الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسكين
…
} الآيات [المائدة: 89]. فما هي التي لا يقصدها؟ هي التي تأتي في مجرى الكلام بلا قصد مثل أن يقال له: أتذهب إلى فلان؟ يقول: لا والله ما أنا ذاهبا ثم يذهب فهذا ليس فيه الكفارة؛ لماذا؟ لأنه لم يقصد عقدها وهذه تقع كثيرا، تقول المرأة أو الأب لابنه مثلا: والله لئن خرجت إلى السوق لأكسرن رجليك هذه لم يقصد عقدها؛ لأنه لا يكسر رجليه فهذه من لغو اليمين.
وأما قوله: «ممكن» فضد الممكن المستحيل، والمستحيل إذا حلف على إيجاده فقد اختلف العلماء فيه: هل عليه كفارة في الحال؟ لأننا نعلم أنه لا يمكن أن يوجده أو ليس عليه شيء؛ لأن هذا من باب اللغو والهذيان، مثل أن يقول: والله لأبنين بيتا في القمر هذا مستحيل، فهل تقول: إن عليك الكفارة من الآن؛ لأنك لا يمكن أن تصل أن تصل إلى هذا، أو نقول: إن هذا كلام لغو وهذيان فليس فيه كفارة؟ فيه خلاف، بعضهم يقول كذا، وبعضهم يقول كذا، ولو ألزمناه بالكفارة تأديبا له عن هذا الكلام اللغو لكان حسنا؛ يعني: من باب الأديب.
الحلف بغير الله:
1306 -
عن ابن عمر رضي الله عنه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب، وعمر يحلف بأبيه، فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ألا إن ينهاكم أن تحلفوا بابائكم، فمن كان حالفا فليحلف بالله، أو ليصمت» . متفق عليه.
أدركه «في ركب» يعني: أنه في سفر، وتعيين هذا السفر أو الركب أو كيف قابلهم الرسول صلى الله عليه وسلم؟ كل هذا من الأمور التي ليست بذات أهمية، المقصود: فهم القضية وما يترتب عليها من أحكام.
يقول: «وعمر يحلف بأبيه» ؛ لأنهم كانوا يعتادون هذا في الجاهلية ومشوا عليه، وهذا هو الأصل أن الإنسان يبقى على ما كان عليه، حتى يدل الدليل بالوجوب أو التحريم أو ما أشبه ذلك، وكذلك يقول:«فناداهم» أي: كلمهم بصوت مرتفع؛ لأن النداء للبعيد يكون بصوت مرتفع، على أن الله ينهاهم، أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذه الجملة بمؤكدين: المؤكد الأول: «ألا» ؛ لأنها أداة استفتاح يقصد بها تنبيه المخاطب على ما يرد عليه، والمؤكد الثاني:«إن» ، «ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بابائكم» ، والنهي: هو طلب الكف على وجه الاستعلاء، والصيغة التي أوحاها الله تعالى إلى رسوله في هذا لا نعلمها، لكن نعلم المعنى وهو: أن الله تعالى ينهانا أن نحلف بآبائنا، والآباء جمع أب يشمل الأب والجد لأن الجد يسمى أبا كما في القرآن الكريم.
وقوله: «فمن كان حالفا فليحلف بالله» يعني: من أراد أن يحلف فليحلف بالله، فقوله:«من كان حالفا» ليس شيئا ماضيا، بل المراد: من أراد أن يحلف «فليحلف بالله أو ليصمت» ، واللام في قوله:«فليحلف» ، قد يقال: إنها لام الأمر، وقد يقال: إنها لام الإباحة، فباعتبار أنه لا يحلف بغيره تكون لام أمر، وباعتبار أنه يباح له أن يحلف بالله تكون لام إباحة «أو ليصمت»: ليسكت.
في هذا الحديث من الفوائد: أولا: حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إنكار المنكر؛ لأنه لما سمع هذا المنكر ناداهم ولم يسكت، وظاهره أنه ناداهم من بعد، يعني: لم يصبر حتى يصل إليهم فيكلمهم بكلام معتاد، بل ناداهم من بعد وأخبرهم بما أوحاه الله تعالى إليه من النهي.
