الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كان بعيدًا فإنه لا يستفصل، فلو سئل الإنسان عن رجل مات عن أبيه وأمه لا نحتاج إلى أن نقول: هل أبوك كافر أو مسلم أو غير ذلك؟ لو سئل عن رجل جامع زوجته في نهار رمضان لا حاجه إلى أن يستفصل ويقول هل هو جاهل أو ناسٍ أو متعمد؟ لكن إن قوي الاحتمال فإنه يجب الاستفصال.
ومن فوائد الحديث: جواز تخصيص النذر بمكان إذا كان خاليًا من معصية؛ لقوله: "أوف بنذرك" فإن نقله إلى مكان نظرنا إن كان أفضل فلا بأس، وإن كان دون ذلك لم يجز، وإن كان مثله جاز، ولكن عليه كفارة يمين، كما سيأتي في الحديث الذي بعده.
ومن فوائد الحديث: جواز تحريم الوفاء بنذر المعصية؛ لقوله: "لا وفاء لنذر في معصية الله" والمعصية إما ترك واجب، وإما فعل محرم.
ومن فوائد الحديث: تحريم وفاء النذر بقطيعة الرحم، فلو قال: لله علىّ نذر ألا أكلم أخي قلنا: هذا حرام، ولا يحملك أن تفي بذلك النذر، لكن عليك كفارة يمين.
ومن فوائد الحديث: عدم وجوب وفاء النذر فيما لا يملك؛ لقوله: "ولا فيما لا يملك ابن آدم" وسواء كان لا يملكه شرعًا كالمعصية أو لا يملكه قدرًا، كملك الغير، وخلق الحيوان وما أشبه ذلك مما لا يمكن قدرًا.
حكم الانتقال عن النذر إلى ما هو أفضل منه:
1324 -
وعن جابر رضي الله عنه: "أنَّ رجلاً قال يوم الفتح: يا رسول الله، إنِّي نذرت إن فتح الله عليك مكَّة أن أصلِّي في بيت المقدس، فقال: صل هاهنا. فسأله، فقال: صلِّ هاهنا. فسأله، فقال: شأنك إذن". رواه أحمد وأبو داود، وصحَّحه الحاكم.
"يوم الفتح" إذا أطلق فهو فتح مكة ويطلق الفتح على صلح الحديبية، كما في قوله تعالى:{لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى} [الحديد: 10]. فالمراد بالفتح هنا: صلح الحديبية لأنه لا شك أنه حصل به فتح كبير [حيث] صار المسلمون يأمنون، وكذلك الكفار يأمنون على دمائهم وأموالهم، وقوله: "إني نذرت
…
الخ" هذا يتضح منه جليًا أن هذا النذر نذر عبادة، وليس نذر عادة لأن الصلاة ليست من العادات التي يفعلها بعض الناس، كالصدقة والإنفاق وغير ذلك، يقول: أن أصلي في بيت
المقدس ولم ندري؛ لماذا خصَّ بيت المقدس مع أن عنده المسجد النبوي، وهو أشرف البقاع بعد مكة؟ لكن لا ندري ما السبب، قال:"صلِّ هاهنا" أي: في مكة؛ لأن مكة أفضل من بيت المقدس "فسأله" يعني: أعاد السؤال، فقال:"صلَّ هاهنا فسأله فقال: شأنك إذن" يعني: اصنع شأنك أي: ما تريد "إذن" أي: حين لم تقبل الرخصة.
في هذا الحديث دليل على فوائد: أولاً: أن الإنسان إذا نذر فإنه يجب عليه الوفاء بالنذر؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "صل هاهنا".
ومن فوائده: أنه يصح النذر المعلق؛ لقوله: "إني نذرت إن فتح الله عليك"، وسواء كان النذر معلقًا على شيء عام أو على شيء خاص كما يصح النذر المطلق.
ومن فوائد الحديث: أنه يجوز الانتقال عن النذر إلى ما هو أفضل منه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صل هاهنا" وعلى هذا فإذا نذر أن يصلِّي في مكة لم يجز في غيرها لأنها أفضل البقاع، وإذا نذر أن يصلِّي في المدينة في المسجد النبوي جاز في المسجد النبوي وجاز في مكة، وإذا نذر أن يصلي في بيت المقدس جاز في بيت المقدس، وفي المسجد النبوي، وفي المسجد الحرام؛ لأنه انتقل إلى ما هو أفضل.
