص بعضه بعضا لا نأخذ بجانب وندع الجانب الآخر، فنكون ممن قال الله تعالى عنهم:{ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض} [النساء: 150]. الأدلة الشرعية كلها كتلة واحدة فيجب أن يقيد مطلقها وأن يخصص عامها بمخصصها؛ لأنها دليل واحد.
وعلى هذا فنقول خرج هذا مخرج الوعيد، وما خرج مخرج الوعيد فلا بأس من أن يؤتى به على سبيل الإطلاق تنفيذا للنفس عنه؛ لأن النفس إذا سمعت هذه الكلمة نفرت وهربت من أن تعمل هذا، ونظير ذلك فيما يجري بيننا، ومنه: أن تقول الأم لودها: لئن فعلت كذا وكذا لأفعلن بك كذا وكذا من العقوبة، وهي في نفس الوقت لن تفعل، لكن باب الترهيب شيء آخر، قد يقول: هذا فيمن استحل ذلك وإن لم يفعل استحق هذا الوعيد، ولهذا لما ذكر للإمام أحمد رحمه الله في آية وعيد قاتل المؤمن عمدا أنها فيمن استحل ذلك ضحك تعجبا قال كيف هذا إنه إذا استحل قتل المؤمن عمدا فهو كافر سواء قتل أم لم يقتل.
ونظير ذلك من قال: إن تارك الصلاة يكفر إذا تركها جاحدا لوجوبها، فهذا جواب مضحك؛ لأنه إذا جحد وجوبها فهو كافر ولو صلى فريضة وتطوعا، إذن لا يصح هذا التخريج، تخريج هذا الحديث على من استحل ذلك، لماذا لا يصح؟ لأن مستحله يستحق هذه العقوبة سواء فعل أم لم يفعل.
جواب ثالث: أن هذا سبب يعني أن من اقتطع مال امرئ مسلم وهو فيها فاجر سبب لذلك؛ أي: لكونه تحرم عليه الجنة وتجب له النار، والأسباب لا تنفذ إلا بانتفاء الموانع، والمانع هنا هو الإيمان المانع من كونه تحرم الجنة عليه وتجب له النار، فيكون هذا كقولنا في الإرث مثلا القرابة سبب للإرث، الأب يرث من الابن والابن يرث من أبيه، لكن إذا وجد مانع امتنع الإرث لا لفوات سببه ولكن لوجود مانعه هذا، والأول هو أحسن الأجوبة أن يقال: لإنه خرج مخرج الوعيد من أجل قوة النفور عنه، أو يقال: هذا بيان لكون هذا الشيء سببا، والسبب قد يختلف لوجود مانع.
1353 -
وعن الأشعث بن قيس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف على يمين، يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر؛ لقي الله وهو عليه غضبان» . متفق عليه.
"على" هنا بمعنى الباء، ويعني: من حلف بيمين، فهذا كحديث الذي قبله فيه الوعيد على من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم، لكن الحديث الأول أعم؛ لأنه قال:"اقتطع حق امرئ"، والحق أعم من المال، إذ أن الحقوق قد تكون غير مالية، وقوله "امرئ مسلم" نقول فيها كما سبق بأن هذا القيد بناء على الأغلب، وإلا فكل مال معصوم، ولو لم يكن مال مسلم، فإنه يحرم أن يحلف الإنسان على اقتطاعه؛ لأنه مال محترم، وعلى هذا فمال المعاهد
محترم لا تجوز سرقته ولا ادعاؤه بباطل ولا الحلف عليه، ولكن هل نقول: إن من اقتطع مال معاهد بيمينه يستحق هذا العقاب المذكور في الحديثين، أو نقول: إنه لا شك أنه يعاقب ويأثم حيث اعتدى على حق معصوم لكن لا يستحق هذه العقوبة؟ فيها خلاف، بعضهم يقول بالثاني؛ أي: يقول: إن هذا الوعيد الخاص فيمن اقتطع ذلك من مسلم، وأما من اقتطعه من معاهد فلا شك أنه آثم ولكنه لا يستحق هذا الوعيد، وبعضهم قال: إن هذا قد أغلبي ولا عبرة به، لأن القاعدة الأصولية أن كل قيد أغلبي فإنه ليس له مفهوم.
ثم إنه إذا كان هذا في المسلم فإنه يكون في الذمي؛ لأن الذمي إذا أهين صار فيه إخفار للذمة والعهد، وإخفار الذمة والعهد من صفات المنافقين.
على كل حال: لا يجزم الإنسان بأن هذا الوعيد الذي حصل لمن اقتطع من مال امرئ مسلم يكون كذلك لمال المعاهد والمستأمن والذمي، لكنه يخشى أن يكون كذلك، وقوله "هو بها فاجر" الجملة هنا حالية، حال من فاعل "يقتطع" أو من فاعل "حلف" وهو الأقرب، يعني: من حلف حال كونه فاجرا، والفاجر هو الكاذب، "لقى الله"، يعني: يوم القيامة، "وهو عليه غضبان"، ويحتمل أن يكون اللقاء بعد الموت مباشرة؛ لأن من مات انتقل إلى الآخرة، لكن الظاهر الأول، وقوله "وهو عليه"، "هو" الضمير يعود على الله، "عليه" الضمير يعود على المقتطع، "غضبان" الوصف هذا لله عز وجل.
