الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رابعًا: التيارات الفكرية الوافدة وتنظيماتها كالماسونية والسيمونية
عرفنا أن القرن الثالث عشر/ التاسع عشر كان فترة الاهتمام بطلب العلوم العصرية، والأمر الذي يحلله البحث أن تلك المرحلة نشأت فيها مجموعة من المشاكل حول العلاقة بالعلم الحديث العصري ونحن نريد تجاوزها -لاستمرارها إلى اليوم، ولاسيّما من قبل التيار التغريبي- وعلى هذا، فمن المهم النظر في تيارات تلك المرحلة التي أسهمت بصناعة تلك المشكلات، ولاسيّما الماسونية والسيمونية.
[1] الدور الماسوني:
بالعودة إلى تلك المرحلة نجد أن أبرز التنظيمات الفكرية الناشطة هي "الماسونية" وربما تشبه في نشاطها ما فعلته التيارات المعاصرة في القرن الرابع عشر/ العشرين مثل الماركسية -التي انتشرت أحزابها ومؤسساتها وربما حكوماتها، وانتشر مفكروها وصحفها وأدبها وإعلامها بشكل يناسب الإمكانيات المتاحة في القرن (14/ 20)، وهكذا كانت الماسونية في تلك المرحلة تشبه إلى حد ما دور الماركسية في مرحلتنا المعاصرة وربما بصورة أخطر، إذ كانت المهمات المحددة في تلك المرحلة هي التخلص من الدولة العثمانية وتأسيس مجتمعات جديدة تتقبل السيطرة الغربية بكل تياراتها وسياساتها وأطماعها، تختلف في التفاصيل والآليات، ولكنها ترجع في النهاية إلى هذين الإطارين، وقد أسهمت الماسونية آنذاك بالشيء الكبير لدرجة افتخارهم بإسقاط الدولة
العثمانية، ففي احتفال للماسون قال أحد المتحدثين:"انظروا إلى إخوانكم الماسونيين في "سالونيك" الذين قاموا بالحركة الدستورية التي قلبت نظام الحكم العثماني في آخر عهد السلطان عبد الحميد، دون أن تسيل قطرة دم واحدة. أجل فبمثل هذا الشعب الماسوني تفخر الماسونية ويعظم شأن وسائلها السلمية السليمة"(1)، فتم التخلص من الدولة العثمانية وإن كان الأمر ليس للماسون وحدهم ولكنهم في ظلّ ظروف عصيبة بالأمة لعبوا لعبتهم الخطيرة وقطفوا الثمرة، ومن تمام الخبث كلفوا أحد اليهود الماسونيين (2) بإبلاع السلطان عبد الحميد خبر عزله ونقله إلى الإقامة الجبرية في سالونيك مقرَّ اليهود والماسون المهم آنذاك.
ولا يهمنا من الحدث السياسي الخطير -السالف الذكر- إلا بما يدل على اتساع دائرة الماسون وقوة أمرهم في مرحلة الإصلاح والتحديث والنهضة الحديثة، ومن ثم إسهام القوم في تلويث مسيرتها بما يخدم مصالحهم وأهواءهم، ولاسيّما على المستوى الفكري ومن ذلك طلب العلوم العصرية وما صاحب ذلك من مشكلات، فلننظر إلى طبيعة تلك المشكلات.
تعدّ الماسونية ذات نشأة غامضة، حتى في ظهورها الحديث داخل أوروبا، إلا أنها في أوروبا قد أظهرت دعاوى جذبت الناس إليها، ولاسيّما النخب بشتى تخصصاتهم، ومن تلك الدعاوى محاربة الظلم والاستبداد السياسي والديني والدفاع عن الحرية والعدل، ولكن تحت هذا الغطاء كانت تختفي عقائد سرية لا يعرفها إلا القليل، وتنسب إلى زندقات باطنية قديمة وحديثة ذات صلة باليهودية (3).
ولكن مع انتساب النخب المثقفة والتجارية والسياسية إليها جعلها ذات قوة
(1) الأفعى اليهودية في معاقل الإِسلام، د. عبد الله التل ص 79 عن المؤامرة الكبرى ص 74 - 75.
(2)
انظر: الأفعى اليهودية في معاقل الإِسلام ص 75 - 76، وانظر: مقدمة مذكرات السلطان عبد الحميد، د. محمَّد حرب ص 21 - 22 وكلام السلطان ص 209 - 215، وانظر: الدور السياسي ليهود الدونمة في تركيا، د. أحمد النعيمي ص 121، وانظر: حقيقة يهود الدونمة في تركيا، د. هدى درويش ص 34.
(3)
انظر: خطر اليهود العالمية. . . .، عبد الله التل ص 143 - 152، وانظر: الماسونية ذلك العالم المجهول، د. صابر طعيمة ص 143، وانظر: تاريخ الفكر المصري الحديث (عصر إسماعيل)، د. لويس عوض ص 289 - 290.
خطيرة داخل المجتمعات الغربية، وقد بدأ عصرها الذهبي الحديث من إنجلترا (1)، ثم تُصدر من هناك إلى جرمانيا وفرنسا، وشارك فيها رموز فكرية مثل "بيكون"(2) فيلسوف التجريب وداعية المنهج التجريبي في أوروبا الحديثة، وكذا "فولتير"(3) أحد أهم شخصيات الفكر الفرنسي والأوروبي في عصر التنوير، كما أن أخطر ثورة أوروبية قدمت النموذج العلماني، وهي الثورة الفرنسية كان لهم نفوذ كبير فيها لدرجة أن هناك من ينسب لها الثورة.
