الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا الحديث أصل في هذا الأمر، بمعنى: أن كل من تصرف بطريق شرعي مجتهداً فيه فلا ضمان عليه، حتى الطبيب إذا عالج المريض واجتهد وهو حاذق تماماً ثم أخفق فليس عليه شيء، إذا كان خطؤه في محل العلاج.
وما تقولون في الذي أفتى نفسه؟ مثلاً: أحد من البادية جاء إلى شخص وقال له: أعطني حبوباً فأعطاه حبوباً وقال آكل واحدة في الصباح وواحدة في السماء، وكانت هذه الحبوب تستوعب ثلاثة أيام، فقال الأعرابي: بدلاً من أخذها في ثلاثة أيام آخذها جميعاً لأجل أن أشفى اليوم، فأكلها جميعاً فكان حتفه، هلك، هل هذا مجتهد؟ لا، هذا من غير أهل الاجتهاد، ليس بطبيب، وعلى هذا يعتبر قائلاً نفسه، لكنه قتلها خطأ.
النهي عن الحكم حال الغضب:
1331 -
وعن أبي بكر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان» . متفق عليه.
"لا يحكم" بالسكون على أن (لا) ناهية، والرفع على أنها نافية، فأما على الوجه الأول فلا إشكال، وأما على الوجه الثاني -وهو النفي- فإن العلماء -علماء البلاغة- قالوا: إذا جاء النفي في موطن النهي فإنه يكون أوكد، كأن هذا الأمر أمر ثابت لابد منه يعني: أنه لا يمكن أن يحكم الحاكم بين اثنين وهو غضبان، وعلى هذا فما جاء بصورة الخبر في موضع الطلب فإنه يكون أقوى مما لو جاء بلفظ الطلب، كأن هذا أمر مستقر يخبر عنه خبراً ولا يطلب طلباً ومثل ذلك العكس إذا جاء الطلب في موضع الخبر صار أقوى مثل قوله تعالى:{وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم} [العنكبوت: 12]. هذه أبلغ من قوله: ونحن نحمل، لأن اللام هنا للأمر، كأنهم ألزموا أنفسهم بحمل الخطايا فهو أشد وأقوى من الوعد.
هنا: لا يحكم أو لا يحكم فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان، وجملة:"وهو غضبان" حالية من فاعل "يحكم" أي: والحال أنه غضبان، فما هو الغضب؟ الغضب حدة النبي صلى الله عليه وسلم بحد هو أحسن الحدود قال:«إنه جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم حتى يفور دمه» ، ثم قال:«ألا ترى إلى انتفاخ أوداجه واحمرار عينيه» فهو جمرة يلقبها الشيطان يلقيها في قلب الإنسان ثم يغلي دمه حتى لا يستطيع أن يضبط نفسه وربما غاب غيبة كاملة لا يشعر بشيء إطلاقاً، لا يدري أهو في أرض أم في سماء.
ففي هذا الحديث: نهى الحاكم أن يقضي بين اثنين وهو غضبان، لماذا؟ لأنه -أي: الغضب- يمنعه من تصور المسألة في أولها ثم تطبيق الحكم الشرعي عليها، وهذا يؤثر في الحكم؛ لأنه سبق لنا أن الحكم لابد له من ثلاثة أمور: الأول: تصور القضية، والثاني: العلم بالشرع، والثالث: تطبيق الشرع على هذه القضية، والغضبان لا شك أنه لا يدرك واحدة من هذه لكننا نقول: الغضب ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
طرفان ووسط؛ الطرف الأول: أول الغضب الذي يدرك الإنسان فيه ما يتصوره ويدرك على تطبيق الأحكام الشرعية عليه فهذا لا يمنع من القضاء، يعني: له أن يقضي ولو كان غضباناً، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بين الزبير وخصمه وهو غضبان، لكنه غضب لا يمنعه من تصور القضية ولا من تطبيق الأحكام الشرعية عليها.
الطرف الثاني: غضب شديد لا يحس الإنسان فيه بنفسه ولا يدري أهو في أرض أو في سماء، فهذا لا عبرة بقوله ولا يقضي بين الناس، وهذا متفق عليه بين العلماء.