في هذا الحديث فوائد: منها: أن اليمين قد يكون سببا للاستحقاق ولو ظاهرا، وله صورتان كما سبق.
ثانيا: وجوب احترام أموال المسلمين وعدم العدوان عليها.
ثالثا: أن الحالف قد يكون صادقا، وقد يكون كاذبا، بدليل -هو فيها فاجر- ولو لم يكن ينقسم ما احتيج إلى القيد.
ويستفاد من الحديث: إثبات ملاقاة الله عز وجل، وقد جاء في القرآن في عدة مواضع:{يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه} [الانشقاق: 6]{واتقوا الله واعلموا أنكم ملقوه وبشر المؤمنين} [البقرة: 223]. هذا فيه أمر وخبر وبشارة {واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه} لكن لا تخافوا من هذه الملاقاة إن كنتم مؤمنين، ولهذا قال:{وبشر المؤمنين} أما من لم يكن مؤمنا - والعياذ بالله - فسيلقى جزاءه الأوفى.
مسألة: وهل يستفاد من الملاقاة رؤية الله؟ الجواب: لا، لا يلزم من الملاقاة الرؤية فيما سيظهر، وإن كان بعض العلماء قال: إنه يلزم من الملاقاة الرؤية؛ لأن من لم يرك ولو خاطبك فإنه لم يلاقك، ولهذا تجدون المهاتفة في الهاتف لا تعد ملاقاة مع أنه يخاطبك، فإن كان في
ذلك دليل على رؤية الله عز وجل فهذا المطلوب، وإن لم يكن فالأدلة -والحمد لله- متوافرة سوى هذا.
ومن فوائد هذا الحديث: إثبات الغضب لله لقوله: "وهو عليه غضبان"، والله تعالى بوصف بالغضب، ويوصف بالرضا، ويوصف بالسخط، ويوصف بالكراهية، وبوصف بالمقت، ويوصف بالبغض، لكن في محله، فما هو الغضب؟ قال أهل التحريف: الغضب هو الانتقام، أو إرادة الانتقام، وقال السلف وأهل الحق: الغضب وصف يليق الله عز وجل من آثاره الانتقام، وليس الانتقام هو الغضب بل هو وصف زائد على الانتقام، انظر كيف فسروا الغضب الانتقام، لأن الانتقام منفصل عن الباري عز وجل، إذ هو عقوبة منفصلة لا تتعلق بالذات، وهو لا يمنعون أن يكون هناك عقوبة منفصلة عن الله لا تتعلق بذاته الانتقام، لأنهم يثبتون الإرادة ويقولون: لا بأس أن يوصف الله بالإرادة لكن الغضب لا، أما نحن فنقول: إن لله غضبا هو وصفه عز وجل كما يليق بجلاله، ولا يمكن أن يفسر بالانتقام، لأن الله تعالى قال:{فلما ءاسفونا أنتقاما منهم} [الزخرف: 55]. وأسفونا بمعنى: أغضبونا، وليس المعنى: ألحقوا بنا الأسف الذي هو الحزن، بل آسفونا: أغضبونا فانتقمنا منهم.
إذن لو غضب بمعنى الانتقام لكان معنى الآية: فلما انتقمنا منهم انتقمنا منهم، وهذا كلام عبث ينزه عنه كلام الخالق عز وجل إذن الغضب ليس الانتقام بل هو شيء زائد على الانتقام.
ما حجة الذين ينكرون أن بوصف الله بالغضب؟ حجتهم مبنية على مصدر تلقي صفات الله من أين تتلقى؟ هم يرون أن تتلقى من العقل، ولهذا كانت القاعدة عندهم فيما يثبت وينفى عن الله كما يلي: ما دل العقل على ثبوته فأثبته سواء وجدته في القرآن والسنة أم لم تجده، إذا لم أجده يكون هذا من باب من افترى على الله كذبا، وقال على الله ما لا يعلم، هم يقولون: لا بأس ما دام العقل دل على هذا أثبته.
القاعدة الثانية: وما نفاه العقل فانفه ولا تثبته؛ لأن الله لا يوصف بما ينافي العقل.
القاعدة الثالثة: وما لم يقتض إثباته ولا نفيه فماذا نفعل؟ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: أكثرهم نفاه؛ لأن القاعدة عندهم لابد من دليل إيجابي على ثبوته فإن لم يدل على ثبوته فلا تثبته، هذه قاعدة أكثرهم، وعلى هذا فما لا يقتضي العقل إثباته ولا نفيه فإن أكثرهم ينفيه ولا يصدق به حتى ولو كان في كتاب الله بأصرح العبارة أو في كلام رسوله، وبعضهم توقف فيه.
أيهم الأقرب للورع -ولا ورع عندهم-؟ المتوقف، لكنه ليس ورعا؛ لأن الورع حقيقة أن يثبت ما أثبته الله لنفسه سواء اقتضاه عقله أو لم يقتضه، نحن نقول: إن الله تعالى يغضب، ولكن هل يمكن لقائل أن يقول الغضب صفة نقص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأله رجل قال: أوصني، قال: "لا