من المهم هنا أن نذكر أن المحافل الماسونية بعد تحولها إلى الدولة الماسونية الرمزية ضمت إليها العلماء المشاهير، ولاسيّما مع نقمتهم على الأنظمة الموروثة: الدينية والاجتماعية والسياسية، فقد كان المؤسس الحديث للماسونية "ديزاغليه"(4) من مشاهير الفلاسفة الطبيعيين، وعضوًا في المجمع العلمي الملكي الإنكليزي، وهو أعلى هيئة علمية تجمع العلماء آنذاك. وبرزت بعد ذلك كتيار محب للعلم بعد تمسحها بالعلم والعلوم الجديدة، وكمنبر من منابر التبشير بالعلم الحديث لدرجة أن هناك من يقول عنها:"وظاهر الحال -والحديث هنا عن الظاهر- يدل على أن الماسونية أصلًا كانت ثورة فكرية نشأت للتوفيق بين العلم والدين منذ أن زلزل كوبرنيك وجاليليو وبيكون عالم العلم والدين جميعًا؛ أي: كانت أصلًا ثورة المثقفين المطحونين الرافضين للكثلكة ولحركات الإصلاح الديني والبروتستانتية معًا، فهي تمثل محاولة العقل البشري أن يجد طريقًا ثالثًا بين غيبيات الدين وعقلانية العلم العاجز عن تقديم الحلول لأهم القضايا التي يطرحها الإيمان الغيبي. فهي نوع من الديانة الشخصية لغير القادرين على التحرر من الأديان، أو لعلها نوع من الفيثاغورية الجديدة. ففي الفيثاغورية اختلطت قوانين الرياضيات بالحكمة الدينية"(5).
(1) انظر: المرجع السابق، التل ص 143 وما بعدها، وانظر: تاريخ الماسونية، جرجي زيدان ص 116.
(2)
انظر: تاريخ الفكر المصري الحديث. .، د. لويس عوض ص 290 - 291.
(3)
انظر: تاريخ الماسونية، جرجي زيدان ص 104، وحول الثورة الفرنسية، انظر: الفصلين الأول والثاني من هذا البحث.
(4)
انظر: المرجع السابق ص 70.
(5)
انظر: الفكر المصري الحديث. . . . ص 291.
يبين النص السابق كيف تُسوّق الماسونية نفسها داخل المجتمع الأوروبي ثم الأماكن التي تنتشر فيها؛ لأن حقيقة الماسونية أنها لم تحاول التوفيق المزعوم بقدر ما استثمرت العلم في التخلص من الدين، ولاسيّما أنه ظهر التفكير في صناعة أديان جديدة داخل أوروبا بعد الأحداث الدامية بين الكنيسة والمجتمع، وعندما كان العلم الحديث هو الأبرز حضورًا آنذاك والأكثر نجاحًا تسلقه أصحاب التوجهات الخفية والعلنية، وزعموا تقديم أديان جديدة، كما نجده مع "الماسونية" ونجده عند "الوضعية الكونتية"(1) وغيرها. وقد كانت ضمن ما يُسمّى بالدين الربوبي الذي ظهر في القرن الثاني عشر/ الثامن عشر مع دعاة التنوير، الداعي إلى الإيمان بالرب على أنه وجود مطلق غامض هو سر وجود العالم مع الكفر بالنبوات والأديان وما يتعلق بها من إثبات الغيب واليوم الآخر (2).
وقد اتخذتها الماسونية وغيرها مطية مناسبة لإنكار الأديان -هذا إذا استثنينا علاقتها بالدين اليهودي لكون غالبية أهلها من اليهود- فهي فيما يظهر تيار ملحد لا يعترف حتى باليهودية وإن خدمت اليهود، وقد كان الشيء الوحيد الذي يقرّون به هو "مهندس الكون العظيم"(3)، ويزعمون أن مقصودهم بالمهندس؛ أي: الرب، وشبهوه بالمهندس لإعجابهم بالهندسة وربما لذلك صلة قديمة بالفيثاغوريين الرياضيين. ولكن حتى هذا الاعتقاد لم يعد مسلمًا به حيث بدأت محافل مشهورة ترى عدم اشتراط إيمان العضو به، ثم إن تلك المحافل تشددت وطلبت منع الإيمان به، ليظهر أن غايتها هو الإلحاد (4)، وقد وقفت منها الكنسية الكاثوليكية موقفًا شديدًا وبسبب قربها منهم فقد كشفت الكثير عنهم (5).
والذي يعنينا أن هذا التنظيم السري كان له أثر خطير من القرن السابع عشر
(1) انظر: حول الوضعية الفصل الأول ص 205، 209 والثاني ص 389 من هذا الباب.
(2)
انظر مثلًا: تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، سترومبرج ص 117 وما بعدها ترجمة د. أحمد الشيباني، وانظر: الماسونية ذلك العالم المجهول، د. صابر طعيمه ص 312.
(3)
انظر: العلمانية من منظور مختلف، د. نذير العظمة ص 96 - 97، وانظر: تاريخ الماسونية، جرجي زيدان ص 127.
(4)
انظر: المعطيات السابقة نفسها.
(5)
انظر: العلمانية من منظور مختلف ص 97، وانظر: الماسونية ذلك العالم المجهول ص 308 وما بعدها، وانظر: تاريخ الفكر المصري الحديث (عصر إسماعيل) ص 290.
إلى التاسع عشر داخل أوروبا (11 - 13 هـ)، وأنه أقرب إلى الإلحاد مع صلة يهودية واضحة، وأنه يتمسح بدعوات ثقافية واجتماعية على رأسها العلم والعقل والحرية والمساواة والإخاء وهذا للتسويق، ولكن المشكلة هي انتساب بعض العلماء والمفكرين الأوروبيين المشاهير إليها، مما جعلها أكثر جاذبية للمتغربين من العالم الإِسلامي، وسوقت نفسها داخل العالم الإِسلامي بمثل تلك الشعارات وكانت في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر من أبرز اللاعبين داخل العالم الإسلامي.
فبهذه الخلفية العجيبة وبهذه التركة الثقيلة الخبيثة وبهذا الدعم الواسع دخلت إلى العالم الإِسلامي، وكان أول دخول لها سجلته لنا الوثائق التاريخية بوضوح مع الحملة الفرنسية. افتتح "كليبر" أحد قواد الحملة الفرنسية على مصر المحفل الماسوني الأول فيها، حيث كان هناك مجموعة منهم ضمن الجيش (1)، فالجيش هو ابن الثورة الفرنسية التي دخلها الماسون بقوة، ولكن أمر المحفل اختفى بعد خروج الحملة، ومع اختفائه إلا أن بعض أعضائه فيما يظهر اشتغلوا في الخفاء حتى جاء ذاك التسامح الخطير من قبل محمَّد علي وأبنائه من بعده، ولاسيّما في عهد إسماعيل فظهرت محافلهم ونشاطها (2)، أما الدولة العثمانية فقد كانت سالونيك تعج بطائفة يهودية كبيرة وكانت الماسونية تعشش هناك بكل سهولة (3)، وكذا الحال في بلاد الشام، ولاسيّما داخل الطائفة النصرانية،
(1) انظر: تاريخ الماسونية ص 145.
