الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن فوائد الحديث: حماية الأموال والأعراض والأبدان؛ لأن هذا النهي من أجل ألا يخطئ الحاكم في حكمه، والخطأ في الحكم يعتبر جناية على الأموال والأبدان والأعراض، فمن أجل حمايتها نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن القضاء بهذه الحال وهو غضبان.
ثم هل النهي هنا للتحريم أو للكراهة؟ قال بعض العلماء: إنه للكراهة، وقال بعضهم: إنه للتحريم وهو الأصح؛ لأن الأصل في النهي التحريم، ولأن هذا يؤدي إلى الخطأ في الحكم إذا حكم في هذه الحال فالصواب: أنه -أي النهي- للتحريم وأنه إذا خالف فأصاب الحق فالحكم نافذ.
لا يقضي القاضي حتى يسمع قول الخصمين:
1332 -
وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تقاضى إليك رجلان، فلا تقض للأول، حتى تسمع كلام الآخر، فسوف تدري كيف تقضي، قال علي: فما زلت قاضياً بعد» . رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، وقواه ابن المديني، وصححه ابن حبان.
- وله شاهد عند الحاكم: من حديث ابن عباس.
"وإذا تقاضى إليك رجلان" تقاضى أي طلبا أن تقضي بينهما، وقوله:«رجلان» بناء على الأغلب، وإلا فالمرأتان كالرجلين، والمرأة والرجل كالرجلين أيضاً.
وقوله: "فلا تقض للأول" وهو المدعي "حتى تسمع كلام الآخر"؛ لأنه من الممكن القريب أن يكون عند الآخر ما يدفع به دعوى هذا المدعي، ولولا أن عنده ما يدفع به دعوى المدعي ما تقاضى إلى القاضي مع خصمه.
وقوله: "حتى تسمع كلام الآخر فسوف تدري كيف تقضي" يعني: إذا سمعت كلام الآخر فحينئذ تعرف كيف تقضي، ويتبين لك الأمر قال علي:"فما زلت قاضياً بعد" أي: بعد أن قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام وأخذت به ما زلت قاضياً؛ أي: قاضياً حقاً؛ لأن ليس كل قاض يكون قاضياً، لكن من عمل بما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء فإنه يكون قاضياً، فقوله:"فما زلت قاضياً بعد" المعنى: أنني حين عملت بهذا ما زلت قاضياً حقاً؛ لأنه ليس كل قاضٍ يكون قاضياً.
ففي هذا الحديث: أنه لا يجوز أن يقضي لأحد الخصمين حتى يسمع الإنسان كلام الخصم الآخر.
وفيه أيضاً وهو من الفوائد: أنه لا يجوز القضاء على الغالب؛ لأنه إذا نهى عن القضاء بين اثنين قبل أن يدلي الثاني بحجته مع حضوره فمع غيبته من باب أولى.
فإن قال قائل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم قال لهند بنت عتبة التي شكت إليه بقولها: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيها من النفقة ما يكفيها وبنيها، أليس أذن لها أن تأخذ من ماله بغير ماله؟
الجواب: بلى، ولكن هذا قال العلماء: إنه ليس قضاء، ولهذا لم يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم زوجها حتى يعرف هل عنده ما يدفع هذه الدعوى أو لا؟ فهو من باب الفتوى.
ومن فوائد الحديث: أن الإنسان يجب أن يكون سامعاً للدعوى، فلا تكفي الإشارة فيمن يمكنه النطق؛ لأن الإشارة إنما هي دلالة فقط على ما في قلب العبد، لكن اللسان هو الذي يعبر عما في قلبه تعبيراً صحيحاً، ولهذا قال:"حتى تسمع".
فإن قال قائل: إذا كان أحدهما أخرس لن يسمع حجته؟
قلنا: يمكن بالكتابة، فإن كان لا يحسن الكتابة فبالإشارة، فإن كانت الإشارة لا تفهم فبالوكالة، يوكل من يحاج عنه؛ لأنه لابد من أن نعرف ما عند الخصم.
ومن فوائد الحديث: حسن توجيه النبي صلى الله عليه وسلم للقضاة الذين يحكمون بين الناس وأنك لا تسمع من جانب دون الآخر.
