الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوعيد على ذلك: "تبوأ مقعد من النار"، فهل نقول: كل ذنب ذكر الوعيد عليه فهو من الكبائر؟ الجواب: نعم، هكذا قال العلماء، وبناء على ذلك تكون الكبائر معروفة بالحد لا بالعد، وما ورد في بعض النصوص من العد فليس المراد به الحصر كقول النبي صلى الله عليه وسلم:«اجتنبوا السبع الموبقات» .
الحد اختلفت عبارات العلماء والفقهاء فيه، وأجمع ما قيل فيه: أنه ما ذكر عليه عقوبة خاصة، إذا ذكر على الذنب عقوبة خاصة دينية أو دنيوية أو أخروية فإنه من كبائر الذنوب، أما ما جاء منهيا عنه فقط مثل لا تفكل كذا أو مذكورا فيه التحريم مثل: حرم كذا، أو نفي الحل مثل: لا يحل كذا، فهذا ليس من الكبائر بمجرد هذه الصيغة ما لم يوجد دليل.
وهل يمكن أن يقال: إن فيه إثبات وجود النار؟ نعم، من قوله:"تبوأ مقعده".
وهل يمكن أن تلحق بمنبر الرسول صلى الله عليه وسلم منابر المساجد الأخرى؟ الجواب: قال بعض أهل العلم: إنه يلحق به من حيث التغليظ لا من حيث العقوبة، فمثلا: لو حلف الإنسان على يمين فاجر عند منبر مسجد من المساجد ورأى القاضي أنه يغلظ اليمين في هذا المكان فلا بأس، لكنه لا يستحق العقوبة التي كانت على منبر النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لشرف المكان.
الذين لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم:
1356 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بالفلاة، يمنعه من ابن السبيل؛ ورجل بايع رجلا بسلعة بعد العصر، فحلف له بالله: لأخذها بكذا وكذا، فصدقه، وهو على غير ذلك؛ ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا للدنيا، فإن أعطاه منها وفى، وإن لم يعطه منها لم يف» . متفق عليه.
"ثلاثة" مبتدأ، وجملة:"لا يكلمهم الله" معطوفة عليه خبر، فإن قال قائل: كيف جاز الابتداء بالنكرة والابتداء بالنكرة ممنوع؛ لأن الخبر تعريف وحكم، ولا يمكن أن يكون الحكم إلا على شيء معلوم والنكرة غير معلومة؛ ولهذا قال النحويون قولا حقا إنه لا يجوز الابتداء بالنكرة؛ لأن الاسم النكرة مجهول، والخبر محكم عليه، ولا يمكن أن نحكم على شيء مجهول؟ فيقال: إن ابن مالك رحمه الله قال كلمة جيدة في هذا قال:
(ولا يجوز الابتدا بالنكرة
…
ما لم تفد كعند زيد نمرة)
يعني: ما لم يكن لها معنى خاص زائد على مدلولها المطلق، هذا معنى قوله، لابد أن يكون هناك سبب لكونها ابتدئ بها وهي نكرة، وإلا فالأصل أنه لا يصح، لو قلت: رجل قائم ما يصح، لكن إذا كان هناك شيء يقيد هذا الإطلاق فإنه يصح، لو قلت: رجل فاضل قائم صح، إذن الجواب: أنه يجوز الابتداء بالنكرة، متى؟ إذا أفادت، وهنا فيها فائدة تقسيم:"ثلاثة لا يكلمهم"، ولا شك أن التقسيم فائدة، ومنه قول الشاعر:[المتقارب]
(فيوم علينا ويوم لنا
…
ويون نساء ويوم نسر)
ومثل هذا التركيب لا يدل على الحصر، أي: أنه لا يوجد سوى هؤلاء؛ لأنه يوجد سوى هؤلاء كثيرون، يقول:"لا يكلمهم الله يوم القيامة"، أي: كلام رضا، لكن قد يكلمهم كلام غضب كما في قوله تعالى:{قال اخسئوا فيها ولا تكلمون} [المؤمنون: 108]. وكلام الغضب ليس بشيء بل عدمه خير من وجوده، إذن "لا يكلمهم" كلام رضا، "ولا ينظر إليهم" كذلك نظر رحمة ورضا، أما النظر العام فهو عز وجل لا يخفي عليه شيء، كل شيء يراه سبحانه وتعالى، "ولا يزكيهم"، أي: لا يطهرهم؛ لأنهم ليسوا أهلا للتزكية، "ولهم عذاب أليم"، بالإضافة إلى ذلك لهم عذاب أليم، بمعنى: مؤلم، ففعيل هنا بمعنى: مفعل، ويوجد بيت مشهور وهو قول الشاعر:[الوافر]
(أمن ريحانة الداعي السميع
…
يؤرقني وأصحابي هجوع)
السميع بمعنى المسمع، يعني: هل هناك داع يسمعني.
الأول: "رجل على فضل ماء بفلاة يمنعه من ابن السبيل"، أي: عنده ماء زائد عن حاجته في فلاة يمنعه من ابن السبيل، يأتي ابن السبيل محتاجا إلى الماء فيقول له: هذا ممنوع، لا تأخذ منه، لا تشرب منه، مع أنه زائد عن الحاجة ليس محتاجا إليه.