(2)
انظر: تاريخ الفكر المصري الحديث. . . .، ص 286 ويقول الماسوني المشهور "جرجي زيدان" في كتابه: تاريخ الماسونية "الحمد لله أن الماسونية ما انفكت منذ نشأتها متمتعة بحماية ولاة النعم، حيث أقامت وما ذلك إلا لثقته بصحة مبادئها ولعلمهم بإخلاصها للأمة والوطن والدولة وعلى الخصوص الماسونية الرمزية. . . ."، إلى أن قال:"ومن الرجال العظام الذين شرفوا هذه العشيرة بحمايتهم ورعوه بعين عنايتهم سمو الخديوي السابق إسماعيل باشا الأفخم"، ثم تحدث عن مثول أستاذهم الأعظم بين يدي الخديوي وتقديمه واجب العبودية، ثم قال:"فتعهد الأستاذ الأعظم بالشرف أن الماسونية لا تسير إلا كما اشترط سموه. وعلى ذلك تم التعاضد بين الحكومة المدنية والدولة الماسونية وأصبحت القوتان يدًا واحدة في ترقية شأن الأمة ورفع منار الفضيلة" ص 151، هكذا الحديث عن دولتين، دولة داخل دولة، وانظر حول محافلهم في مصر الكتاب نفسه ص 143 - 164.
(3)
انظر مثلًا: تاريخ الماسونية، جرجي زيدان، وهو ماسوني مشهور ص 139 - 143.
فتأسس أول محفل في بيروت سنة (1862 م)(1). وهكذا أصبحت المحافل الماسونية ظاهرة من ظواهر تلك المرحلة، لدرجة أن مجموعة من المشاهير وبعض الفضلاء وبعض المنتمين للعلم الشرعي انخرطوا فيها، وربما يعود السبب في ذلك إلى شهرة المحافل ونجاحها في بث دعايتها بين النخب من جهة، وإلى دور خطير لعبه جمال الدين الأفغاني في ذلك حيث دفع أصحابه إلى الاشتراك فيها أو محاولتهم تأسيس محفل خاص بهم على شاكلتها، ولا شك أن ذلك شكّل وصمة عار فيما بعد للتيار العصراني الذي قاده الأفغاني ومحمد عبده وطاهر الجزائري والأمير عبد القادر الجزائري (2) وغيرهم، ولاسيّما بعد أن تكشّفت حقيقة تلك المحافل، ووصل الأمر إلى أن بعض الرموز السياسية الكبيرة دخلت ضمن هذه المحافل، كأحد السلاطين العثمانيين (3) وبعض الأمراء من أسرة محمَّد علي (4)، ودخلها شخصيات مشهورة من جميع أطياف المجتمع، ولاسيّما جيل النخبة منهم، وذاك يكفي لجعلها قادرة على قيادة المجتمع ما دام أن قادته السياسيين والاجتماعيين داخل إطار المحافل الماسونية.
وإذا كان التنظيم الماسوني أو دولة الماسون (5) بهذه الشهرة، وبهذه القدرة
(1) انظر: المرجع السابق ص 135، وذلك بعد أحداث (1860 م) التي فتحت المجال لوجود أوروبي مكثف.
(2)
إن مشاركة هذه القلة الإِسلامية تحتاج إلى دراسة خاصة لا يتسع لها المقام، وإذا كنت أرى الآن بعين عصري خطأهم الفادح، فإن الحال ذاك الوقت لم يكن يساعدهم على الوعي بكل أبعاد تلك التيارات ولاسيّما مع التسامح السياسي معها، وضغط جمال الدين الأفغاني على أتباعه بالمشاركة فيها.
(3)
وصلت "الماسونية" إلى السلطة زمن السلطان "عبد الحميد" عبر وزيره "رشيد باشا" المتأثر بها، ثم مع السلطان "مراد" الذي لم يطل حكمه وكان عضوًا في الماسونية، انظر حول "رشيد": مقدمة د. محمَّد حرب لمذكرات السلطان عبد الحميد ص 17، وحول "مراد". انظر: المذكرات ص 62 ص 115.
(4)
كالأمير "توفيق" والأمير "حليم"، فلكل واحد منهما مشاركة في محفل، انظر: تاريخ الفكر المصري الحديث. . . . (عصر إسماعيل)، د. لويس عوض ص 292.
(5)
يقول الماسوني "جرجي زيدان" عن الاتفاق بين رئيسهم ووالي مصر: (وعلى ذلك تم التعاضد بين الحكومة المدنية والدولة الماسونية، وأصبحت القوتان يدًا واحدة في ترقية شأن الأمة ورفع منار الفضيلة) ص 151، وانظر: ص 150 - 154 عن (الدولة الماسونية المصرية) وغيرها. وفي تقرير عرضته مجلة "المقتطف" ذات صلة بالماسونية سنة =
على اجتذاب البارزين والمشاهير وقيادات المجتمع في تلك الفترة -فترة التحديث والنهضة وفترة الاهتمام بالعلوم العصرية- فإنه يأتي وقت البحث عن أثرها في الفكر الحديث عمومًا وطلب العلوم العصرية خصوصًا؛ إذ في الغالب ما يرتبط التأثير بالشهرة.
