الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالتعايش المؤقت بين الماديين ومعارضيهم؛ ولذا تجد أحيانًا من يُعرف بأنه فيلسوف مادي على مستوى الفكر والمنهج، ولكنه مؤمن؛ أي: يقرّ فقط بالتأليه السببي؛ لأنه لا يمكن إيجاد مادة وحركة دون علّة أولى تسببت في ذلك، ومع ذلك فإن المادية لن ترضى بمثل هذا المكسب دون أن يتحقق الهدف الأعلى "الإلحاد" وبسند مزعوم من العلم.
2 - ظاهرة الحياة في الأحياء:
رغم نجاح اليسار الهيجلي الخبيث، لاسيّما "فيورباخ"، في دعم الإلحاد والقول بأبدية الطبيعة وأبدية عملها؛ إلا أن من بين المسائل المستعصية التي تقابلهم فوق المسألة السابقة -كيف وجد العالم المادي؟ - المسألة التالية: هي كيف -إذًا- خرجت الحياة من المادة؟ فإذا كانت المادة لها قوانينها التي تتحرك وفقها؛ فإن خروج الحياة منها أمر لم يصدقه أحد، إلى أن جاء أهم دعم للمادية من المجال العلمي ممثلًا في نظرية داروين. ورغم اتفاق الكثير بأن هذه النظرية تحوي في المستوى العلمي كثيرًا من الثغرات؛ إلا أن الجوّ المادي في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر كان مهيأً لقبول أي شيء يدعم المادية، فهو قرن "الطبيعة" كما يقال الذي انتقل فيه المجتمع الغربي من عصر العقل والتنوير في القرن الثاني عشر/ الثامن عشر إلى عصر الطبيعة في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر (1)، ومصطلح "الطبيعة" مصطلح مهذب للمادية القصد منه تخفيف شناعة مصطلح المادية وتيسير قبوله (2). فانتشرت الدارونية بشكل ملفت، وكما وجد الماديون في فيزياء نيوتن مدخلًا للاستغلال الخبيث للقول بمادية الكون ونفي أي تدبير غيبي له؛ فقد وجدوا أيضًا في نظرية داروين الحل الأمثل لمادية الحياة ذاتها، أيضًا دعم داروين المادية بعنصر آخر أخرج المادية من تلك الصورة الثابتة التي رسمها كل الماديين قبل داروين لماديتهم ذات الوجه الواحد الكالح الثابت، فأخذوا من داروين فكرة التطور وجمّلوا بها ماديتهم، لتصبح مادية وفي الوقت نفسه تطورية، وظهرت في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر صور من المادية منها: صورة تقليدية وكان من ممثليها عالم الكيمياء "دالتون"، ومادية تطورية أدخلت مفهوم التطور على المادية، مثل:
(1) انظر: مذاهب فكرية معاصرة، محمَّد قطب ص 524.
(2)
انظر: الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان، المسيري ص 15.
"لامارك" و"سان هيلير" و"داروين" و"هكسلي" و"سبنسر" و"هيكل" وغيرهم (1)، وكان أشهرهم "داروين" ثم من بعده مدرسته "الدارونية الاجتماعية". وقد تحمس لهذه الدارونية المذهب المادي الجديد "الماركسي" وأدخلها كسند علمي لماديته. ومع أن ما أظهره الماديون هو غير الحقيقة؛ لأنهم أظهروا أثر الدارونية في إجابتها عن مصدر الحياة المادي مع إضافة مفهوم التطور عليها، لكن التساؤلات المحيرة عادت من جديد وبشكل أشدّ وأعمق: فإن المتسائلين يقولون للماديين: أنتم لم تحلّوا مشكلة كيف وجدت المادة بقوانينها؟ وإذا كانت القوانين تفسر حركة المادة الجامدة فمن يفسر لنا هذا التطور؟ من المحرك لعمليات التطور المعقدة التي يذكرها مثلًا علماء التطور؟ وكيف خرجت الحياة من مادة ميّتة؟.
عندما وجد الماديون مدخلًا لهم في علم آخر يتعلق بالكائنات الحية، انتقلوا إليه أيضًا من أجل تحويله بما يخدم ماديتهم، لاسيّما واحد أهم أعلامه يميل ميلًا واضحًا للمذهب المادي، ليضعوا أيديهم من البداية على هذا العلم الجديد. ولا يختلف الماديون الماركسيون عن الماديين الوضعيين، وهو أمر يجعل بيان موقف أحدهما يكفي عن عرض الآخر.
