الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
طريقة طلبها كانت سيئة للغاية، وهذا مما يجعل تجربة محمَّد علي تجربة مشبوهة أو تثار حولها الأسئلة.
كان هذا المسلك السيئ واحدًا من طرق تعرفنا على العلوم الحديثة، حيث كان يقدمها لنا من كان يريد الانقضاض علينا واحتلالنا. ومن وقت قصير خرج ذاك العدوّ من تجربة فاشلة مؤلمة لكنه يريد أن يعوضها بمثل هذا التغلغل الخطير تحت مظلة تسويق العلوم الحديثة. لا يمكن بأية حال أن نتوقع من هؤلاء الأجانب تحمسًا منهم لنفع المسلمين أو إعطائهم ما يرفع من شأن المسلمين ويزيد من قوتهم، وكان يمكن أن يُقال بأننا سنأخذ منهم ما ينفعنا -فهم أشبه بالأجير- لولا ما حدث من تمكينهم في إدارة الوضع في مقابل الإقصاء الواضح لمن لا يعجبه من أهل الإِسلام.
كان الأسلوب في تعريف المسلمين بعلوم العصر مستفزًا للغاية، فكيف يمكن تقبل مثل هذا المسلك؟! وكيف يستساغ من العامة فضلًا عن العلماء؟! فرق بين جلب الأجانب وأخذ ما عندهم من علم نافع أو صناعة أو حرفة أو مهارة، وبين أن يمكنوا كل هذا التمكين بينما يُبعد أهل الدين والعلم الشرعي، وقد كان هذا من أسباب تعكر العلاقة مع العلوم الجديدة؛ فقد شعر البعض أننا أخذناها بمهانة وذلة، ووضعت عند أطراف منفصلين عن جسد الأمة، أو وضعت عند من فقدوا هويتهم. قد يقول البعض -وما أكثر ما نقرؤه- بأن هؤلاء الأجانب نشروا معارف انتفع بها الناس، فهذا مستشار التعليم "كلوت" الذي نشر التعليم في مصر وأسس مدارس طبية (1). . . .، فكيف ننكر أثره وأثر من جاء به؟! وهؤلاء لا يفرقون بين الاستفادة مما عند الكافر وبين أن يمكنوا من المسلمين، فتغافلوا عن التساؤل: هل كانت الطرق مقفلة إلا من هذه الطريقة؟ وهل كان الأمر يستحق هذه الخسائر الفادحة من كرامة المسلمين؟ من الصعب محاكمة التاريخ، ولكن هذا الكلام يقال لما نشاهده من تضليل فكري سائد في كثير من الكتابات المعاصرة.
ب- مشروع الابتعاث لأوروبا:
أشهر قرار اتخذ في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر لتحصيل العلوم
(1) انظر: تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، جرجي زيدان 2/ 7 وما بعدها.
العصرية وأدوات صناعة المدينة الحديثة هو قرار أو مشروع الابتعاث، والذي يظهر أن مثل هذا العمل لم يحدث في تاريخ الأمة الإِسلامية، فالمعهود هو إرسال شخص أو أن يتحمس أحد الناس لطلب ما عند الأمم الأخرى من علوم فيذهب إليهم، أو طلب أحد الماهرين من أبناء تلك الأمم ليعلم بعض أبناء المسلمين مثل هذه العلوم، أو نقل كتبهم ودراستها دراسة ذاتية، أما أن يتم إرسال طلبة يدرسون في مدارس الأمم الأخرى، ثم يعودون لنقل ما درسوه؛ فما اشتهر إلا مع هذه التجربة التي قام بها محمَّد علي، وقد سار على هذه الطريقة فيما بعد مركز الخلافة (1)، ثم أغلب ولاة المسلمين في ذلك القرن، واستمر هذا في القرن اللاحق بعد سقوط دولة الخلافة والوقوع في فخّ الاستعمار، واستمر أيضًا مع ولادة دول ما بعد الاستعمار، حيث يعدّ الابتعاث -وإلى الآن- السياسة المتبعة في تحصيل العلوم والصنائع والفنون من الغرب.
لقد أصبح مصطلح "الابتعاث" مكونًا من مكونات التعليم في العالم الإِسلامي، ولا تجد إلى الآن مؤسسة تعليمية إلا وفيها إدارة خاصة للعناية بالابتعاث، ومع أننا لما يقرب من قرنين نبتعث؛ إلا أن ذلك لم يحقق لنا الاستقلال المعرفي، ربما لأننا لم نراجع مثل هذا المصطلح، ولم نبحث عن إمكانية التخلص منه والبحث عن طريق آخر للخروج من مأزق التبعية المعرفية.