ومن فوائد الحديث: أن الإنسان لو نوى أن ينفق في شيء من أعمال البر، ثم أراد أن ينقله إلى شيء آخر أفضل فلا بأس، ومن ذلك إذا وقَّف وقفًا على طائفة معينة أو على جهة معينة ثم أراد أن ينقله إلى مكان آخر أفضل فلا بأس، فلو أن الإنسان وقف بيته على طائفة معينة ثم رأى من المصلحة أن يبيع هذا البيت وينقله إلى بيت أفضل في مكان الناس فيه أحوج فإن ذلك لا بأس، وهذا القول هو القول الراجح، ويدل عليه هذا الحديث، والمشهور من المذهب إنه لا يجوز بيعه، أي: الموقوف، إلا أن تتعطل منافعه، فما دام فيه منفعة، ولو قليلة فإنه لا يجوز بيعه، لكن الصحيح ما قدمناه؛ لدلالة الحديث عليه.
ومن فوائد الحديث: أن الإنسان إذا أردا أن يشقَّ على نفسه، فإننا نوليه ما تولى ذلك؛ لأن هذا الرجل أرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يصلى في مكة ولكنه أبى إلا أن يشقَّ على نفسه فقال:"شأنك إذن" فإن قال قائل: كيف يكون هذا وقد تبرأ النبي صلي الله عليه وسلم من القوم الذين قال بعضهم: إنه يصلي ولا ينام، والآخر قال: يصوم ولا يفطر والثالث: قال: لا أتزوج النساء فيقال في الجواب عن ذلك: إنّ هؤلاء القوم الثلاثة أرادوا أن يغيروا تغييرًا ظاهرًا في الشريعة فيصوم أحدهم بلا فطر، والثاني يقوم بلا نوم، والثالث لا يتزوج النساء، أما هذا فهي مسألة فردية لا يتغير بها شيء؛ فلذلك قال له:"شأنك إذن" على أنه ربما نفهم من قوله: "شأنه إذن" نفهم منه: أن
الرسول يكره هذا، كره أن يصمم على أن يذهب إلى بيت المقدس، وفرق آخر أن الذهاب إلى بيت المقدس ليس كالإشقاق فيما إذا ما صام ولم يفطر أو قام ولم ينم أو ترك النكاح.
1325 -
وعن أبي سعيد الخدريِّ رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا تشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجدي هذا". متَّفق عليه، واللَّفظ للبخاريِّ.
قوله: "لا تشد الرحال""لا": نافية وليست ناهية، لو كانت ناهية لقال: لا تشدوا الرحال فهي نافية، لكن هذا النفي بمعنى: النهي والخبر يأتي بمعنى الطلب سواء كان أمرًا أو نهيًا؛ لأنه أبلغ إذ كان هذا الأمر أمر مفروغ منه لا يحتاج إلى نهي ولهذا قال العلماء: إنّ إتيان الخبر في موضع الطلب يدل على توكيد هذا الطلب، وهذا حق كقوله تعالى:{والمطلقات يتربصن بأنفسهن} [البقرة: 228]. فهنا جملة {يتربصن} جملة خبرية، والمراد بها: الأمر، فيكون هذا أوكد، ووجه التوكيد: أن جعله بمنزلة الخبر أو التحدث عنه كأنه خبر مستقر يدل على أن هذا الأمر مفروغ منه وأن هذا هو الحال وقوله: "لا تشد الرحال" جمع رحل، وهو: ما يحمل على البعير، أو بعبارة أصح وأعم ما يحمل على المركوب، أي: ما يحمله المسافر من متاع على مركوبه "إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام" هذا من باب إضافة الموصوف إلى صفته وأصله المسجد الحرام، الثاني "مسجد الأقصى"، كالأول من باب إضافة الموصوف إلى صفته، و"مسجدي هذا" والمشار إليه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يصلي فيه فهذا الحديث يدل على أنه لا يجوز شدُّ الرحل إلى أي مكان من الأرض إلا هذه المساجد الثلاث؛ لأن هذه هي البقع المفضلة على غيرها فأفضلها مكة ثم المدينة ثم الأقصى وما سواها من البقع، فإنه لا يجوز شد الرحل إليها من أجل هذه البقعة، أما إذا كان يشد الرحل إليها من أجل أمر آخر لا يتعلق بالبقعة فلا بأس، كما لو شد الرحل إلى بلد أكثر علمًا أو أيسر مؤونة أو غير ذلك فهذا لا يقال: إنه شد الرحل تعبدًا للمكان بل يقال: إنه شد الرحل لهذا الغرض الآخر.
فمن فوائد الحديث: فضيلة هذه المساجد الثلاثة وجه ذلك: أنها هي التي أذن بشد الرحل إليها.
ومن فوائد الحديث: أنه لا يشدُّ الرحل إلى المقابر لزيارتها؛ لأن هذا مكان يختص بالبقعة ولا شيء من البقع يخصص إلا هذه الثلاثة.
ومن فوائد الحديث: أن شد الرحل يختص بالمساجد المعينة الثلاثة وينبني على ذلك أننا لا نشدُّ الرحل إلى مسجد في مكة سوى مسجد الكعبة؛ لأن المسجد الحرام هو المسجد