الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ب- ديكارت:
كان "بيكون" ممثلًا للتيار التجريبي ومؤسسًا له ومخططًا صورة علاقته بالعلم الجديد، وانتشرت رسالته في إنجلترا مع من تأثر به في أوروبا، يقابله فيلسوف العقلانية ومؤسس الفلسفة الحديثة الفرنسي ديكارت (1595 - 1650 م)، ويختلف عن بيكون بميله للهدوء والبعد عن السياسة وحبه للفلسفة واشتغاله بها.
وتنبع أهمية البحث عن دوره: من كونه المؤسس للتيار الآخر والشق الثاني في الفكر الغربي الحديث وهو: التيار العقلي، وكان أثره كبيرًا في وضع بصمات خاصة حول علاقة التيار بالعلم، وله جهد بارز في رسم منهج العلم والفكر فضلًا عن كونه عالمًا في الرياضيات ومبتكر الهندسة التحليلية، فهو بخلاف بيكون قد قدم اكتشافات علمية جديدة. وشارك بيكون بالدعوة لمنهج جديد، وانتقاص المنهج الأرسطي السائد، وأن العلم والفكر في حاجة لمثل هذا المنهج الجديد لكي يتقدم.
كان من أول مؤلفاته كتابه "بحث في العالم" وفيه يثبت دوران الأرض حول الشمس، وعندما سمع ما حلّ بجاليليو أخفى كتابه؛ لأن مادة الكتاب الأساسية تقوم على إثبات ذلك (1). وسأترك مادة ديكارت الفلسفية؛ لأن لها مجالها في الدراسات الفلسفية وأكتفي بما له علاقة بالثورة العلمية، وفي ذلك يقول عبد الرحمن بدوي: "استهدف ديكارت في تفكيره تحقيق ثلاثة أمور:
1 -
إيجاد علم يقيني فيه من اليقين بقدر ما في العلوم الرياضية، بدلًا من العلم الواصل إلينا من العصر الوسيط.
2 -
تطبيق هذا العلم اليقيني تطبيقًا عمليًا يمكن الناس "من أن يصيروا بمثابة سادة ومالكين للطبيعة".
3 -
تحديد العلاقة بين هذا العلم وبين "الموجود" الأعلى أي الله، وذلك بإيجاد ميتافيزيقا تتكفل بحل المشاكل القائمة بين الدين والعلم" (2)، وهذا تلخيص جيد من بدوي.
(1) انظر: ديكارت، د. مهدي فضل الله ص 81.
(2)
موسوعة الفلسفة، بدوي 1/ 491، والتعريض للخط والترقيم من الباحث.
نلحظ بعض الاتفاق مع طموحات بيكون، وإن كان بيكون لا يريد العلم اليقيني، ويكتفي بالعلم النافع حتى وإن لم يكن يقينًا، إلا أنه كبيكون حدد غاية العلم بالسيطرة على الطبيعة والقدرة على استثمار مواردها وكنوزها، وبقدر إيجابياتها فقد تحولت دعوى السيطرة على الطبيعة إلى آفة في الحضارة الحديثة بعد تحولها إلى دمار هائل بسبب انفلات الدعوى من عقال الأخلاق والدين، وأما الثالثة فهي تحدد مشكلة العلاقة بين الدين والعلم، وهي مشكلة اتخذ حلّها في الفكر الغربي طريقة الفصل ثم العزل؛ أي: الفصل بين الدين والعلم، ثم عزل الدين في مكان قصي.
بدأت عنايته بالعلم بعد رؤيا رآها كما يقول عن نفسه أُمر فيها بإقامة هيكل العلوم (1)، وبعد زمن بدأت عنايته في إصلاح الفلسفة، وإيجاد منهج جديد للبحث في كل العلوم (2).
وقد كان من بين أشهر كتبه التي عُني فيها بإصلاح المنهج كتابه: "مقال عن المنهج"، وهو كتاب صغير الحجم أوضح فيه القواعد التي ينبغي على العقل أن يتبعها في بحثه عن الحقيقة في مختلف العلوم، وقد بالغ بعض النقاد في مدح هذا الكتاب من قوله: أنه كان وراء نشأة كل العلم والحضارة الغربية (3).
ويقوم منهج ديكارت الشهير، والذي دخل بسببه باب الشهرة، على أربع قواعد، وذلك أنه يرى أن القليل من القواعد النافعة أفضل من الكثرة دون فائدة، وهي سمة بارزة أيضًا في منهج بيكون السابق ذكره، وهذه القواعد الأربع هي:
1 -
ألا أقبل أي شيء أنه حقيقي إلا إذا تبينت أنه كذلك بيقين، وهذا يعني: تجنب الاندفاع في الحكم.
2 -
أي صعوبة تقابلني أقسمها إلى أجزاء بقدر الحاجة المعينة على فهمها وحلّها، وهذه عملية تحليل.
3 -
بعدها التركيب، وهي أهمها في نظر ديكارت وأن المنهج بأجمعه ينحصر فيها: فبعد التحليل نركب ونجمع الأجزاء إلى بعضها، ونرتبها وننظمها
(1) انظر: ديكارت، مهدي ص 78.
(2)
انظر: المرجع السابق ص 80.
(3)
انظر: المرجع السابق ص 82.
بغية توجيه العقل لاستكشاف الحقائق، ولا يشترط أن نعيد ترتيب المشكلة كما كانت، بل نرتبها بحسب ما يساعد على الفهم والحل.