لا نستغرب من سرعة انتشارها وتوسعها وجذبها لشخصيات مهمة في ظل دعم قوي مالي وسياسي وتنظيم محكم مع ضعف داخل الأمة الإِسلامية، ولكن لماذا تتحرك داخل العالم الإِسلامي؟ يأتي تحركها في ظل الرغبة الغربية بكل خلفياتها "اليهودية والنصرانية والعلمانية" للتوسع ولاسيّما داخل منطقة "الرجل المريض" ذات الأهمية الكبيرة بالنسبة لهم، فأوجدت هذا الإطار داخل العالم الإِسلامي ليكون أداة مناسبة، وفي ذلك يتساءل "لويس عوض":
هل كان أثرها في مصر مثل أثرها في أوروبا عندما آزرت مثلًا حركات التحرير؟ ثم ذكر أنها ربما كانت ملاذًا للهاربين من أوروبا، ولكن ذلك "لا يفسر "تسابق" المحافل الأوروبية في إنشاء فروع لها في مصر، كتسابق الجاليات والدول الأوروبية في إنشاء المدارس الأجنبية أو الصحف الأجنبية في مصر، بل تسابقها في توجيه التعليم المصري أو السيطرة على الآثار المصرية. وهذا التسابق لا يكون إلا حيث تكون الرغبة في تجنيد المثقفين وتعبئة الرأي العام. وهذا هو الوجه الثقافي للسيطرة الاقتصادية والسياسية"(1)، وفي موضع سابق يقول:"فمن الثابت أن هذه المحافل الماسونية المتعددة، لم تكن إلا جمعيات سرية أنشأتها الدول الأوروبية في مصر في تسابقها الاستعماري لتجنيد المثقفين المصريين وأصحاب النفوذ في مصر"(2).
= (1883 م) عن الماسونية: أن عدد نواديها في العالم (138065)، وعدد أعضائها (17159643)، وفي أفريقيا مع مصر عددهم (82320)، وأن نفقات سنة (1880 م) ما يقرب من أربعة مليار ونصف فرنك، وتُعقِّب المجلة:(فعلى هذا النحو يكون برنامج الماسونية أعظم من جمهورية فرنسا الذي هو أعظم ما في الدنيا)، انظر: المقتطف، المجلد الثامن/ 755 سنة (1883 م).
(1)
تاريخ الفكر المصري الحديث (عصر إسماعيل) ص 291 - 292.
(2)
تاريخ الفكر المصري الحديث ص 19، وانظر: فتوى الشيخ "محمَّد رشيد رضا" التي بين حقيقة دورها هذا في مجلة المنار جـ 14/ 178 سنة (1329 هـ -1911 م)، وانظر: 15/ 32 سنة (1330 هـ - 1912 م)، وانظر: 29/ 268 سنة (1347 هـ - 1928 م).
فهناك أعداد يمكن توظيفهم لتنفيذ الأهداف الأوروبية "اليهودية النصرانية العلمانية" ولكن ما الإطار الأنسب الذي يوحد حركتهم ويوظفها لصالح المشروع الغربي؟ كان أنسب الأطر "المحافل الماسونية" بحيث تتخذ من الجانب الاجتماعي والثقافي مدخلًا لجمع هؤلاء القابلين للتوظيف في الإطاحة بالأمة، فهي كما يقول الشيخ محمَّد رشيد رضا مؤسسة من قبل اليهود والنصارى وقيادتها لليهود ودخلت إلى العالم الإِسلامي تحت مسميات اجتماعية وأدبية وغايتها في النهاية دينية "ضد الإِسلام" وسياسية "ضد الخلافة"(1)، وسنجد أن العلمانيين العرب يفرحون بهذا الإطار؛ لأنه وحّد بينهم وبين اليهود والنصارى في التخلص من الواقع الإِسلامي القائم (2).
دور المحافل الماسونية:
نلحظ أن تلك المحافل ركزت عنايتها بالجانب الثقافي ليقوم غيرها بالجوانب الأخرى، وبحسب كلام لويس السابق، فقد اهتمت بما يأتي:
1 -
إنشاء المدارس.
2 -
الصحف، ونعلم أن المشهور منها كانت لأناس ضمن المحافل مثل الهلال والمقتطف وغيرها.
3 -
الاهتمام بتوجيه التعليم في مصر.
4 -
الاهتمام بالآثار المصرية، وقد بدأ ذلك من حملة نابليون حيث كان من ضمن علماء الحملة من تفرغ للآثار، لا لأهداف علمية وإنما لأهداف سياسية وثقافية.
سأكتفي هنا بالوقوف مع الجانب العلمي لبحث بعض مشاركتهم الخطيرة في توجيهه والتأثير عليه لكونه الأهم في البحث، مع الاكتفاء بنموذج بارز في تلك المرحلة، في النقاط التالية:
1 -
مشاركة أعضاء المحافل في المدارس المهتمة بالعلوم الحديثة:
كانت مدرسة "المهندسخانة" أهم المعاهد التي يتعرف فيها الطلاب على
(1) انظر: فتواه السابقة في المرجع السابق، مجلة المنار.
(2)
مثل: نذير العظمة، انظر: العلمانية من منظور مختلف ص 54 - 95.
العلوم العصرية "الرياضية والطبيعية" بطلابها في الهندسة والحقوق والإدارة والعلوم العسكرية (1)، وفي أثناء تولي إسماعيل لحكم مصر سنة (1863 م) عُين أحد اليهود الماسونيين "يعقوب صنوع" مدرسًا للغات فيها، وبقي ست سنوات (2).
و"يعقوب صنوع" من الطائفة اليهودية في مصر، والكثير منهم كان يتمتع بالحماية الأجنبية، وكان والده مقربا من الأمير "أحمد يكن"، أعجب هذا الأمير بيعقوب، وابتعثه على حسابه إلى إيطاليا وعمره ثلاث عشرة سنة ليتعلم الفنون والآداب، فوصل الفتى إيطاليا وقت ازدهار الماسونية فيها مع "إيطاليا الفتاة -ماتزيني" فتأثر بها (3).
دخل على طلابه في إحدى أهم المدارس آنذاك بهذه الخلفية، ثم أسس محفلًا ماسونيًا (التقدم)، فأُبعد عن المدرسة، ثم أُغلق (محفل التقدم) ليؤسس محفلًا آخر تحت اسم "جمعية محبي العلم"، ونلاحظ هنا التمسح بمسألة "العلم"، وغايتها كما يقول:"نشر الثقافة العصرية والوعي الاجتماعي والسياسي بين الشباب المتعلم، دون تمييز بسبب الدين أو الجنس أو اللغة"؛ فالفئة المستهدفة هي الفئة المتعلمة، وكان أكثر الفئات إقبالًا على المحفلين "الطلاب والضباط"، وكان المحفل يعقد أربعة اجتماعات أسبوعيًا، يدار على صورة محاضرات غالبًا ما يلقيها صنوع، وكانت موضوعاتها حول التاريخ والسياسة والأدب والتعليم وثقافة العصر، وكما يقول "صنوع":"وكنا باستمرار نروج لنظريات المفكرين الأحرار الغربيين"، مع التركيز على تاريخ فرنسا وإيطاليا، ولاسيّما فترة الثورة الفرنسية وفترة إيطاليا الفتاة مع ماتزيني، وهي مراحل ينشط فيها الماسون في الغرب (4).