نجد في كتاب "فريدريك إنجلس""ديالكتيك الطبيعة" عرضًا موسعًا لهذا الانحراف بالعلم تحت مسمى تطور الطبيعة التاريخي، نعرضه من خلال عرض أتباعه في كتاب:"موجز تاريخ الفلسفة"، لنرى صور هذا الاستغلال الخبيث وأثره في تشويه صورة العلم وتوظيفه فيما ليس من بابه.
عندما ظهر كتاب "داروين""أصل الأنواع"(1859 م)؛ بدأت فكرة التطور تتغلغل في أذهان العلماء والمفكرين، ولكن وبحسب أصحاب كتاب الموجز جاء مفهوم التطور عند العلماء والمفكرين ناقصًا بل مشوّهًا أحيانًا؛ والسبب في ذلك أن التساؤل الذي أسلفناه ما زال يتكرر وُيحلّ بالحلول القديمة نفسها "فأسباب تطور الطبيعة التاريخي ومصدر هذا التطور بقيت، عند اللاهوتيين والفلاسفة المثاليين والمتعاطفين معهم من علماء الطبيعة، قابعة في الظل، أو فسرت بالاستناد إلى "الدفعة الأولى" (2)، وهو ما يطلقون عليه "التأليه السببي". ولكن
(1) انظر: مقدمة في علم الاستغراب، حسن حنفي ص 279.
(2)
موجز تاريخ الفلسفة ص 454.
الماديين سيجدون الحل المزعوم في "المادية الجدلية"(الديالكتيكية)؛ فهي مادية؛ لأنه لا يوجد إلا المادة، ولكن حركتها جدلية، مما يفسر عمليات التطور بخلاف التفسير المادي القديم القائل بحركة سرمدية واحدية.
وبالادعاءات نفسها سيعالجون قضية خروج الحياة من المادة والتطور اللاحق بها من حياة محدودة في خلية إلى أن بلغت ذروتها في صورتها المعقدة في الإنسان، فيقولون عن إنجلز: بعد ظهور نظرية التطور ثابر المثاليون واللاهوتيون "على التأكيد بأن الكائنات الحية مخلوقة كلها للإله، الذي نفخ "قوة الحياة" في المادة العاطلة، الخاملة"(1)، وتدعمت آراء المثاليين واللاهوتيين بتجارب "باستور" التي دحضت مزاعم الماديين، فاستخدمها المثاليون كما يقول "إنجلز" في صراعهم ضد فكرة التولد الذاتي الكيميائي للحياة، حتى إن بعض الماديين حرصًا منه على سلامة المادية قال بفكرة أن الحياة أُدخلت على كوكبنا من الفضاء الكوني، أما "إنجلز" فكان يرى بأن حلّها هو في المادة ذاتها وسنكشف يومًا ما عن طريق علم الكيمياء لغز الحياة، وأنها انبثقت من المادة دون الحاجة لتدخل خارجي، وقوانين الجدل المادية تغنينا بزعمه عن التأليه السببي والقول بالدفعة الأولى الإلهية وغيرها (2).
ولم يكتف "إنجلز" بهذا، بل قام -وكأنه عالم منغمس في مختبراته وبحوثه- بعرض آخر لنظرية التطور الدارونية حول ظهور الإنسان لكي تتوافق مع "المادية الماركسية" تحت عنوان:"دور العمل في تحول القرد إلى إنسان"(3)، ساردًا خطًا جديدًا من الخلية إلى الإنسان، وبصورة سخيفة ودعائية يقول أصحاب "الموجز" عن هذه المقالة بأنها:"من أهم إسهامات إنجلس في بناء صرح النظرية الديالكتيكية عن تطور الطبيعة"(4)، فيتحول "إنجلز" من مؤسس لمذهب فكري إلى أحد العلماء الكبار، وإن لم يدخل معاملهم ومختبراتهم ولم يمارس بحوثهم واستقراءاتهم ويعمل تجاربهم.
(1) انظر: تاريخ الفلسفة ص 455.
(2)
انظر: المرجع السابق ص 455 - 457.
(3)
انظر: ديالكتيك الطبيعة، فريدريك إنجلس ص 163، ترجمة توفيق سلوم.
(4)
موجز تاريخ الفلسفة ص 458.