بعد أربعة أعوام من تولي "محمَّد علي" السلطة أرسل البعثة الأولى إلى إيطاليا سنة (1809 م) لدراسة العلوم العسكرية وبناء السفن والطباعة وفنون الهندسة، تحولت بعد ذلك البعثات إلى فرنسا، وكانت بعثة سنة (1826 م) أشهرها بسبب شهرة واعظ البعثة الشيخ "رفاعة رافع الطهطاوي"، وتختلف التقديرات حول نوعية التخصصات؛ إلا أن العلوم العسكرية أخذت حصة الأسد، أما العلوم العصرية الحديثة فهي وإن كان أغلب المبتعثين يطلعون عليها إلا أن هناك قلة (2) تخصصت فيها.
(1) بدأت بعثات محمَّد علي (1809 م)، بينما كانت أول بعثة من الدولة العثمانية زمن محمود الثاني سنة (1827 م) مكونة من (150) طالبًا، انظر: نهضة مصر. . . .، أنور عبد الملك ص 129، 133.
(2)
انظر: رفاعة الطهطاوي. . . .، د. محمَّد عمارة ص 47 - 49، وحول حصر البعثات وإحصائيات حول التخصصات زمن محمَّد علي، انظر: نهضة مصر. . . .، أنور عبد الملك =
ويعتبر مجموع هؤلاء المبتعثين أول طائفة من المسلمين تنظر بتوسع في "العلم" بصورته التي وصل إليها في الغرب، ولاسيّما أن مفهوم العلم قد تغير عندهم، وفي ذلك يقول أحد أشهر المبتعثين رفاعة الطهطاوي:"ولا نتوهم أن علماء الفرنسيس هم القسوس؛ لأن القسوس إنما هم علماء في الدين فقط، وقد يوجد من القسوس من هو عالم أيضًا، وأما من يطلق عليه اسم العالم فهو من له معرفة في العلوم العقلية. ."(1)، فإن مفهوم العلم يطلق عادة على العلوم الدنيوية، بينما ضَعُف إطلاقه عندهم على العلوم الدينية.
كان هؤلاء الشباب نواة المسلمين الأولى في التعرف على العلوم العصرية؛ لأن الأمر قبلهم كان محصورًا في الملّيين من يهود ونصارى الذين يتولون أمور الطب والحساب والصنائع، وهذه المجموعة قد وصلت أوروبا ولاسيّما فرنسا وهي تموج بأوضاع مثيرة أخطرها تحديد الموقف من الدين؛ إذ كانت آنذاك فترة القرار العلماني المتطرف النازع لرفض الدين تمامًا وتأسيس مستقبل جديد لا علاقة له بالدين، وغير المتطرف منهم يسمح بوجود الدين كمؤسسة على هامش المجتمع لبعض الأفراد الذين لا يستغنون عنها، وأخطر ما في ذلك: التوجه إلى تأسيس العلوم منفصلة عن الدين، بل توظف كثيرًا في ضرب المفاهيم الدينية، ففي هذا الجو الصاخب رمي بهؤلاء الشباب في أتون تلك المعركة التي حيرت أهلها فكيف بغيرهم!! فهل يستطيع هؤلاء الشباب استخلاص النافع من علوم الغرب وعدم التأثر بظاهرة العلمنة العلمية (2)؟
لا نريد أن نُحمّل أولئك المبتعثين وحدهم ضعف الثمرة المرجوة وظهور بعض المشاكل المرتبطة بهم؛ فإنهم رغم كل ما يقال قد اجتهدوا رغم ضعف إمكانياتهم وصعوبة مغامرتهم في تلقي ما استطاعوا من معارف ونقلها بحسب المستطاع إلى بلادهم، ولكن الذي يتحمل التبعة أكثر من غيره هو صاحب المشروع وصاحب سياسة الابتعاث، فإن الابتعاث لم يوضع في صلب رؤية واضحة المعالم يُقصد بها تقدم الأمة الإِسلامية ولو في ذاك الجزء من بلاد
= ص 129 - 132، وانظر: دولة محمَّد علي والغرب -الاستحواذ والاستقلال، حسن الضيقة ص 231 - 232.
(1)
تخليص الإبريز في تلخيص باريز، رفاعة الطهطاوي ص 258.
(2)
انظر: واقعنا المعاصر، محمَّد قطب ص 207 - 210.