الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدين" في أرض ضعيفة التدين منحرفة الدين نجح هذا التيار في زعزعة قيمة الدين ومكانته، ويعود نجاحه إلى انحراف أهل الدين لا إلى قوة التيار المادي واللاديني، وها نحن نشاهد اليوم -وبعد أكثر من قرن- كيف ينهار أهم مذهب قام من مجموعة اليسار الهيجلي هو المذهب الماركسي، بينما الدين سيبقى قائمًا وتحتاجه النفوس مهما فُعِل لإزالته.
ج- الوضعية:
يأتي الاتجاه الوضعي مقابلًا للاتجاه الفكري السابق -الذي يُرسي دعائم الإلحاد أو المادية أو اللادينية، ويستغلّ ثمار العلم وإن كان أغلب رواده ليسوا من أهل العلوم- ويريد وضع دين العلم الجديد تحت مصطلح "الوضعية" أو "فلسفة الوضعية".
فها هي الثورة الفرنسية العلمانية تعصف بالنظام القديم القائم على بقايا الدين والإقطاع والميتافيزيقا، وقد حان الأوان بحسب رأي العلمانيين لوضع نظام جديد قوامه العلم وفلسفة علمية وضعية تكون بمثابة الدين الجديد مكان الدين المحطم.
ومصطلح الوضعية مصطلح واسع يجمع بداخله تيارات فلسفية كثيرة يغلب عليها الجانب المادي والحسي والتجريبي الممتد في الوراء إلى "هيوم" و"لوك" و"بيكون" وغيرهم (1)، ولكنه ارتبط بالفيلسوف الفرنسي المشهور كومت وعرف به أكثر من غيره، وذلك بسبب تبنّيه للمصطلح ودعوته لإقامة "فلسفة وضعية" عمدتها العلم الجديد والحس والتجربة، والانتهاء عن العودة للميتافيزيقا أو الدين، فقد أعلن "أوغست كومت":"أن القرن التاسع عشر قد شهد ولادة العصر الوضعي الذي أخذ يحل محل عصور اللاهوت والميتافيزيقا. وهكذا أصبح العلم المادي هو الإله الجديد، وأصبحت الأهداف العلمية فقط هي الأهداف الدنيوية. ولذلك ينبغي إبعاد المطلق وكذلك الله إلى مملكة الأساطير والخرافة"(2)، وقد رسم "كومت" مسارًا حتميًا لحركة التاريخ عبر ما أسماه قانون الحالات الثلاث: حيث كانت البداية بعصر اللاهوت، ثم جاء بعده عصر الميتافيزيقا، ومع الثورة العلمية
(1) انظر: مقدمة في علم الاستغراب، حنفي ص 279.
(2)
تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، رونالد ص 372.
وما تبعها من تطور العلوم يأتي عصر الوضعية. ويُعدّ الانتقال من عصر لآخر انتقالًا حتميًا، ولا يمكن الرجوع للعصر السابق، وبهذا فإن الدين لا مكان له في عصر الوضعية؛ لأنه عصر العلم.
هناك من بيّن فيما بعد سذاجة هذا القانون، فإن المرحلة التي وصفها بأنها لاهوتية قد عرفت علومًا دقيقة متطورة، والمرحلة الوضعية التي يعيشها عرفت طقوسًا دينية بدائية أو شبه بدائية من وثنية وغيرها حتى ضمن الهلوسات الأيديولوجية الغربية، وكذا مع تطور علم الأنثربولوجيا ظهرت معارف جديدة تبطل قانونه. وليس المقام موطن ذكر فلسفته وما اعترض عليه، وإنما المقصود بأن "كومت" أراد أن يجعل من نفسه نبي العلم وفيلسوفه، وكأنه بدينه الذي أطلق عليه الوضعية سينسخ الأديان السابقة، وقد وصل الأمر معه ومع أتباعه إلى "إقامة ما يشبه كنيسة ترتكز على عقيدة رسمية تؤمن بالتقدم والعلوم الطبيعية والإنسانية. وإنكار رسمي وحاد للرب المسيحي. وكان كونت ذاته هو المبشر الأعظم بهذه العقيدة الوضعية، بما لها من كنائس منظمة، والتي انتشرت وساد فكرها بين جماعات أخرى متباينة. . . ."(1).
وهكذا تجتمع كبرى تيارات الفكر في القرن (13 هـ - 19 م) في دفع المجتمع نحو اللادين، وطبعت المجتمع بطابع الوضعية لاسيّما مع انتشار كنائس كومت "أو الكنائس الكومتية" في الغرب، مما جعل أحد المؤرخين المشهورين للفكر الغربي يتساءل ويقول:"فنحن لا شك نتفق مع كومت على أن المدنية الغربية هي مدنية "وضعية". وهنا يبادرنا السؤالان التاليان: هل يمكن أن تكون لنا مدنية لا تؤمن بالله ولا بالميتافيزيقا، بل تؤمن بالعلم والتكنولوجيا اللذين يفيان بحاجاتنا أحسن إيفاء، ولكنهما لا يوفران لنا أية قيمة أو فعل، ما عدا أنهما يسدان المزيد والمزيد من احتياجاتنا؟ وهل محكوم على المجتمع الحديث أن يكون مجتمعًا انقساميًا لا وحدة له ولا روح ولا قيم؟ "(2)، وقد كان
(1) تشكيل العقل الحديث، راندل ص 298 - 299. وانظر: رونالد، السابق ص 401، ومقدمة في علم الاستغراب ص 290، وقصة الفلسفة، ديورانت ص 455، وتاريخ الفلسفة الحديثة، كرم ص 327، وانظر: تيارات الفكر الفلسفي. . . .، أندريه كريسون ص 319، وص 371.
(2)
تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، رونالد ص 402، وانظر: ص 404.