والثالث: الوسط الذي لا يملك نفسه، لكنه يدرك ويدري أنه في أرض أو في سماء، ولكن الغضب كأنه شيء يكرهه على أن يقول ما يقول أو يفعل ما يفعل، فهذا موضع خلاف بين العلماء في تنفيذ الأحكام التي تجري في مثل هذا، وأما القضاء فإنه لا يقضي.
فصار القاضي لا يقضي في حال الغضب المتوسط والغضب الشديد النهائي، أما الغضب اليسير فإنه لا بأس أن يقضي به، لأنه لا يكاد يخلو مجلس القاضي من ذلك، من الذي يأتي من الخصمين متعجباً؟ قل ذلك، ولهذا تجد أنه في مكان القضاء والحكم، تجد اللفظ والأصوات ترتفع وربما يحصل المشاتمة بين الخصوم فلابد أن يثير غضب القاضي، لكن الغضب اليسير الذي لا يمنعه من تصور المسألة ولا من العلم بالشيء ولا من تطبيق الشرع عليها هذا لا يضره.
ففي هذا الحديث فوائد: منها: أنه ينبغي للحاكم أن يكون فارغ البال عند الحكم، أي: لا يتعلق باله بشيء سوى القضية التي بين يديه؛ لأن ذلك أقرب إلى إصابة الصواب.
ومنها: أنه لا يجوز أن يقضي في حال الغضب، والمراد به: الحال المتوسطة والحال الشديدة، ولكن لو خالف فحكم فهل ينفذ حكمه؟ قال العلماء: إن أصاب الحق في الحكم نفذ وإن لم يصب الحق لم ينفذ، وقال آخرون: لا ينفذ مطلقاً، ويجب إعادة القضية إذا برز عنه الغضب.
أما حجة الأولين فقالوا: إن النهي عن القضاء في حال الغضب لئلا يخطئ في الحكم، فإذا أصاب فقد زالت العلة فينفذ، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد أنه إذا خالف فأصاب فالحكم نافذ ولا يحتاج إلى إعادة القضية.
وأما حجة الآخرين فقالوا: إن هذا عمل نهي عنه لذاته، والقاعدة الشرعية "أن ما نهي عنه لذاته فإنه لا ينفذ"؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» ، وهذا الغاضب حكم حكماً ليس عليه أمر الله ورسوله، بل فيه نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك وحينئذ لا يكون نافذاً، ولكن القول الأول أقرب إلى القواعد وإلى ملاحظة المعنى، إنه إذا أصاب الحق نفذ الحكم وأنه أيسر للعامة؛ لأننا لو قلنا بعدم الحكم الأول ووجوب إعادة القضية ربما تحتاج إلى طول، ولاسيما في المدن الكبيرة التي تكثر فيها المحاكمات، فقد يمضي عليه سنة وسنتان وهو لم يصل إليه الدور وحينئذ تحصل مفاسد.
ومن فوائد الحديث: أن القاضي لا يحكم بين اثنين في حال تشويش فكره بغير غضب، مثل: أن يكون في هم شديد أو غم شديد أو اشتغال بمريض أو يكون هو نفسه مريضاً مرضاً لا يتصور معه القضية، وهذا القياس على الغضبان قياس جلي واضح؛ لأن العلة معلومة أشار إليها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله:«وهو غضبان» ، فإن الغضب يمنع من تصور القضية واستحضار العلم وتصور تطبيق الأحكام الشرعية على هذه القضية، وعلى هذا فإذا جاء الخصوم إلى القاضي وقد اغتسل للجمعة وهو الآن يرتعد برداً فهل يحكم بين الخصوم في هذه الحال؟ لا يحكم؛ لأنه مشغول، الرجل الآن لا يمكن أن يتصور القضية أو الحكم على الوجه الذي ينبغي، فيقال: انصرفوا عنه حتى يزول ما به من ألم البرد، وكذلك الحر المزعج، لو كان هناك حرارة شديدة والخصوم طلبوا منه أن يقف لهم في حر الشمس في أشد القيظ، قالوا: لابد أن تقضي بيننا، لا تمش خطوة حتى تقضي بيننا وهو الآن حران وسط الشمس في أيام القيظ، فهنا له أن يصرفهم، ولا يقال: إن الرجل امتنع عن الحكم بين الناس وقد أمر أن يحكم بين الناس؛ لأنه هنا يكون معذوراً.