والثاني: "رجل بايع رجلا بسلعة بعد العصر فحلف له بالله لأخذها بكذا وكذا فصدقه وهو على غير ذلك"، هذا المنفق سلعته بالحلف الكاذب، لكن جاء في حديث أبي ذر على وجه الإطلاق، وجاء هنا مقيدا بما بعد العصر، حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة لا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم» قالها ثلاثة، قال أبو ذر: من هم يا رسول الله خابوا وخسروا؟ قال: «المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب» .
الشاهد قوله: "المنفق سلعته بالحلف الكاذب"، فهنا أطلق أن كل من كذب في سلعته فإن له هذه العقوبة، لكن يمكن أن نقول: هذا مطلق ويقيد بما في هذا الحديث، وهذا الحديث قيد الإطلاق من وجهين: أنه بعد العصر، وأنه حلف أنه أعطى بها كذا وهو لم يعطه، كما قيدنا قوله:"المسبل" بأنه إذا كان مسبلا ثوبه خيلاء.
"رجل بايع رجلا بسلعة بعد العصر فحلف له بالله لآخذها بكذا" من الحالف؟ البائع، "لأخذها" أي: اشترها بكذا، وقوله:"لأخذها" اللام الواقعة في جواب القسم، وحذف منها "قد"، وإلا فالأصل:"لقد"، لكن حذفت لقرب الجواب من القسم، "لأخذها بكذا وكذا" كناية عن عدد معين، "فصدقه" أي: المشتري؛ لأن المشتري رجل سليم القلب يظن أن الناس على صدق، وهو على غير ذلك، بكم سيأخذها المشتري؟ قد يأخذها بثمنها وقد يكون أكثر، المهم سوف يعتقد المشتري أنه لن يبيعها بأقل.
والثالث: "رجل بايع إماما لا يبايعه إلا للدنيا"، "بايع" أي: عاهده، وسميت المعاهدة المبايعة؛ لأن كل منهما يمد باعه إلى الآخر ليأخذ بيده، فيمد يده فيقول: أبايعك على كذا وكذا، فهذا بائع إماما على السمع والطاعة، ولكن إنا فعل ذلك لأجل الدنيا، إن أعطى من الدنيا وفى وإن لم يعط منها لم يف وتمرد وخالف وعصى هذا من الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، الشاهد من هذا الحديث قوله:"رجل بايع".
ففي هذا الحديث فوائد أصولية وفقهية جمة: منها: إثبات أن الله سبحانه وتعالى يكلم، ووجه الدلالة: أن الله نفى الكلام عن هؤلاء الثلاثة، ولولا أنه يكلم من سواهم ما كان [لتخصيصهم بعدم الكلام] فائدة، وكلامه سبحانه وتعالى بالحرف والصوت، فهو عز وجل يقول قولا مسوعا، وهذا شيء متواتر متفق عليه بين السلف، دل عليه الكتاب والسنة يقول الله عز وجل:{ونادينها من جانب الطور الأيمن وقربناه يحيا} [مريم: 52]. لما كان بعيدا ناده الله مناداة؛ لأن البعيد يحتاج إلى رفع الصوت، والنداء: هو المخاطبة برفع الصوت، ولما قرب صارت مناجاة؛ يعني: بصوت أدنى. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله سبحانه وتعالى يقول يوم القيامة: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك» ، الجواب: من من؟ من آدم «فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار» ، «فينادى -الفاعل الله عز وجل بصوت: إن الله يأمرك»، هذا الحديث واضح ينادي بصوت وقد حرفه بعض أهل التعطيل، وقال: إن الصواب: "فينادى بصوت إن الله يأمرك" من أجل أن
تكون المناداة من غير الله عز وجل، وأيد حديثه بقوله:"إن الله يأمرك"، ولم يقل: إني آمرك، ولكن هذا تحريف؛ لأن الرواة باللفظ المتواتر:"فينادي بصوت"، وأيضا لفظ الحديث في آخره:"قال: يارب، وما بعث النار؟ " وهو صريح في المخاطبة.
المهم: قوله: "فينادي بصوت" فإن قوله: "بصوت" توكيد لمعنى النداء؛ لأن النداء لا يكون إلا برفع صوت إذن كلام الله بحرف وصوت خلافا لقول الأشاعرة الذين قالوا: إن الله لا يتكلم بحرف وصوت، وإنما كلامه هو المعنى القائم بنفسه وهو أزلي لا يقبل الحدوث أبدا، وبناء على قولهم لا فرق بين العلم والكلام، لأن الكلام عندهم هو المغنى القائم بالنفس، ولا يمكن أن يتجدد ولا يحدث ولا يتعلق بمشيئة.