ومن فوائد الحديث: أننا لا نحكم على الشخص حتى نسمع كلام الخصم، يعني: لو سمعنا شخصاً يسب من يكرهه، أي: من يكرهه السامع فلا يجوز أم نأخذ بقوله حتى نعرف قول الطرف الآخر، ولهذا نجد بعض الناس -نسأل الله لنا ولهم الهداية- يأخذون الحكم على الناس وتصنيفهم كما يقال، يأخذون ذلك من قول الخصم سواء كان إيجابياً أو سلباً وهذا غلط؛ لأن النفوس مجبولة على محبة من تحب الدفاع عنه وعلى كراهة من تكرهه ورميه بالسب والشتم.
ويشبه هذا الذي أرشد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم ما حصل لداود عليه الصلاة والسلام، فقد ذكر الله تعالى قصته في صورة شيقة فقال:{وهل آتاك نبؤا الخصم} [ص: 21]. والاستفهام هنا للتشويق كأنه يشوق إلى استماع هذه القصة، {إذا تسوروا المحراب} [ص: 21]. تسوروا مع أن الخصم مفرد لكنه مفرد بمعنى الجمع، المحراب مكان الصلاة:{إذ دحلوا على داود ففزع منهم}
[ص: 22]. كعادة الإنسان الذي يغلق بيته، فإذا بأناس يتسورون عليه الجدار؛ ألا يفزع؟ يفزع، لأنهم لا يدخلوا على الوجه السليم، {قالوا لا تخف} [ص: 22]. يعني: لسنا سراقا ولا قاتلين، إنما نحن {خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا نشطط واهدنا إلى سواء الصراط} [ص: 22]، ثم أدلى المدعي بحجته فقال:{إن هذا أخى له تسع وتسعون نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزنى في الخطاب} [ص: 2]، غلبني حتى أدركها ماذا قال داود عليه السلام قال:{لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجة} [ص: 24]، فحكم له دون أن يسمع قولاً، وهذا لا شك أنه ليس الطريقة السوية، ولهذا عرف داود أن الله تعالى أختبره، قال تعالى:{وظن داود} [ص: 24]. أي: أيقن؛ لأن الظن يأتي بمعنى اليقين كما في قوله تعالى: {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} [البقرة: 46]. وكما في قوله تعالى: {وراء المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها -أي: أيقنوا ذلك- ولم يجدوا عنها مصرفاً} [الكهف: 53]. {وظن داود إنما فتنة فاستغفر ربه وخر راكعاً وأباب فغفرنا له ذلك} [ص: 35]. والنعجة هنا بمعنى: الشاة.
وأما القول بأنها زوجة أحد الجنود، وأن داود عليه السلام سعى يكيد ويمكز -والعياذ بالله- حتى يتزوجها، وأمر هذا الجندي أن يذهب للجهاد لعله يقتل فيخلفه داود عليها، فهذا كذب، هذا من اليهود، ولا يجوز لأحد نقله بين العامة، حتى وإن قال: إنه علم، اللهم إلا أن يشتهر بين العامة ويتحدث عنه كذباً فهو لا بأس به، لكن شيئاً لا يطرأ على بال الناس فيقف يتحدث ثم ينقضه هذا وإن كان جيداً، لكن لاحظوا أن الشيطان يلقي في قلب الإنسان شيئاً بما يحدث به وإن كان في الأصل كذباً.
على كل حال: هذه القصة كذب، ومن اعتقدها فقد أساء إلى داود عليه الصلاة والسلام، إنما الذي حصل من داود: أنه حكم بمجرد سماع الخصم دون أن يأخذ قول الآخر، وهذا واضح من القصة.
قد يقال: إن هناك خطأ آخر وهو كونه يدخل يتعبد لله والعبادة الخاصة منفعتها له ويدع الحكم بين الناس وهو مما يتعلق به مصالح عامة الناس؛ ولهذا سلط عليه الخصوم حتى تسوروا عليه المحراب، هذا أيضاً ربما يكون فيه شيء من الخطأ يضاف إلى الأول، وحينئذ حصل ما حصل من الفتنة، ولكن الله تعالى رفعها عن داود حينما خر راكعاً وأناب.
والظاهر: أن معنى راكعاً: خر ساجداً لله عز وجل ليتوب إلى الله فتاب الله عليه. هذه القصة إذا تصورها الإنسان على هذا الوجه عرف مدى قيمة الحديث الذي رواه علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنك لا تقضي بين اثنين حتى تسمع قول الآخر» .