4 -
أن أقوم بإحصاء تام ومراجعة عامة على نحو أتأكد معه أنني لم أغفل شيئًا (1).
ولم يكتف ديكارت ببيان هذه القواعد وشرحها، بل أقام عليها فلسفة كبيرة، وكون مدرسة فكرية مشهورة، فالمدرسة الديكارتية أو المذهب العقلي الحديث ترجع إلى فلسفة ديكارت ومنهجه.
وموقف "ديكارت" الديني والخلقي أفضل بكثير من موقف "بيكون"، فقد كان ديكارت مهتمًا بإثبات الربوبية والإيمان بالله سبحانه وأنه الخالق للكون والبشر، وكان مهتمًا بالجانب الخلقي والتربوي بعكس ما رأيناه مع بيكون الذي وإن كان يؤمن بوجود الله سبحانه وينكر على الملاحدة مذهبهم، إلا أن ما بعد ذلك لا يعنيه.
ولا شك أن العلاقة السيئة مع الكنيسة كانت أحد الدوافع لابتعاد هؤلاء عن الدين أو العناية به، أو البحث في حقيقته، أو محاولة تصحيح الانحرافات التي أضافتها الكنيسة إليه. وانصرف همهم إلى البحث عن السلامة من الكنيسة إن كانوا في موطنها القوي، والتأكيد المتواصل لأهمية فصل الكنيسة واللاهوت والدين عن العلم.
وقد كان منطلق "ديكارت" في قضاياه الدينية هو العقل فقط، ومن هنا جاء الابتعاد التدريجي عن الدين، وبما أن الإيمان بالله ضرورة لا ينكرها أحد وطريق الكنيسة إلى ذلك الإيمان غير مقنع، فلابد من الاعتماد على العقل. ولكن غاية ما عند التيار العقلاني في الأبواب الدينية إن أصاب هو إثبات الربوبية، أما ما سواها فلا شيء كبير عندهم، وهنا يظهر النقص الكبير الذي وقع فيه الفكر العقلاني تجاه الدين في أوروبا، فقد دافعوا عما يُقرّ به أغلب عقلاء البشر وبما تدين به الفطر السوية، ولكن بقيت أمور العبادة والتوحيد وشرائع الدين معطلة عند هؤلاء، ومما يؤسف له أن هذا أصبح سمة غالبة لمن يسمون عندهم
(1) انظر: المرجع السابق ص 107 - 111، وموسوعة الفلسفة، بدوي 1/ 492 - 493، وانظر: تيارات الفكر الفلسفي. . . .، أندريه كريسون ص 45.
بالمؤمنين من مفكرين وعلماء إذْ هم في الغالب ممن يعتقد بوجود الله ولكنه لا يعترف بالنبوات والشرائع.
هكذا يتفق ديكارت مع بيكون في أهمية العناية بالمنهج، ويختلفان في رسم صورته، واتفق الناس بعدهما بأن لمقترحاتهما في إصلاح المنهج أثرًا كبيرًا في تطور العلوم وتقدمها. وبهذا نكون قد اقتربنا من آخر رموز الثورة العلمية وهو نيوتن، ومما يوصلنا إليه فقرتان نختم بهما الحديث عن ديكارت لهما علاقة بالثورة العلمية وبنيوتن:
الأولى: حول آلية الكون وقد سبق الحديث عنها مع "كبلر" و"جاليليو"، وبها قال "ديكارت" في قوانينه الخاصة بطبيعة الأجسام، وفسرها تفسيرًا ميكانيكيًا آليًا شاملًا؛ لأن الكون محكوم بقوانين لا تتغير، وهو هنا يختلف عن العالمين السابقين بأنهما يقفان عند اكتشاف القوانين. أما ديكارت فيعلل ذلك ويفسّره في ظلّ التصور العقدي الذي اعتقده؛ فهو يرى بأن الله سبحانه هو الذي خلق الوجود أو الكون، وخلقه بقوانين يتحرك بمقتضاها. وبحسب رأيه فإذا كان الله سبحانه ثابتًا وأزليًّا فإن تلك القوانين التي أوجدها لتدبير الكون بمحض إرادته وحريته هي أيضًا ثابتة وأزلية، وهذا لا ينتقص من قدرة الله سبحانه (1). وهو بهذا يتصور حركة للكون لا يمكن تغييرها عن حالها حتى من قبل موجدها، ويظهر من كلامه بأنها لن تتغير أبدًا تبعًا لما يراه في صفة الإرادة والمشيئة الأزلية الثابتة، ويظهر أنه لا يؤمن بأن الله سبحانه يفعل ما يشاء ولا يؤمن بأن أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن فيكون.
وقد انتقد عليه "بسكال" قوله هذا، ورأى بأنه لم يترك لله سبحانه أي دور في العالم (2). فهذه الآلية بهذه الصورة ترفع تدبير الله سبحانه لأمور الكون وإمساكه للسيارات بما يشاء سبحانه، وتقليبه الأمور وتصريفه لها، وتصبح الصورة العقدية الديكارتية قائمة على أنه سبحانه خلق الكون بقوانينه وتركه بعد ذلك. وإن كان يرى بأن الرب سبحانه "له القدرة دائمًا على التدخل في شؤون الكون، للتغيير في مساره، إذا ما أراد، وهو إذا كان لا يتدخل، فلأنه يريد خير
(1) انظر: ديكارت، د. مهدي ص 164.
(2)
انظر: المرجع السابق ص 164.