الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أشكال من الطغيان لا مثيل لها، وكان أبرز ما حفظ هو قرار المجمع الثاني عشر سنة (1215 م) حول "استئصال الهراطقة، ويعنون بذلك كل من يرى رأيًا مخالفًا للكنيسة، ولو كان رأيًا في الكون أو طبائع الأشياء، ولم تكتف الكنيسة بقتل من يجهرون بآراء تخالف آراءها، بل أخذت تنقب على القلوب وتستكنه خبايا النفوس، تكشف عن سرائر الناس بما أسماه التاريخ محاكم التفتيش، التي دنست تاريخ الأديان بما ارتكبت من آثام، وما أزهقت من أرواح، وما سفكت من دماء، وما عذبت من أحياء"(1). وقد حظي علماء العلوم الرياضية والطبيعية بنصيب وافر من هذا الطغيان؛ فالكنيسة قد أدخلت نظريات علمية قديمة في صلب عقائدها، مما يجعل التفكير في غيرها مستحيلًا؛ لأنه يعدّ خروجًا على الدين وكفرًا به، ومصير صاحبه الحرق كما حدث لمجموعة من المصرّين على مخالفاتهم، وبهذا أقفلت الكنيسة طريق التفكير العلمي.
وقد أعطت الكنيسة لأهلها صلاحيات واسعة في حق احتكار المعرفة الدينية والدنيوية، وحق تقرير ما الصحيح منها دون أن يكون معهم ما يؤهلهم لاتخاذ هذا القرار، صاحب ذلك مهزلة أخلاقية تمثلت في إقرار المجمع نفسه -الثاني عشر- صكوك الغفران (2) التي تمنحها الكنائس للمذنبين مقابل ما يدفعونه من مال، مع ما يمنح هذا الصك من السماح بالذنوب بطريقة غير مباشرة ما تبقى من العمر، وإعطاء مقعد محجوز سلفًا في الجنة، فتفتح الباب للانهماك في الانحراف، وتقفله أمام البحث العقلي والعلمي، وتمنح المنغمسين في الانحراف كل السماح والغفران، وتحرق من يأتي بنظرية علمية أو تحليل عقلي يخالف لاهوتها.
العداء بين الكنيسة وطوائف اجتماعية جديدة:
استعدَت الكنيسة أغلب تيارات المجتمع باسم الدين، مما ولّد المقاومة عند تلك التيارات لاسيّما بعد اطلاع شعوبها على الحضارة الإسلامية المجاورة لهم، وكان من أبرز صور المقاومة حركة الإصلاح الديني مع "لوثر" و"كالفن"
(1) انظر: محاضرات في النصرانية ص 167.
(2)
انظر حول هذه الصكوك، العلمانية. .، سفر الحوالي ص 110، مذاهب فكرية معاصرة، محمَّد قطب ص 63، ومحاضرات في النصرانية ص 171.
وغيرهما في الجانب الديني، وحركة رواد عصر النهضة ذات المنحى العلماني الدنيوي، وحركة علمية جديدة ظهرت في علم الفلك والفيزياء والرياضيات، أعلن الجميع مبادئ وأفكارًا ونظريات تخالف الموقف الكنسي الرسمي، وسأركز على الفئة العلمية من هذه الفئات.
عندما ظهرت المستجدات العلمية لم تكن الكنيسة في وضع يهيئها لدخول صراع شريف؛ لذا خسرت المعركة وسقطت سقطة مدوية لم يتحسر عليها أحد؛ وذلك أن الكنيسة من الناحية العلمية المعرفية والعملية الأخلاقية لم تكن الممثل الشريف لدخول معركة العلاقة بين الدين والعلم -مع أن الأصل ألّا تكون هناك معركة بين الدين الحق والعلم الصحيح- فالكنيسة من الناحية العلمية ذات أصول دينية ومنهجية وعلمية محرفة ومشكوك في أكثرها، والديني منها قد أصابه الزيادة أو النقص أو التحريف والتغيير، لذا كانت قيمتها المعرفية ضعيفة عند العقلاء (1)، فدخلت الصراع ببضاعة فاسدة وسلاح مهترئ، وهي من الناحية العملية لم تكن أحسن حالًا، إذ كانت تمارس الفساد والطغيان باسم الدين.
وقد كان أصعب خسائرها في تلك المواجهة هو خسارتها للعلم الجديد أحد أخطر الأسلحة في العصر الحديث، مما مكّن خصومها -بمن فيهم الكارهون لكل دين- من الاستيلاء عليه بسهولة، ليصولوا به ويجولوا في ميدان الصراع ويقطفوا ثمار النصر بسهوله، ويوجهوا السلاح الجديد فيما بعد كيفما شاؤوا.
فقد صاحب انهيار الكنيسة التدريجي صعود فئات جديدة كان من مصلحتها تحطيم الدين كله أو على الأقل تحطيم مؤسساته، وتبنت هذه الفئات العلم ورعته لينفعها في المستقبل، مما جعله يموج معها كيفما شاءت، وذلك من باب رد المعروف. فإذا كانت الكنيسة قد خذلت العلم والعلماء وأذاقتهم الويلات، بخلاف تلك الفئات التي أظهرت وقوفها إلى جانب العلماء وعلمهم؛ فقد تحمّل العلم تبعات ثقيلة فيما بعد تمثلت -بغير حق- في رد المعروف لتلك الفئات المحاربة للدين، فقدم لها بعض ما يساعدها في دعوتها.
(1) اعترفت الكنيسة في القرن التاسع عشر بنقص الدقة العلمية في الإنجيل. انظر: الجفوة المفتعلة بين العلم والدين، محمد يوسف ص 18، و"الإنجيل" ليس فيه نقص، فهو وحي من عند الله، ولكن تحريف أحبارهم ورهبانهم جعله قبلة للطاعنين.