(1) انظر: تاريخ الفكر المصري الحديث (عصر إسماعيل) ص 274.
(2)
انظر: المرجع السابق.
(3)
انظر: المرجع السابق ص 272 - 273 والغريب كيف يهتم هؤلاء بأبناء أعدائهم ويتركون الاعتناء بأبناء المسلمين.
(4)
انظر: تاريخ الفكر المصري الحديث (عصر إسماعيل) ص 285 - 286، وقد أسس أيضًا مسرحًا، حَضَر بعض مسرحياته الوالي نفسه، وقد ترك ما يقرب من ثلاثين مسرحية، انظر: المرجع نفسه ص 276.
قد يقال: إن إهمال المسلمين تعلم العلوم الحديثة مبكرًا فتح الباب للماسونيين باختراق التعليم ومدارسه وطلابه، ومن ثم استغلال العلم الحديث من قبل أولئك للدخول على الأمة، وهو قول صحيح في الجملة، فإن الضعف الذي عرفته الأمة في عصورها المتأخرة وتولية الولاة لغير المسلمين وتقديمهم على المسلمين في التعليم والإدارة وغيرها مكّن الأعداء من تعليمنا ومدارسنا ومن ثم توجيهها إلى ما يريدون، وحتى إذا انتبه المسلمون لحقيقة دور الأعداء، فإنه يأتي بعد أن ترسّب في التعليم ما نحتاج إلى زمن حتى نُزيله.
2 -
نشاط الماسونيين في "علمنة التعليم" وفي إقصاء العلوم الإسلامية عن الصدارة في المجتمع:
ألمحت الفقرة السابقة عن عناية المحافل الماسونية بشأن التعليم، وهو تعليم من نوع خاص، ذاك التعليم العلماني، الذي يُطرد منه كل ما له صلة بالدين، سواء كان داخل العلوم البشرية أو حتى تدريس مواد دينية مع المواد الأخرى. جاءت البداية بالدعوة لفتح مدارس علمانية لا دينية لكي يدخلها كل الناس، ثم توسع الأمر إلى علمنة المؤسسة التعليمية وتقديم العلوم البشرية وتأخير العلوم الإِسلامية بحجة أنها دينية، ثم علمنة العلم ذاته بالدعوة إلى جعل العلم خاليًا من كل تصور ديني.
يبتدئ العصر الحديث للدولة الماسونية من إنكلترا سنة (1717 م)، وسميت منذ تلك المرحلة "الماسونية الرمزية" وانتقل عملها كما يقولون إلى بناء "الفضيلة والعلم" حيث كان إعلان انطلاقتهم الحديثة بقيادة "ديزاغليه"، أحدِ علماءِ الطبيعة وعضو في المجمع العلمي الملكي الإنكليزي (1)، وربما بعد النجاحات الكبيرة العلمية التي قادها مجموعة من العلماء توجهت الماسونية إلى تلك العلوم لتتخذها مطية تحقق من خلالها أهدافها.
يقول "هانز" في كتابه عن التعليم المقارن: "منذ إنشاء المحفل الماسوني الأعظم في بريطانيا سنة (1717 م)، كشفت الماسونية تعاونها مع الجمعيات السرية الأخرى من أجل محاربة التعليم الديني. وأسهمت الماسونية في تأسيس مدارس ثانوية على أسس علمانية، تهدف إلى القضاء على نفوذ الكنيسة على
(1) قد سبق، انظر: تاريخ الماسونية ص 69 - 70.
التعليم، وسرت تعاليم محافل الماسون البريطانية إلى جميع المحافل في أوروبا من أجل تشجيع التعليم العلماني. وكانت الخطة تعتمد على إنشاء معاهد خاصة في بادئ الأمر إلى أن تتمكن الحكومات من فرض العلمانية على مدارسها الرسمية" (1)، ثم ذكر أول مدرسة فتحت على أسس علمانية مع مؤسسها الماسوني، والصراع الذي قام على أثرها بين الكنيسة وأصحاب المدرسة، ثم انتقلت العدوى إلى فرنسا، حيث قام بعض أتباع الماسونية بمهاجمة سلطة الكنيسة على التعليم وطلبوا بتعليم علماني، ثم انتشر الأمر في بقية البلدان الأوروبية، ثم وصل ذلك إلى المحافل في أمريكا (2).
وفي سنة (1870 م)؛ أي: بعد ما يقرب من قرن ونصف من تأسيس محفل بريطانيا، تمّ تأسيس محفل مهم في باريس ليتولى توجيه محافل العالم، وينتقل ثقل المحافل إلى فرنسا، "وكان هدفه الأول فصل الدين عن التعليم ونشر العلمانية. وتبادل حكام أوروبا وأمريكا وقادة القارتين النصح والتوجيه من أجل تحقيق أهداف الماسونية في خلق أنظمة التعليم الحديثة العلمانية"(3).
وإذا كان عملهم داخل أوروبا وأمريكا يحقق لهم نفوذ اليهود والملحدين واللادينيين إلى المؤسسة العلمية لكونهم المقصَين عنها في تلك المرحلة، واستغلوا أخطاء الكنيسة مع العلماء الجدد لإقصاء الدين عن التعليم، فإنه أيضًا يحقق لهم المقاصد نفسها داخل العالم الإِسلامي ولكن بطريقة أخرى؛ لأن العالم الإِسلامي لم يعرف مشكلة كتلك التي وقعت بين الكنيسة والعلماء، فمن عُرف داخل المسلمين بالعلم في العلوم البشرية لم يُعترض عليه، حتى وإن كان يهوديًا أو نصرانيًا من أهل الذمة، بل يؤخذ علمه النافع ويستفاد منه، فما كان هناك مجالٌ للاستغلال حتى ينفذ منها هؤلاء إلى مقاصدهم كما حدث في أوروبا، ولكن وجود مدارس علمانية له أهميته في مشروعاتهم؛ لأن ذلك يسمح بوجود المدرس اليهودي أو النصراني أو الملحد، ويسمح بوجود المنهج غير الإِسلامي، ثم يسمح بوجود تعليم غير إسلامي.