إذا كيف نجيب عما يسمعه الأنبياء الذي يوحى إليهم ويكلمهم؟ قالوا: إنه يخلق أصواتا تعبر عما كان في نفسه فيسمعه المخاطبون، وهذا تحريف، وهو يؤدي إلى فساد أبلغ من فساد الجعمية والمعتزلة؛ لأن الكل يقولون: إن ما يسمع مخلوق، لكن المعتزلة يقولون: هو كلام الله، وهؤلاء الأشاعرة يقولون: ليس كلام الله، بل هو عبارة عنه؛ ولهذا كانوا أبعد عن الصواب من المعتزلة في هذه المسألة؛ لأن أولئك يقولون هذا كلام الله تعالى خلقه وسمع، وهم يقولون: لا، لم يكن كلام الله ولكنه عبارة عنه.
ومن فوائد الحديث: إثبات يوم القيامة، والإيمان به أحد أركان الإيمان السنة وهو معروف.
ومن فوائده: إثبات النظر لله لقوله: "ولا ينظر إليهم"، ووجد الدلالة: أن نفي النظر عن هؤلاء دليل على إثباته لغيرهم، كما استدل الإمام الشافعي رحمه الله في قول الله تعالى:{كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} [المطففيين: 15]. قال: لم يثبت الحجب لهم وإلا وهو يراه من سواهم.
ومن فوائد الحديث: إثبات تزكية الله للعبد، وهذا ثابت حتى في القرآن، قال الله تعالى:{ولكن الله يزكى من يشاء} [النور: 21]. فمن الذي زكاه الله؟ الذي زكاه الله تعالى هو المتقي لقوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات: 13]، فكل فكل من كان أتقى لله كان أشد تزكية من الله تعالى.
ومن فوائد الحديث: إثبات العذاب وأنه عذاب ليس بالهين بل هو عذاب مؤلم لقوله: "ولهم عذاب أليم".
ومن فوائده: بذل فضل الماء لمن احتاجه إذا كان على طريق، وجه الدلالة على الوجوب: هو الوعيد على المنع، فإذا ثبت الوعيد على المنع ثبت الوجوب في البذل.
ومن فوائده: أن الإنسان إذا كان محتاجا إلى الماء فله أن يمنع غيره منه، يؤخذ من قوله:
"فضل الماء"، ومن قوله صلى الله عليه وسلم:«ابدأ بنفسك» ، وعلى هذا فإذا وجد ماء يكفي لإنقاذ نفس واحدة وهو مملوك لآخر وهو إن لم يشرب هلك ومعه صاحب له إن لم يشرب هلك، فهل الأولى لصاحب الماء أن يؤثر به صاحبه أو أن يشربه هو؟ الثاني.
هذا إذا لم يمكن قسم الماء، أما إذا أمكن قسم الماء فالأمر واضح، أما إذا لم يكن فالأولى أن يبدأ بنفسه لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«ابدأ بنفسك» ، وما ذكر من القصة التي حصلت في وقعة اليرموك وهي قصة الثلاثة الذين أحضر إليهم الماء، وكل واحد يقول: أعطه فلانا فما عاد إلى الأول حتى هلكوا جميعا، فهذه القصة أولا لا أعرف صحتها، هذه واحدة، والثاني: أنه اجتهاد، والمجتهد قد يخطئ وقد يصيب.
ومن فوائد الحديث: أن الكذب في ثمن السلعة بعد العصر من كبائر الذنوب، لقوله: "ورجل بايع
…
إلخ"، فهل يقال على الكذب في الثمن كالكذب في الصفة؛ يعني: هل تقول: إنه لو كذب الإنسان في وصف البيع بعد العصر وحلف بأن قال: والله إن هذه الشاة لبون، والله إن هذا الثوب من الثوب الأصلي، فهل نقول: كالكذب في الثمن؟ الظاهر: نعم؛ لأن كل منهما كذب من أجل زيادة الثمن، فالظاهر أن الرسول ذكر ذلك على ضرب المثل، وأن كل منهما كذب من أجل زيادة الثمن، فالظاهر أن الرسول ذكر ذلك على ضرب المثل، وأن كل من حلف في وصف السلعة أو في ثمنها من أجل الزيادة فالحكم واحد؛ لأنه يقتطع به مال امرئ مسلم.
ومن فوائد الحديث: أن مبايعة الأئمة من الدين، وجهه: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل المبايعة من أجل الدنيا من كبائر الذنوب وهو كذلك، ومبايعة العامة للإمام دين لا شك؛ لأنه يترتب عليها واجبات كثيرة ومحرمات كثيرة، وإذا كان عقد النكاح على المرأة من الدين وهو يترتب عليه ما يترتب على البيعة -بيعة الإمام- فهذه من باب أولى، فعندنا أثر وقياس، أن مبايعة الإمام من الدين؛ ولهذا من مات وليس في عنقه بيعة للإمام مات ميتة جاهلية.
ومن فوائد الحديث: تحريم مبايعة الإمام للدنيا، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم توعد على ذلك، وعلى هذا فيكون من كبائر الذنوب.
هل يقال مثل ذلك من كذب على الإمام بأن سأله الإمام عن أحوال الناس؟ فقال له: الأحوال كلها مرضية وكلها على ما تريد، كل شيء طيب، وهو كذاب هل يدخل من هذا؟ هذا لا يدخل في الحديث، لكنه خيانة لولي الأمر وخيانة للرعية، والواجب على من سأله ولي