الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثًا: دور الصحافة (نشأتها وتمكن النصارى منها وتوجيههم التغريبي لها)
لعبت ثلاثة عناصر دورًا خطيرًا في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، وهي:"المحافل الماسونية، والمدارس الأجنبية، والصحافة"، حيث شاركت في توجيه الأفكار وصناعة المشاكل، ومن ذلك أثرها في إفساد مسيرة العلوم العصرية في مجتمعنا الإسلامي، بسبب ما بثته فيها مما لا يخدم التطور العلمي الصحيح.
كانت الصحافة من أخطر أدوات التعبير والتأثير في تلك المرحلة (13/ 19) كونها تتمتع بجاذبية خاصة، فهي الوسيلة الإعلامية الوحيدة آنذاك دون منافس، فلا إذاعة ولا شاشة، وكانت المنفذ إلى النخبة والجمهور، ومن الطبيعي أن تنشر ما يريده أصحابها.
والصحافة بنت المطبعة، وعندما جُلبت المطبعة إلى البلاد الإسلامية بدأت مشروعات الصحافة، وقد ظهرت أول ما ظهرت في بلاد الشام وفي مصر، أما في مصر فكانت أول ما ظهرت في أثناء حملة "بونابرت" على مصر، وأما في الشام فكانت عبر الإرساليات التنصيرية ولاسيّما الأمريكية (1).
وعندما نجح "محمد علي" في تثبيت سلطته في مصر وابتعث من ابتعث -ومنهم "الطهطاوي" الذي تحدث في كتابه عن صحافة باريس- واهتم بالمطبعة، أُسست عندها صحيفة رسمية تولى الإشراف عليها فيما بعد رفاعة
(1) انظر: الاتجاهات الفكرية عند العرب. . . .، علي المحافظة ص 28، الإسلام والحضارة الغربية، د. محمد حسين ص 54.
الطهطاوي (1)، بعدها بدأت الصحافة في حضورها على السطح الثقافي. أما في الشام فمن المعلوم أن الإرسالية الأمريكية نقلت مطبعتها من مالطة إلى بيروت من أجل نشر كتبهم الدينية، ثم تطور الأمر إلى ظهور المطابع بإدارة نصارى تلك البلاد، وما تبع ذلك من ظهور صحافة يديرونها وتنتشر بينهم وبين المسلمين (2).
وبما أن الصحافة منها الخاص بالأخبار والمعلومات ومنها ما هو خاص بالفكر والرأي، وغالبًا ما تخلط هذا بذاك، فإنها لابد ستنشر شيئًا من المعارف الجديدة والآراء والأفكار المصاحبة لها. وقد كان من بين ما اعتنت به حركة الصحافة آنذاك تعريف المجتمع بالعلوم العصرية وبعض ما ارتبط بها، ثم تحول التعريف إلى تأثير في بعض القراء وبدأت تبرز المذاهب والأفكار الجديدة، ثم ما لبثت أن اتسع تأثيرها ليصل لجمهور القراء الذين يمثلون آنذاك قادة المجتمع والنخبة المهمة فيه.
أبحثُ في هذه الفقرة عن الأثر السلبي للصحافة بداية ظهورها في طرحها للعلوم العصرية وآثار ذلك في: الانحراف بمسيرة تلك العلوم، أو إعاقة نمو النافع منها نموًا صحيحًا مفيدًا للأمة. وتختلف (المدرسة) عن (الصحيفة) بأن (المدرسة) خاصة بفئة معينة من المجتمع، أمّا (الصحيفة) فهي موجهة لكل قارئ، مما يعني أن فعل الصحيفة أوسع من أثر المدرسة، وإن كانت المدرسة ربما أعمق، كما أن الصحيفة آنذاك كانت تُطلب ويُعتنى بها من قبل النخب المتنوعة، وقد لا يتأتى ذلك في المدرسة. أما (المحافل) فهي أداة استقطاب للنوعيات المميزة وإدارتهم وتوجيههم فيما بعد بما يخدم أهداف الماسونية.
لا يكاد يقع اختلاف بين الباحثين بأن القرن الثالث عشر/ التاسع عشر قد شهد طلبًا واضحًا للنهضة والتحديث، وأن عمدة ذلك يتأكد في طلب العلوم العصرية ذات الثمرات المدنية المشهودة، عبر الابتعاث أو طلب المدرسين الأجانب وفتح المدارس الخاصة بذلك، وأن ذلك أعاد الاعتبار لمثل هذه
(1) انظر: رفاعة الطهطاوي. . . .، د. محمد عمارة ص 75 - 82.
(2)
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، جرجي زيدان 2/ 35، في أثناء حديثه عن بطرس البستاني.
العلوم، ولكنها بقيت بعيدة عن الجمهور لاسيّما والمدارس محدودة العدد وكذا المبتعثين، فجاءت الصحافة الناشئة لتعمم هذه الفكرة، ولكنها بسبب انحيازها لاتجاه معين وفكر معين أوقعت قرائها في شَرَك أهوائها، وبدل أن تكون أداة نهضة للأمة تحولت إلى أداة إشكال وتوتر.
كانت فترة ازدهار الصحافة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر وأول العشرين (13 - 14 هـ) إلى بداية الحرب العالمية الأولى، ولاسيّما في ظلّ غياب منافس إعلامي لها، حيث صاحب تطور الطباعة تطور الصحافة وظهرت الصحف والمجلات لأول مرة في العالم الإسلامي، وقد كان للصحفيين السوريين نشاطًا قياديًا في كل من سوريا ومصر وأوروبا، ومن خلال صحفهم "تسربت الأفكار الأوروبية الجديدة إلى القراء العرب"(1)، وفي مصر مثلًا -الأشهر في هذا الميدان وقبل الاحتلال البريطاني- كان يوجد فيها سنة (1879 م)"ست عشرة صحيفة، عشر منها تصدر باللغة العربية" وبحسب رأي "مالكولم" فقد "كان الكثير منهم متأثرًا بالأفكار الفرنسية بصورة كبيرة: إذ كانت المدارس والصحف الفرنسية قوية في مصر، كما انتقل العديد من الكتاب الذين بدؤوا مهنتهم في مصر إلى باريس فيما بعد، حيث كانت تسود الآراء والأفكار المعادية لبريطانيا"، ومما يميزها الحضور البارز للمهاجرين الشوام (2) ولاسيّما النصارى.
جاءت الصحافة بعد أن بدأت تجارب التحديث في بعض البلدان الإسلامية وكان أشهرها تجربة والي مصر محمد علي، ومن ذلك فتح المدارس المتخصصة في تحصيل العلوم العصرية، وأصبحت مصر نموذج التجارب الأخرى ومدارسها ربما تتلقى طلبًا من هنا أو هناك للالتحاق بها، ولكن هذه العلوم بقيت محصورة في فئة وبعيدة عن عموم المجتمع، وكان هناك نوع من القطيعة بين الأزهر -وهو المركز العلمي الأقرب للناس- وبين هذا المركز الجديد للعلم، وقد كان من المفترض أن تلعب الصحافة دورًا مهمًا في ردم الفجوة بين الأزهر كنموذج وبين مؤسسات العلوم العصرية، وبين المجتمع عمومًا وبين ما أُدخل عليه دون تهيئة مناسبة من مدارس ومدرسين أجانب أو طلب العلم في بلاد الكفار، وكان يمكن
(1) انظر: نشوء الشرق الأدنى الحديث. . . .، مالكولم ياب ص 226.
(2)
انظر: المرجع السابق ص 243.