ومن فوائد الحديث: أن من كان جاهلا فإنه لا يؤاخذ، ولهذا لم يعنفهم الرسول صلى الله عليه وسلم، بل بين لهم الحكم دون أن يوبخهم ويعنفهم.
ومنها: البناء على الأصل وهو أن يبقى الإنسان على ما كان عليه حتى يتبين نقل الحكم أو الحال عن الأصل، دليله فعل عمر حيث حلف بالأب.
ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي في المسائل المهمة أن تؤكد بأنواع التأكيدات، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أضاف النهي إلى الله، ولا شك أن إضافة النهي إلى الله تعطي الإنسان قوة في اجتناب هذا المنهي عنه؛ لأن الله سبحانه وتعالى له الحكم وبيده ملكوت السموات والأرض وما صدر عنه فإنه أقوى مما صدر عن غيره؛ ولهذا قال:«ألا إن الله ينهاكم» إلا أن هذه الفائدة قد ينازع فيها، فيقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم نسب النهي إلى الله لأن الله نهى عن ذلك لا من أجل أن يؤكد الاجتناب، وهذا قد يقال: إنه أقرب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يجب عليه البلاغ.
ومن فوائد هذا الحديث: أن تعظيم الآباء كان معروفا في الجاهلية، ولهذا يحلفون بآبائهم وهذا أمر فطري، كل الناس يعظمون آباءهم ويحترمونهم إلا من ضل عن سواء السبيل هذا له شأنه.
ومن فوائد هذا الحديث: جواز اليمين إذا كانت على وجه مشروع؛ لقوله: «من كان حالفا فليحلف بالله» .
ومن فوائد الحديث: أنه ينبغي للإنسان إذا نهى عن شيء أن يذكر ما يكون بدلا عنه، وهذه طريقة القرآن والسنة، انظر إلى قول الله تعالى:{يأيها الذين ءامنوا لا تقولوا رعنا وقولوا انظرنا} [البقرة: 104]. فلما ذكر اللفظ المنهي عنه أتى ببدله، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في بيع التمر الرديء بالجيد مع الزيادة:«هذا عين الربا، ولكن بع التمر-يعني: الرديء- بالدراهم ثم اشتر بالدراهم تمرا جيدا» ، فلما ذكر الممنوع ذكر ما يقوم مفامه، وهذا في الحقيقة هو خلاصة الدعوة؛ لأن الناس إذا ذكر لهم ما كانوا يعتادونه أو يستحسنونه وهو مخالف للشرع ثم قيل
لهم: اجتنبوه دون أن يوجد لهم بديل فإن ذلك يشق عليهم، لا يمتثلون أمر الله ورسوله، فأنت إذا نصحت إنسانا أو أمرته بمعروف أو نهيته عن منكر فبين له الشيء المباح؛ ليكون ذلك أدعى للقبول.
مسائل مهمة في اليمين:
وهنا مسائل خارجة عن موضوع الحديث: أولا: لو حلف الإنسان بأبيه فهل تنعقد اليمين؟
الجواب: لا، لا تنعقد؛ لأن هذا الحلف حرام، وإذا كان حراما فإن اليمين لا تنعقد؛ لأنه بانعقادها ما يترتب عليه الكفارة إذا حنث فيها والكفارة قربة إلى الله، والله عز وجل لا يتقرب إليه بما كان معصية، أيضا لو حلف الإنسان بغير أبيه حلف برئيسه أو بالشمس أو بالقمر فهل يكون كالحلف بالآباء؟ نعم هو كالحلف بالآباء، فتقييد النبي صلى الله عليه وسلم الحلف بالآباء بناء على أن هذا هو الذي وقع فما كان مثله فإن له حكمه، فإذا حلف الإنسان برئيسه أو بجده أو بأمه فالحكم في ذلك واحد، وقول الرسول:«فليحلف بالله» هذا مما يتفرع عليه لو حلف بالرحمن ينعقد، بالرحيم ينعقد؛ لماذا قال:«فليحلف بالله» ؟ لأن هذا هو العلم الذي لا يسمى به غير الله عز وجل.