(1) نقلًا عن الماسونية ذلك العلم المجهول، د. صابر طعيمه ص 137 - 138.
(2)
انظر: المرجع السابق ص 138.
(3)
الماسونية ذلك العلم المجهول ص 138 - 139.
ولقد رأينا نموذج "المدرس الماسوني" الذي يتولى التدريس في مدرسة من أهم المدارس الحديثة في البلاد الإِسلامية في تلك المرحلة، ولكن النظام العلماني سيتولى فرضه جماعة ناشطة اخترقها الماسونيون إن لم يكونوا هم من أنشأها، وهي "تركيا الفتاة" التي يُذكِّرنا اسمها قطعًا بإيطاليا الفتاة إحدى التنظيمات الماسونية البارزة في أوروبا، ثم تحولها إلى "جمعية الاتحاد والترقي" وهي التي نجحت في إسقاط نظام الخلافة، ثم نجحت فيما بعد في فرض "تعليم علماني" وإقصاء قاسٍ لكل تعليم ديني عن مسرح الحياة، بعملية تصفية دنسة قام بها أعضاء تلك الجمعية، والتي ما زال أهل تركيا، بل البلاد التي كانت تحت الحكم العثماني يعانون من آثارها إلى اليوم.
سبق في الفصل الثالث شيء من تجارب الإصلاح والتحديث مع سلاطين شباب في الدولة العثمانية في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر التي أفرزت عهد التنظيمات، ومن ثم نخبة كبيرة من أبناء التنظيمات احتكت بأوروبا أو اطلعت على التطورات الحادثة فيها، وتأثرهم بالجو العام الغربي، ولاسيّما الثورة الفرنسية ونتائجها وكذا الحركة القومية الإيطالية التي قادها "ماتزيني"، ولأنه لابد من بداية حتى وإن خفيت تفاصيلها الخلفية فهي باجتماع ستة من الشباب العثماني المثقف ليخرجوا بفكرة تكوين جمعية سرية على نمط جمعية "إيطاليا الفتاة"(1)، وكان منهم الأديب والمفكر "نامق كامل" من أسرة عريقة وذو شهرة واسعة في تلك المرحلة، عمل في الترجمة والصحافة ولاسيّما جريدة "تصوير أفكار" المشهورة، ترجم كتب رواد التنوير الفرنسي وغيرهم مثل "روسو" و"مونتسكيو" وكذا "باكون" و"فلني" و"كوندرس"(2)، الذي ذهب فيما بعد إلى فرنسا ليكوّن مع غيره منظمة أسموها "جمعية العثمانيين الجدد" لتكون أول تنظيم "عثماني" معارض للسلطان ويدعو إلى إصلاحات جذرية لإيقاف انحطاط الدولة العثمانية (3).
وقد كان الرمز السياسي الداعم أو القائد للعثمانيين الجدد هو "مدحت
(1) انظر: الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط، د. علي الصلابي ص 500.
(2)
انظر: تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، جرجي زيدان 2/ 115 - 121.
(3)
انظر: تاريخ الدولة العثمانية. . . . ص 501.
باشا" الذي تولى مناصب كبيرة في الدولة العثمانية منها مقام الصدارة العظمى، والاثنان بحسب كلام "العظمة" من أبرز الأعضاء الترك في المحافل الماسونية "مدحت باشا صاحب الدستور العثماني ونامق كامل رائد العثمانيين الشباب" (1).
انتشرت أفكار العثمانيين الجدد أو الشباب أو تركيا الفتاة، وفي عام (1889 م) تأسست منظمة طلابية في المدرسة العسكرية الطبية في إستانبول، وكان مؤسسها متأثرًا بالمحافل الإيطالية أُسميت جمعية "الاتحاد العثماني" وسرى تأثيرها إلى مختلف المدارس العليا، ونلاحظ هنا أن النشاط داخل منطقة التعليم الحديث (2).
وقد كان "أحمد رضا بك" من القريبين لهذه الجمعية، وكان داخل إدارة التعليم حتى وصل إلى منصب مدير إدارة المعارف في منطقة بورصة، سافر إلى باريس وأعلن معارضته من هناك. وقد رأى أصحاب هذه الجمعيات أهمية توحيد نشاطهم تحت مسمى جديد هو "جمعية الاتحاد والترقي"، على أن يكون "أحمد رضا" هو الممثل للجناح المدني، وتغلغلت هذه الجمعية في الجيش والمدنيين، واستطاعت سنة (1908 م) بفرض نفسها على السلطان (3)، ومن تلك المرحلة بدأ حكم "الاتحاديين" إلى سنة (1920 م) عندما نُصب "كمال أتاتورك" رئيسًا للجمهورية التركية ليبدأ العهد "الكمالي" من (1920 - 1938 م)(4). ويهمنا الآن انقلاب (1908 م)؛ لأنه كان نقطة فاصلة اشترك فيها الماسون بفاعلية كبيرة لدرجة أن الحكومة البريطانية آنذاك عدّت أصحاب الانقلاب من الاتحاديين مجموعة من الماسون واليهود الذين شاركوا في مؤامرة لفرض مجموعة من الأفكار على الإمبراطورية (5)، وذلك أن الأقليات الدينية قد تم إعدادها جيدًا عبر الرعاية الغربية لها وأصبحت ذات قوة تمكنها من العمل بسهولة داخل الأمة المسلمة، وربما كان الشباب العثمانيون الجدد متحمسين للنهوض بالدولة، وربما
(1) انظر: العلمانية من منظور مختلف، د. نذير العظمة ص 96.
(2)
انظر: تاريخ الدولة العثمانية ص 503.
(3)
انظر: تاريخ الدولة العثمانية ص 503 - 504.
