الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجه اتخاذ هذا الأثر في باب الشهادات: أن الأصل في المسلم هو العدالة وقبول الشهادة، وهذه المسألة اختلف فيها العلماء: هل الأصل في المسلم العدالة أو الأصل فيه عدم العدالة؟
في هذا قولان للعلماء؛ منهم من قال: إن الأصل إنه ليس بعدل فلا تقبل شهادته حتى تتبين لنا عدالته؛ لأن العدالة شرط وجودي فلابد من وجوده، اشترطه الله في قوله:{وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق: 2]. ومنهم من قال: إن الأصل في المسلم أن يكون قائما بطاعة الله ممتثلا بأمره والفسق طارئ عليه، فالأصل فيه العدالة والذي يظهر لي أن يقال: إن هذه المسألة تختلف باختلاف الناس، فمن لم يظهر منه سوء حملناه على العدالة وقبلنا شهادته، لكن للخصم المشهود عليه أن يطعن فيه ويجرحه، ثم يعطى مهلة لإقامة البينة على جرحه، فإن ثبتت فحينئذ ترد شهادته، وهذا الذي نقوله فيمن لم تظهر عدالته وتتبين لجميع الناس، وفيمن لم يظهر فسفه وانحرافه، أما من ظهرت عدالته وصار معروفا عند الناس فهذا لا إشكال في أن الأصل في العدالة، ولهذا لو طعن أحد في الإمام أحمد وقال: لا ندري هل هو عدل فنقبل روايته أم لا؟ لا حاجة لهذا، لا حاجة أن نطلب التعديل في مثل الإمام أحمد أو نحوه من العلماء الأئمة الثقات، ولو طعن إنسان في شخص معروف بالفسق والفجور لا حاجة إلى أن نقول: هات البينة؛ لأن هذا أمر واضح للناس كلها.
شهادة الزور:
1345 -
وعن أبي بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه عد شهادة الزور في أكبر الكبائر» . متفق عليه في حديث طويل.
الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ » قالوا: بلى يا رسول الله، قال:«الإشراك بالله وعقوق الوالدين» ، وكان متكئا فجلس فقال:«ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور» ، فما زال يكررها حتى قالوا ليته سكت. فجعلها النبي صلى الله عليه وسلم من أكبر الكبائر، فما هي شهادة الزور؟ الزور مأخوذ من الازورار وهو الانحراف، وشهادة الزور: كل ما خالف الحق، فمن شهد بما يعلم أن الأمر بخلافه فهو شاهد زور، ومن شهد بما لا يعلم فهو شاهد زور، ومن شهد بما علم على الوجه الذي علم شاهد حق.
فشاهد الزور قسمان: من شهد بما يعلم أن الأمر بخلافه ومن شهد بما لا يعلم، وأما شاهد الحق فهو الذي شهد بما يعلم على حسب ما علم.
مثال ذلك: رجل ادعى على شخص بألف ريال وأقام شاهدا، والشاهد يعلم أن المدعي كاذب ولكنه شاهد؛ لأن المدعي صاحب له، فالشهادة هنا شهادة زور لا شك، لأنه شهد بما بعلم أنه باطل.
ومن شهد بما لا يعلم مثل أن يدعي شخص أنه سلم فلانا مائة ورقة في ظرف وعنده شخص آخر يشهد أنه أعطاه الظرف لكن لا يدري ما الذي في الظرف هل هو دراهم أو رسائل أو خرق؟ لا يدري، ولكنه لما أقيمت الدعوى شهد بأنه أعطاه ظرفا فيه الدراهم فهذا شهد شهادة زور؛ لأنه لا يعلم ما في هذا الظرف فتكون شهادته شهادة زور.
وأما من شهد بالشيء الذي يعلمه على الوجه الذي يعلمه فهذا شهادته شهادة حق، إذن شهادة الزور من أكبر الكبائر لما يترتب عليها من إتلاف الأنفس والأموال والأبضاع والأعراض؛ لأن شاهد الزور لا تقتصر شهادته على أن يشهد بدرهم أو بدرهمين، ولكنه قد يشهد بما يؤدي إلى الرجم، قد يشهد بما يؤدي إلى قطع اليد، قد يشهد بما يؤدي أن ترد شهادة المشهود عليه، فلذلك كانت شهادة الزور من أكبر الكبائر، وعظم النبي صلى الله عليه وسلم شهادة الزور بأمرين: بالقول والفعل، أما القول؛ فلأنه كررها حتى تمنى الصحابة أنه سكت، وأما الفعل فكان متكئا فجلس، وهذا يدل على تعظيم الأمر، أرأيت لو أن شخصا دخل عليك في البيت وأنت متكئ وأنت تعظمه ألست تقوم وتقعد لعظم من ورد عليك؟ لكن لو دخل عليك ابنك الصغير وأنت متكئ لا تهتم له، فكون الرسول صلى الله عليه وسلم متكئا فيجلس يدل على عظم الأمر وهو كذلك لما يترتب على هذه الشهادة من العظم.
في هذا الحديث فوائد: أولا: ما ذكره المؤلف رحمه الله من أن شهادة الزور من أكبر الكبائر.
ثانيا: أن الذنوب كبائر وصغائر، فما هو حد الكبيرة؟ اختلف العلماء في ذلك، منهم من عد الكبائر عدا ولم يذكر لها حدا، ومنهم من ذكر لها حدا، واختلفوا أيضا فقيل: ما ختم بلعنة أو غضب أو نفي إيمان فهو كبيرة، وما لم يختم بذلك فهو صغيرة.
وذكر شيخ الإسلام رحمه الله في بعض كلامه: أن ما رتبت عليه العقوبة الخاصة فهو كبيرة؛ لأنه خص بذكر العقوبة، وما ذكر التحريم فيه أو الكراهة بدون أن تذكر له العقوبة فهو من الصغائر.
ومن فوائد الحديث: أن الكبائر تختلف، فيوجد كبائر دون الأكبر لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«ألا أنبئكم بأكبر الكبائر» .
ومن فوائد هذا الحديث: أن شهادة الزور من أكبر الكبائر كما ذكر، لكن أعدناها لما يترتب عليها من التحذير من شهادة الزور.
فإذا قال قائل: هل يجوز أن أشهد بما دلت القرينة عليه أو أشهد بالقرينة فقط؟