وعلى هذا فجميع أسماء الله يجوز الحلف بها، والحلف بصفاته جائز أيضا، لو قال: وعزة الله، وقدرة الله لأفعلن كذا وكذا فهو جائز، ومنه-فيما يظهر- قول إبليس لرب العالمين:{فبعزتك لأغوينهم أجمعين} فإن هذا من الحلف بصفة الله، ومنه على رأى بعض العلماء قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«لا ومقلب القلوب» ، فإن تقليب القلوب من الصفات الفعلية.
وعلى كل حال نقول: الصحيح أن الحلف بصفات الله جائز ومنعقد، أما الحلف بآيات الله ففيه تفصيل: إن كان مراد الحالف بآيات الله الكونية فهذا لا يجوز ولا ينعقد به اليمين، مثل أن يقول: والشمس والقمر والليل والنهار فهذا كله حرام، مع أنها من آيات الله، لكن لكونها من آيات الله الكونية حرم على الإنسان الحلف بها، أما إذا كانت من آيات الله الشرعية كالقرآن- فالقرآن صفة من صفات الله لأنه كلام الله- فيجوز الحلف بذلك؛ ولهذا ينبغي أن نسأل العامي إذا سمعناه يحلف بآيات الله كما هو كثيرا الآن وشائع نقول: ماذا تريد بآيات الله؟ قد يقول: أنا لا أعرف من آيات الله إلا الليل والنهار والشمس والقمر، نقول: إن أردت ذلك فالحلف بها حرام ولا يجوز، فإذا قال: أنا أريد بآيات الله المصحف أو القرآن، قلنا: هذا لا بأس به، لكن بشرط أن تريد بالمصحف: القرآن لا الورق والجلد.
1307 -
وفي رواية لأبي داود والنسائي: عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: «لا تحلفوا بابائكم، ولا بأمهاتكم، ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون» .
إذا قيل: «مرفوعا» فهو يعني: معزورا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن السند إذا كان غايته أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو مرفوع، وإذا كان غايته أن يصل إلى الصحابي فهو موقوف، وإذا كان غايته أن يصل إلى التابعي فمن بعده فهو مقطوع، وهو غير المنقطع؛ لأن المنقطع من مباحث الإسناد، والمقطوع من مباحث المتن، يقول:«لا تحلفوا بآبائكم» وهذا في الحكم كقوله: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم» ، حتى بالأم نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يحلف بها مع أنها محل الرأفة والرحمة وحسن الصحبة، «ولا بالأنداد» ، «الأنداد»: جمع ند، أي: الأوثان التي تعبد من دون الله مثل: اللات والعزى ومناة وهبل، قال:«لا تحلفوا إلا بالله» ، فلا تحلف بقبر فلان، ولا باللات والعزى ومناة، «ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون» ، لما نهى عن الحلف بما ذكر بقي الحلف بالله عز وجل فنهى أن نحلف به-سبحانه وتعالى إلا ونحن صادقون؛ لأن الحلف تأكيد الشيء بذكر معظم، كأن الحالف يقول: بعظمة هذا الشيء عندي وفي قلبي أؤكد هذا الشيء، يعني: المحلوف عليه؛ ولهذا كان الحلف من أكبر ما يدل على تعظيم المحلوف به.
في هذا الحديث فوائد: النهي عن الحلف بالآباء والأمهات، وهل النهي للتحريم؟
الجواب: نعم؛ لأنه هو الصل؛ ولأنه قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» .
ومن فوائد الحديث: أنه لا يجوز الحلف بالأنداد كاللات والعزى وغير ذلك، فإن حلف فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم للحالف بالأنداد أن يقول بعد ذلك: لا إله إلا الله فقال: «من قال: واللات» -يعني: في يمينه- فليقل: «لا إله إلا الله بعد ذلك» . قال العلماء: وفائدته أن تعظيم هذا الصنم شرك، ودواء الشيء يكون ضده بالإخلاص، تقول: لا إله إلا الله، وفي بقية الحديث:«ومن قال: تعال أقامرك فليتصدق» لتمحوا هذه الصدقة الجناية.
فيه أيضا: تحريم الحلف بالأنداد، وذكرنا إن دواء ذلك أن يقول: لا إله إلا الله، لأنه يداوى الشرك بالإخلاص.