(4)
انظر: العرب والأتراك: الانبعاث والتحديث من العثمنة إلى العلمنة، د. سيار الجميل ص 101 - 115.
(5)
انظر: نشوء الشرق الأدنى الحديث. . . .، مالكلولم ص 206، وانظر: ص 105.
لو عرفوا موجهًا وقيادة إسلامية قوية لكان المسار مختلفًا. ولكن هذا الحماس قابله قيادات تغريبية خطيرة فتحت المجال لدخول الماسون واليهود وبقية الأقليات إلى هذا التجمع الناشئ، ومن ثم استغلاله بما يناسب أهدافهم، ويذكر الشوابكة أن اليهود وجدوا في الاتحاد والترقي منفذًا مناسبًا فتقربوا من أعضائها وهيؤوا لها سبل العمل بما وفروه لها من مال ومكان، بل تمكنوا من إيصال عناصر يهودية إلى عضويتها، وقد كان الكثير من اجتماعاتهم تتم في مقر المحافل الماسونية؛ لأنها كانت محمية بنظام الحماية فلا تتعرض لها الدولة (1).
وقد كتب الشيخ "محمَّد رشيد رضا" المصاحب لتلك المرحلة بعد أن كان متعاطفًا مع الاتحاديين، ثم انقلب عليهم عندما تكشّف له حالهم -فذكر أن الماسون قد تنفسوا بعد انقلاب (1908 م) وأسسوا شرقًا عثمانيًا (2)، أستاذه الأعظم وزير الداخلية "طلعت باشا"، وذكر أن زعماء الاتحاد والترقي أصحاب الانقلاب "هم من شيعة الماسون، وهم مجتهدون في نشرها بين رجال الحكومة وضباط الجيش"(3)، وقد ذكر أحد قادتهم أثر المساعدات المالية والمعنوية التي تلقوها من الجمعية الماسونية الإيطالية في نجاح الانقلاب.
وقد تأكد فيما بعد حقيقة الأثر الماسوني باعتراف قيادات مهمة في الاتحاد والترقي، بأنهم وقعوا تحت تأثير الماسونية والصهيونية، ومن ذلك حوار "أنور باشا" مع "جمال باشا" أن ذنبهم أنهم لم يعرفوا قدْر السلطان عبد الحميد وأنهم أصبحوا "آلة بيد الصهيونية، واستثمرتنا الماسونية العالمية، نحن بذلنا جهودنا للصهيونية، فهذا ذنبنا الحقيقي"، ويقول قائدهم العسكري:"لقد وقعنا في شرك اليهود، عندما نفذنا رغبات اليهود عن طريق الماسونيين لقاء صفيحتين من الليرات الذهبية"(4).
(1) انظر كتابه: حركة الجامعة الإِسلامية ص 308 - 309، وانظر: ص 110 - 111.
(2)
انظر كتابه: المؤامرة الكبرى على بلاد الشام. . . .، محمد الخالدي ص 75.
(3)
انظر: المرجع السابق، ص 103.
(4)
انظر: الدولة العثمانية. . . .، د. الصلابي ص 513، عن اليهود والدولة العثمانية، أحمد النعيمي ص 228 - 229، وانظر حول دور "تركيا الفتاة" و"جمعية الاتحاد والترقي": الدور السياسي ليهود الدونمة في تركيا ص 173 وما بعدها، حقيقة يهود الدونمة في تركيا ص 36 وما بعدها، تركيا اليهودية، د. سليمان المدني ص 119.
مكّن انقلاب (1908 م) للاتحاديين، ومن ثمّ لكل التيارات الخفية والعلنية التي كانت خلفها ومعها، وبدأت مرحلة حاسمة دولية خطيرة، وكان منها العاصفة الخطيرة التي وقعت في تركيا بعد انتصار تيار التغريب داخل الاتحاديين والدعوة إلى الطورانية أو القومية التركية على حساب الإِسلام، والعجيب أن المُنَظّرين الكبار لهذا الأمر كانوا من اليهود (1).
وتفترض هذه الحال الجديدة اقتلاع تركيا من الأمة الإِسلامية، وهنا يأتي دور القضاء على التعليم الإِسلامي، وتأسيس تعليم علماني يخدم الهدف الخطير في تأسيس مجتمع جديد غير مرتبط بالأمة الإِسلامية، وهذا سيكون من مهمة دولة "الاتحاديين"، ثم دولة "الكماليين"، والتي ستصبح نموذجًا يُتغنى به في كثير من البلدان الإِسلامية، وتتم المحاولات المختلفة إلى الاحتذاء به وتقليده، ليكون أول نموذج علماني يصل في تطرفه أحيانًا مراحل لم تصلها علمانية أوروبا، ويكون أول نموذج وطني كما يُقال؛ لأنه من وضع جمعية وطنية بخلاف التعليم في مصر وتونس والجزائر والهند المحتلة فهو من قبل الإِنجليز والفرنسيين، فإنه إن وجد تعليم علماني تغريبي فهو تحت الاحتلال، أما النموذج التركي فهو في الظاهر من وضع الوطنيين لا المستعمرين. وسيأتي حزب إسلامي بعد ما يقرب من ستين سنة "حزب النظام الوطني" ليكون من عناصر برنامجه حول التعليم "أن نظام التعليم في تركيا فاسد، وضعته شرذمة من الحاقدين، من الصليبيين واليهود، بشكل لا يناسب الأمة فهو يسقط من حسابه كل قيمة معنوية أو أخلاقية أو دينية، غايته فصل تركيا عن ماضيها الإِسلامي، وسلخها عن دينها وقيمها، وبهذه الطريقة يستطيعون أن يقتلوا الجيل ويدمروا البلاد، لقد مرَّت خمسون سنة، ونحن نسمع أن تركيا جزءٌ من أوروبة، وأن النهضة لابدّ أن تقوم على أنقاض الدين كما حصل في الغرب متناسين أن الإِسلام يختلف عن الكنيسة، ودولة القس. ."(2)، ففي هذه الشكوى نجد حجم ما فعله المتغربون المنتفعون من الماسونية في إفساد التعليم".
(1) حول دور اليهود في تأصيل الطورانية انظر: محمَّد رشيد رضا ودوره في الحياة الفكرية والسياسية، د. أحمد الشوابكة ص 201.
(2)
تاريخ الدولة العثمانية، الصلابي ص 534.
وقفة مع مشروع الانقلابيين في تركيا حول التعليم:
كان "أحمد رضا" من المشاركين في المحافل الماسونية، وكان مديرًا للمعارف، وفي الوقت نفسه متأثرًا بفيلسوف أوروبي بارز هو فيلسوف الوضعية في (13 هـ - 19 م)"كونت"، ومذهب "كونت" يقوم على أن تاريخ البشرية يمر بثلاث مراحل: دينية ثم ميتافيزيقية ثم علمية، ولذا يعتبر أحد فلاسفة العلم، وأحد دعاة الاكتفاء بالعلم وإلغاء الدين، وعند إقامة أحمد في باريس كتب كتابات يدافع فيها عن الإِسلام (1)، ولكنه تأثر في الوقت نفسه بـ"كونت" وربما كان لذلك آثاره في غلوه العلماني فيما بعد، فبعد الانقلاب (1908 م) كان أول رئيس، وفي ذلك يقول "رامزور" في كتابه "تركيا الفتاة وثورة 1908 م":"إن أحمد رضا باعتباره مؤيدًا طيبًا للفلسفة الوضعية، لم يكن مسلمًا صالحًا؛ لأن أوغست كونت -زعيم الفلسفة الوضعية- لم يكتف فقط بإعادة تنظيم العالم لأتباعه، بل وضع لهم أيضًا تعاليم خاصة بالدين؛ أي: أوجد لهم دينًا جديدًا تشبث به أحمد رضا ودافع عنه ودفع إليه"(2)، وذكر "شوابكة" بأنه رفض أن يلفظ كلمة "الله" المندرجة في القانون الأساسي عند أدائه اليمين القانوني في المجلس بتأثير مبادئه الوضعية المادية (3). فمثل هذا القيادي المهم وتحت تأثر تصوره حول العلم سيسعى قطعًا مع رفاقه إلى تحول ذلك التصور إلى مشروع، وقد استغرق منهم سنوات مع "الاتحاديين" و"الكماليين"، وقد كان "كمال أتاتورك" يرى (4)"أن الروح الإِسلامية تعوق المتقدم" الذي هو شعار جماعة "الاتحاد والترقي"، وقام بأعمال منها:
(1) انظر: أسس التقدم عند مفكري الإِسلام، فهمي جدعان ص 173، وأما "كونت" فقد سبق الحديث عنه في الفصلين الأولين.
(2)
حركة الجامعة الإِسلامية، أحمد شوابكة ص 309.
(3)
انظر: المرجع السابق ص 310 وهو الذي أدخل كلمة "الترقي" في اسم الجمعية (الاتحاد والترقي) تحت تأثير فكرة التقدم الكونتية، انظر: تاريخ الدولة العثمانية. . . .، الصلابي ص 504.
(4)
أنشأ حزب الشعب الجمهوري، الحزب الوحيد (1923 - 1950 م) كان ذا آيديولوجيا يراها د. علي مقلد (تركية طورانية ملحدة. فهو من جهة يشبه الحزب الراديكالي الاشتراكي في فرنسا من حيث معاداته للدين. وتبرز هذه الصفة بعنف في كل بلد كل مؤسساته قائمة على الدين. . . .)، انظر كلامه الحسن حول الطورانية: الموسوعة الفلسفية العربية 2/ 829 والشاهد في صفحة 837.
1 -
(1922 م) إعلان الجمهورية وإلغاء السلطنة.
2 -
(1344 هـ - 1924 م) إلغاء الخلافة والمشيخة ووزارتي الأوقاف والشؤون الشرعية والمدارس الدينية، وهذه بالذات يظهر فيها إلغاء العلم الشرعي وإلغاء وظائفه وإداراته.
3 -
(1925 م) إلغاء الصوفية وكل متعلقاتها وأغلقت المساجد ثم حدد عددها فيما بعد.
4 -
نفس السنة أراد فرض شخصية جديدة للمسلم التركي، فجاء قانون الأزياء والقبعة واتخاذ التقويم الغربي.
5 -
(1345 هـ - 1926 م) اتخاذ القانون المدني السويسري.
6 -
(1347 هـ - 1928 م) ألغى من الدستور عبارات تنفيذ الأحكام الشرعية، ودين الدولة الإِسلام، وتعديل شكل اليمين من الحلف بالله إلى الحلف بالشرف.
7 -
أهملت الحكومة التعليم الديني كليةً في المدارس الخاصة، ثم تمَّ إلغاؤه، وقُلل طلبة الشريعة في جامعة إستانبول ثم أغلقت (1352 هـ - 1933 م)(1).
وكما شكلت دولة محمَّد علي نموذجًا للتحديث في القرن الثالث عشر/ التاسع عشر، فقد شكلت دولة "الاتحاديين - الكماليين" نموذجًا جديدًا للمتغربين في القرن الرابع عشر/ العشرين في بلاد كثيرة من بلاد المسلمين، إلا أن الاستعمار الغربي كان له رأيه أيضًا في تلك البلاد، إذ أراد إدارتها إدارة مباشرة، حيث كان من نتائج الحرب العالمية الأولى إكمال تجزئة العالم الإِسلامي وإكمال اقتسام المناطق المهمة فيه بين قوى الاستعمار الغربية.
وقد شكلت تركيا الفتاة نموذجًا لغيرها، إما بالاسم نفسه أو تحت أسماء أخرى، بدأت السلسلة بإيطاليا الفتاة إلى تركيا الفتاة ومنها إلى "العربية الفتاة" و"مصر الفتاة" و"تونس الفتاة" و "الجزائر الفتاة"(2)، هكذا في قائمة من الفتيات
(1) انظر: محمَّد رشيد رضا. . . .، الشوابكة ص 208، وانظر: تاريخ الدولة العثمانية. . . .، الصلابي ص 525 - 527.
(2)
"تونس الفتاة" سنة (1907 م) و"الجزائر الفتاة" سنة (1912 م)، انظر: نشوء الشرق الأدنى الحديث. . . .، مالكولم ص 271.